إنّ كلمة "أسندَ عنه" من مشتقّات الأصل المركَّب من الحروف الثلاثة (س، ن، د)،
ولهذه المادّة في اللّغة وضع ومعنى، ولها أيضاً مغزى اصطلاحي وراء الأصل اللّغوي.
وقد انطوت هذه المادّة ومشتقّاتها على أهميّة نابعة من أهمّية ما يسمّى في علم
الحديث بالسند، فإنَّ لسند الحديث شأناً استقطب من العلماء جهوداً توازي ما يبذل في
سبيل متن الحديث، فقد اختصّ له علماء، فنّنوا حوله الفنون، من: دراية، ورجال،
وطبقات، وألّفوا في كلّ من هذه الفنون المؤلفات النافعة، ضبطوا لها القواعد، وجمعوا
منها الوارد والشارد.
وكان من بعد أثر السند المصطلح، في أصل اللّغة، أن أخذت مادّته وتصاريفها طريقاً في
كلمات اللغويّين، وموقعاً من كتب اللغة، فنجد ألفاظاً مثل: السند، الإسناد، المسند...
معروضة في المعاجم والقواميس اللغوية، بما لها من المعنى المصطلح عند علماء الحديث،
مع أنّ ذلك ليس من مهمّة اللغويّين.
ولعلّ الوجه الصحيح لهذا التصرّف، أنّ هذه الألفاظ تخطّت في العرف العام مجردّ
المعاني اللغوية، واتّخذت أوضاعاً ثانية لا مناص من ذكرها في عرض المعنى اللغوي، إن
لم ينحصر المعنى المفهوم بها، بعد أن لم يعد المعنى اللّغوي ملحوظاً بالمرّة.
فللوصول إلى ما تنطوي عليه كلمة "أسند عنه"، لا بدّ من الإحاطة بكلّ ما لمادّة "سند"
ومشتقّاتها من المعنى المصطلح، فنقول:
السند:
قال الزمخشري: سَندُ الجبل والوادي هو مرتفع من الأرض في قُبُله، والجمع أسناد...
ومن المجاز: حديث قويّ السند، والأسانيد قوائم الحديث.
والأسانيد جمع أسناد ـ بفتح الهمزة ـ الّذي هو جمع سند، والتعبير بالقوائم، بلحاظ
أنّ الحديث ـ والمراد هنا متنه فقط ـ إنّما يقوم على ما يسبقه من الرواة الناقلين
له، وأنّ بها تتميّز صحة المتون وعدم صحتها، وبها تعرف قيمة الحديث. ومن ذلك، يتّضح
أنّ المعنى اللغوي المذكور، لا يناسب أن يكون ملحوظاً في تسمية طريق المتن بـ "السند"،
بلحاظ أنّ الطريق هو أوّل ما يواجهه الإنسان من الحديث، فإنّ هذا المعنى لم يلحظ
فيه جهة القيام به والاعتماد عليه، ومع هذا، فإنّ السيوطي قد احتمله.
وقال الفيومي: السند ما استندت إليه من حائطٍ أو غيره. وقال ابن منظور: من المجاز
سيّد سند، وهو سندي أي معتمدي.
والمناسبة بين هذا المعنى والمعنى المصطلح، هي أنّ الحديث يستند إلى طريقه ويعتمد
عليه، فهو إنّما يكتسب القوّة والضعف منه، تبعاً لأحوال رواته، أو لخصوصيّات الطريق
من الاتصال والانقطاع.
وأما السند اصطلاحاً:
فهو طريق المتن، أو: مجموع سلسلة رواته حتّى ينتهي إلى المعصوم ، ولا يختصّ اسم
السند بالطريق المذكور فيه جميع رواته، فلو حُذف الطريق كلّه، فإنّما يكون سنده
محذوفاً، لا أنّه مرسل لا سند له، وكذا لو حذف بعضه، فإنّ إطلاق الاسم يشمل
المذكورين والمحذوفين، وهذا أمر مسلَّم عند أهل الخبرة.
