كتابات
29/08/2018

الأديان دعوة إلى الله وخدمة للإنسان

الأديان دعوة إلى الله وخدمة للإنسان

نحمدك اللّهمّ ونشكرك، ربّنا، إله إبراهيم وإسماعيل، إله موسى وعيسى ومحمد، رب المستضعفين، وإله الخلق أجمعين.

الحمد لله الذي يؤمّن الخائفين، وينجّي الصالحين، ويرفع المستضعفين، ويضع المستكبرين، ويهلك ملوكًا ويستخلف آخرين. والحمد لله قاصم الجبارين، مبير الظالمين، مدرك الهاربين، نكال الطاغين، صريخ المستصرخين.

نحمدك اللّهمّ ربنا على أن وفّقتنا بعنايتك، وجمعتنا بهدايتك، ووحَّدت قلوبنا بمحبّتك ورحمتك. وها نحن نجتمع بين يديك في بيت من بيوتك، وفي أوقات الصيام من أجلك. قلوبنا تهفو إليك، وعقولنا تستمدّ النور والهداية منك، معتبرين أنك دعوتنا إلى أن نسير جنبًا إلى جنب في خدمة خلقك، وأن نلتقي على كلمةٍ سواء لأجل سعادة خليفتك. فإلى بابك اتجهنا، وفي محرابك صلينا.

اجتمعنا من أجل الإنسان الذي كانت من أجله الأديان، وكانت واحدة آنذاك، يبشّر بعضها ببعض، ويصدّق أحدها الآخر، فأخرج الله الناس بها من الظلمات إلى النور، بعد أن أنقذهم بها من الخلافات الكثيرة الساحقة والمفرِّقة، وعلّمهم السلوك في سبيل السلام.

كانت الأديان واحدة، حيث كانت في خدمة الهدف الواحد دعوةً إلى الله وخدمةً للإنسان، وهما وجهان لحقيقة واحدة. ثم اختلفت عندما اتجهت إلى خدمة نفسها أيضًا، ثم تعاظم اهتمامها بنفسها حتى كادت أن تنسى الغاية، فتعاظم الخلاف واشتدّ، فازدادت محنة الإنسان وآلامه.

كانت الأديان واحدة تهدف إلى غاية واحدة، حرب على آلهة الأرض والطغاة، ونصرة للمستضعفين والمضطهدين، وهما أيضًا وجهان لحقيقة واحدة. ولما انتصرت الأديان وانتصر معها المستضعفون، وجدوا أن الطغاة غيّروا اللّبوس وسبقوهم إلى المكاسب، وأنهم بدأوا يحكمون باسم الأديان ويحملون سيفها؛ فكانت المحنة المتعاظمة للمضطهدين، وكانت محنة الأديان والخلافات فيما بينها، ولا خلاف إلا في مصالح المستغلين.

كانت الأديان واحدة، لأنّ البدء الذي هو الله واحد، والهدف الذي هو الإنسان واحد، والمسير الذي هو هذا الكون واحد. وعندما نسينا الهدف وابتعدنا عن خدمة الإنسان، نسِيَنا الله وابتعد عنّا، فأصبحنا فرقًا وطرائق قددًا، وأُلقي بأسنا بيننا، فاختلفنا، ووزّعنا الكون الواحد، وخدمنا المصالح الخاصة، وعبدنا آلهة من دون الله، وسحقنا الإنسان فتمزق.

والآن نعود إلى الطريق، نعود إلى الإنسان ليعود الله إلينا؛ نعود إلى الإنسان المعذَّب لكي ننجو من عذاب الله. نلتقي على الإنسان المستضعف المسحوق والممزق لكي نلتقي في كل شيء، ولكي نلتقي في الله فتكون الأديان واحدة.

و﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ﴾[المائدة: 48].

أجد نفسي واعظًا ومتّعظًا، قائلًا ومستمعًا، أقول بلساني وأستمع بجناني، يشهد لنا التاريخ، فنستمع ثم نشهد له فيستمع. يشهد التاريخ للبنان، بلد اللقاء، بلد الإنسان، وطن المضطهدين ومأمن الخائفين. وفي هذه الأجواء، وفي هذا الأفق السامي، نتمكن من أن نستمع إلى النداءات الأصيلة السماوية، لأننا اقتربنا من الينابيع.

ها هو السيد له المجد في محبته الغاضبة يصرخ: لا! لا يجتمع حبّ الله مع كره الإنسان؛ فيدوّي صوته في الضمائر، فيرتفع صوت آخر لنبي الرّحمة: ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانًا وجاره جائع.

ويتفاعل الصوتان عبر الزمن، فإذا بالصدى يرتفع على لسان الحبر الأعظم، وبمناسبة الصيام أيضًا، فيقول: إن المسيح والفقير شخص واحد. بل وفي رسالته الشهيرة "ترقي الشعوب"، يغضب لكرامة الإنسان، ويقول كالمسيح في الهيكل: عظيمة كانت التجربة، بأن تدفع بالعنف مثل تلك المُذِلات للكرامة الإنسانيّة. ويقول: أحطّ إنسانية هي الأنظمة الغاشمة، تنجم عن استغلال حق الملك والسلطان، عن امتصاص العمال حقوق العمال وجور المعاهدات.