فمن الغريب ما ذكره المحقّق الكلباسي من أنّه "لا يحضره إطلاق السند على المحذوفين،
وإن وقع إطلاق الطريق على المذكورين".
هذا، مع أنَّ التفريق بين كلمتي السند والطّريق بعيد عن التحقيق، وخاصة عند تعريف
السند بأنّه طريق المتن.
*الإسناد:
قال الجوهري: أسندَ الحديث رفعه، وقال صاحب التوضيح: الإسناد أن يقول حدّثنا فلان
عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ويقابل الإسناد الإرسال، وهو عدم الإسناد.
وقال الفيومي: أسندتُ الحديث إلى قائله، بالألف، رفعته إليه بذكر قائله، وقال
الأزهري: الإسناد في الحديث رفعه إلى قائله.
ومنه ما ورد عن أبي عبدالله الصّادق (عليه السلام)، قال: "قال أميرالمؤمنين (عليه
السلام): إذا حدّثتم بحديث، فأسندوه الى الذي حدّثكم، فإن كان حقاً فلكم، وإن كان
كذباً فعليه". وهذا الاستعمال حقيقة، إلّا إذا كان الإسناد بمعنى ذكر السند، كما
يقال: أسْنِدْ هذا الحديث، أي اذكر سنده، فهو مجاز، لأنَّ إطلاق السند على سلسلة
رجال الحديث مجاز، كما صرّح بذلك الزمخشري.
وقد يطلق الإسناد على السند، فيقال: إسناد هذا الحديث صحيح، وقد ورد في الحديث عن
مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عليّ بن الحسين، عن أبيه (رضي الله
عنه)، قال: "قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إذا كتبتم الحديث فاكتبوه
بإسناده، فإن يك حقّاً كنتم شركاء في الأجر، وإن يك باطلاً كان وزره عليه".
ووقع هذا في كلمات كثيرٍ من القدماء، منهم أبو غالب الزراريّ في رسالته، والشيخ
المفيد في أماليه، والشيخ الطوسي في الفهرست.
قال في شرح مقدمة المشكاة: تطلق كلمة السند على رجال الحديث الّذين قد رووه، ويجيء
الإسناد أيضاً بمعنى السند، وأحياناً بمعنى ذكر السند.
ونقل السيوطي عن ابن جماعة: أنَّ المحدّثين يستعملون السند والإسناد لشيء واحد.
وهذا الإطلاق ليس حقيقياً، فإنَّ الإسناد من باب الإفعال المتضمّن معنى التعدية
والنسبة، وهذا ليس موجوداً في واقع السند. نعم، يكون الإطلاق مجازاً، باعتبار أنّ
السند موصل إلى المتن، وموجب للسلوك إليه.
قال السيّد حسن الصّدر: وذلك من جهة أنَّ المتن إذا ورد، فلا بدّ له من طريق موصل
إلى قائله، فهذا الطريق له اعتباران:
فباعتبار كونه سنداً ومعتمداً ـ في الصحّة والضّعف مثلاً ـ يسمّى سنداً، وباعتبار
تضمّنه رفع الحديث إلى قائله يسمّى إسناداً.
ومعنى (رفعه) هو نسبته إلى قائله. قال الطيبي: السند إخبار عن طريق المتن، والإسناد
رفع الحديث وإيصاله إلى قائله.
والظاهر أنّ المراد هو نسبته مسنداً، أي بسند متّصل إلى قائله، كما يقال في الحديث
المتّصل السند إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أنّه حديث مرفوع، مقابل
المرسل والمقطوع والموقوف.
المُسْنَد:
هو لغةً: إمّا اسم مفعول من أَسْنَدَ، مثل أكرم إكراماً فهو مُكرِم وذاك مُكرَمٌ،
أو اسم آلة.
قال ابن منظور: وكلّ شيءٍ أَسندتَ إليه شيئاً فهو مُسْنَدٌ، وما يستند إليه يسمّى (مُسنداً)
و (مِسنداً) وجمعه (المساند).
وهو اصطلاحاً: يُطلق على قسم من الحديث، وعلى بعض الكتب:
*أمّا المُسْنَدُ من الحديث:
فهو ما اتّصل إسناده، حتى يُسند إلى النبي (صلّى الله عليه وآله)، ويقابله:
المُرْسَل والمنقطِع، وهو مالم يتّصل.
قال الخطيب البغدادي: وصفُهم الحديث بأنّه "مسند"، يريدون أنّ إسناده متّصل بين
راويه وبين من أسند عنه، إلّا أنّ أكثر استعمالهم هذه العبارة هو فيما أسند عن
النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، واتّصال الإسناد فيه أَن يكون كلّ واحد من
رواته سمعه ممَّن فوقه حتى ينتهي ذلك إلى آخره، وإنْ لم يُبيّن فيه السّماع، بل
اقتصر على العنعنة.
وقال السيد حسن الصدر: إن علمت سلسلته بأَجمعها، ولم يسقط منها أَحد من الرّواة،
بأن يكون كل واحداً أخذه ممن هو فوقه حتى وصل إلى منتهاه: فمسندٌ، ويقال له:
الموصول والمتّصل، وأَكثر ما يستعمل "المسند" فيما جاء عن النبي (صلّى الله عليه
وآله).
وإطلاق المسند على الحديث، إنْ كان باعتبار رفعه إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله،
كما هو الظاهر، وصرّح به جمع من اللّغويّين في معنى (أسند الحديث) كما مرّ ذكر
أقوالهم، فهو بصيغة اسم المفعول، وهو إطلاق حقيقيّ.
وإنْ كان باعتبار ذكر رواته متّصلين، فهو من باب إطلاق الإسناد على السّنَد نفسه،
فالحديث المُسْند، هو الحديث الذي ذُكر سنده، فهذا إطلاق مجازيّ، ولعلّ بالنظر إلى
هذا ذكر الزمخشري: أَنّ من المجاز قولهم حديث مسند.
وأما كونه مسنداً، باعتبار كونه آلةً للاستناد والاعتماد، فهو في الحديث اعتبار
بعيد، لأَنّه ليس كلّ حديث معتمداً كذلك.
*وأمّا الكتاب المسمّى بالمسند:
فقد قال الكتاني عنه: هي الكتب التي موضوعها جعل حديث كل صحابيّ على حِدة، صحيحاً
كان أَو حسناً أو ضعيفاً، مرتَّبين على حروف الهجاء في أسماء الصحابة، كما فعله غير
واحد، وهو أسهل تناولاً، أو على القبائل، أو السابقة في الإسلام، أو الشرافة
النسبيّة، أو غير ذلك.
وقال: وقد يُطلَق (المُسْنَدُ) عندهم على كتاب مرتَّب على الأبواب، أو الحروف أو
الكلمات، لا على الصحابة، لكون أحاديثه مسندةً ومرفوعةً أُسنِدَتْ ورُفعتْ إلى
النبي (صلّى الله عليه وآله).
ومن هذا الباب، ما أَلَّفه كثير من المحدّثين من المسانيد، حيث أَوردوا في كلّ منها
ما رواه أحد الأعلام المتأخِّرين عن عهد الصحابة، فجمعوا ما رواه ذلك العلم بشكل
متصل، وبطريق مسند إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، كما اُلِّفَ للأئمة مسانيد
بهذا الشّكل، وخاصةً لأئمّة أهل البيت (عليهم السلام). ومن خلال التتبُّع في كتب
الحديث، نجد أنّ تسمية المجموعات الحديثية المسندة إلى النبي (صلّى الله عليه وآله)
بطريق واحد من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) بـ "المسند" منسوباً إلى ذلك الإمام،
كمسند الحسن أو الحسين أو الباقر أو الصادق(ع)، كان حاصلاً في زمان الامام الصادق (عليه
السلام)، بل في زمان الباقر (عليه السلام) أيضاً.
ومن هنا، يمكننا القولُ بأنّ تاريخ تأليف الكتب على شكل "المسند"، يعود إلى أَواسط
القرن الثاني، بل إلى أوائل هذا القرن بالضبط، حيث توفي الإمام الباقر (عليه السلام)
سنة (١١٤) للهجرة، وكان في المؤلّفين للمسانيد، جمع من أَصحابه (عليه السلام).
وبهذا نُصَحِّحُ ما قيل في صدد تاريخ تأليف المسند من تحديده بأَواخر القرن الثاني،
أو نسبته إلى مُؤلِّفين متأخّرين وفاةً عن بداية القرن الثالث.
وأمّا تسمية الكتاب بالمسند، مضافاً إلى مؤلفه أو شيخه الذي يروي عنه، فليس بمجاز،
لأنّه اسم مفعول من "أَسْنَدَ الحديثَ"، إذا رفعه إلى النبي (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) حيث يرفع المؤلِّف أو الشيخُ الحديثَ بسندٍ متصلٍ إليه صلّى الله عليه وآله.
وأما أنّه يسمّى بالمسند باعتبار أنه يستند إليه في الحديث، فيكون اسم آلة، فهو
اعتبار بعيد، لما ذكرنا من أَنّ تلك المسانيد لم تؤلَّف على أساس احتوائها على
الحديث الصّحيح والموثوق كلّه.
نعم، يمكن أن يكون مشيراً الى قوّة المؤلّف والشيخ، باعتبار اتصال سنده إلى النبي (صلّى
الله عليه وآله) لا اعتبار حديثه، فالاعتبار الأول أولى بالقصد، فهو ـ إذاً ـ بمعنى
الحديث المرفوع إلى النبيّ(ص)، كما هو الملاحظ، من عادة المؤلّفين لما أَسموه
بالمسند.
*أسند عنه:
قد استعمل الشيخ الطوسي هذه الكلمة في كتاب رجاله، في ترجمة العديد من الرواة، ولم
يستعملها غيره إلّا تبعاً له، وقد وقع علما الرّجال والدراية في ارتباك غريب في
لفظها ومعناها:
فمن حيث عدد من وقعت في ترجمته من الرّواة، حصرهم بعض بمائة وسبعة وستين مورداً.
وقال السيّد الخوئي: إنّهم قليلون، يبلغ عددهم مائة ونيّف وستين مورداً.
وقال السيّد الصدر: إنّهم خمس وثلاثمائة، لا غير، من أصحاب الصادق.
بينما نجد الموصوفين بهذه الكلمة في كتاب "رجال الطوسي"، يبلغ 341 شخصاً، منهم شخصٌ
(واحد) من أصحاب الباقر والصادق(ع)، ومنهم (٣٣٠) من أصحاب الصادق (عليه السلام)،
و(اثنان) من أصحاب الكاظم (عليه السلام)، و(سبعة) من أصحاب الرّضا (عليه السلام)،
ومنهم شخص (واحد) من أصحاب الهادي (عليه السلام.(
وهذا يقتضي أن لا يكون ذكر الوصف مختصّاً بالرواة من أصحاب الصّادق (عليه السلام).
لكن البعض زعم ذلك، وأكّد عليه آخر، وأصرّ ثالث على ذلك، مستنداً إلى أنّ الكتب
الرجالية الناقلة عن رجال الشيخ الطوسي، لم تنقل الوصف المذكور مع غير أصحاب الصادق
(عليه السلام)، بل لم يترجم لبعض الموصوفين من غير أصحاب الصادق (عليه السلام) أصلاً،
وبالتالي، فهو يخطِّئ النسخة المطبوعة في النجف، لإيرادها الوصف مع أسماء من أصحاب
الأئمّة غير الصادق (عليهم السلام)، لكن هذا الالتزام غير مستقيم.
• مجلة تراثنا، السنة الأولى، العدد الثالث.