هل يختلف هذا الصوت الطاهر عما ورد في الأثر الإسلامي الثابت عن الهدف: أنا الله عند المنكسرة قلوبهم. أنا كنت عند المريض عندما عدته، وعند الفقير عندما ساعدته، ومع المحتاج عندما سعيت لقضاء حاجته؟

أما عن الوسيلة، فقد فقد اعتبر كل سعي لإقامة الحقّ، وكل جهد لنصرة المظلوم جهادًا في سبيله، وصلاة في محرابه، وهو الكفيل بالنصر.

خلال هذه الشهادات، نعود إلى إنساننا لنبحث عن القوى التي تسحق، وعن القوى التي تفرّق؛ الإنسان، هذا العطاء الإلهي، هذا المخلوق الذي خُلق على صورة خالقه في الصفات، خليفة الله في الأرض. الإنسان هذا، أساس الوجود، وبداية المجتمع، والغاية منه، والمحرك للتاريخ. الإنسان هذا، يعادل ويساوي مجموعة طاقاته، لا لما التقى عليه الفلسفة والفيزياء في قرننا هذا من المبادلة، وإمكانية التحول بين المادة، كل مادة، والطاقة. بل لما تؤكّده الأديان والتجارب العلمية: ﴿أن ليس للإنسان إلا ما سعى﴾[النجم: 39]، وأن الأعمال تخلد، وأن الإنسان عدا إشعاعه في مختلف الآفاق لا يساوي شيئًا. لذلك، فبقدر ما صنّا طاقات الإنسان ونمّيناها، بقدر ما كرّمناه وخلّدناه.

وإذا كان الإيمان، ببعده السماوي، يعطي الإنسان اللانهائية في الإحساس، واللانهائية في الطموح، وإذا كان الإيمان، ببعده السماوي، يحفظ للإنسان الأمل الدائم، عندما تسقط الأسباب، ويزيل عنه القلق، وينسق بينه وبين بني نوعه من جهة، وبينه وبين الموجودات كلها من جهة أخرى؛ إذا كان الإيمان، بهذا البعد، يعطي الإنسان هذا الجلال وهذا الجمال، فإن الإيمان ببعده الآخر يسعى لصيانة الإنسان وحفظه، ويفرض المحافظة عليه، ويؤكد عدم وجود الإيمان دون الالتزام بخدمة الإنسان.

إن طاقات الإنسان كلّها، وطاقات كل إنسان يجب صيانتها وتنميتها، ومن أجل ذلك، نجد مبدأ الاستكمال سارٍ منذ أيام الرسالات الأولى إلى هذه الرسالة المباركة الصادرة عن الأب الأقدس، حيث ورد فيها: لكي يكون ترقيًا أصيلًا، ينبغي أن يكون كاملًا، أي أن يقوِّم كلّ إنسان والإنسان كلّه.

لذلك، فإننا نجد أيضًا أن السرقة من باب المثل، حرّمت في الوصايا، حيث كانت اغتصابًا لطاقات الإنسان ولنتائج تلك الطاقات، وها هي اليوم تظهر بصورة الاستثمار والاحتكار، فبحجة التقدم الصناعي، أو عن طريق الحاجات المصطنعة التي تُفرض على الإنسان من خلال وسائل الإنتاج، عندما يشعر باشتهاء كاذب، فيضطر إلى المزيد من الاستهلاك.

فالحاجات اليوم، ليست نابعة من ذات الإنسان، وإنما اصطُنعت اصطناعًا بواسطة الإعلام التابع لوسائل الإنتاج.

وهكذا، يفرض كل يوم حاجة جديدة أو تطورًا لحاجة جديدة على الإنسان، فيستدر كافة طاقاته، ويحوِّل الكثيرة منها دون أن يكون له الاختيار في صرفها في الطريق التي يريدها. هكذا، نشاهد أيضًا تطوّرًا عميقًا في مختلف القوى التي تصدّ طاقات الإنسان، فتحطمها أو تفرّقها، والقوى هذه تبقى في أساسها رغم تفاوت الصّور وكثرة التطوّر.

لقد حارب الدين، مثلًا، الكذب والنفاق، وحارب أيضًا الغرور والكبرياء، وعندما نلاحظ الأساس، نجد مدى تأثير هذه الصفات على طاقات الفرد والجماعة. الكذب يزيّف الحقائق والطاقات المعدَّة للمبادلة بين بني الإنسان، تلك الطاقات التي ينمو الإنسان بإعطائها، وبأخذ بديل منها، هذه الطاقات المعدَّة الكذب يزيّفها، فتصبح مجهولة منحرفة، فتتشوّه المبادلات، وتتعطل الطاقات.

أما الغرور والكبرياء، فإنهما يجمّدان الإنسان، لأن الإنسان يشعر معهما بأنه وصل درجة الاكتفاء، فيمتنع المغرور عن الأخذ، وبالتالي عن التكامل، ويمتنع الناس من جهة أخرى عن الأخذ منه والتكامل بواسطته، فلا أخذ ولا عطاء، إنه موت الطاقات، إنه موت طاقات الإنسان. وكذلك الصفات الرديفة للكذب أو الغرور.

الحرية مثلًا، وهي المناخ الملائم لنموّ طاقات الإنسان وبروز مواهبه عند توفير الفرص، هذه الحرية كانت تتعرض دائمًا للاعتداء وكانت تُغتصب من قبل الآخرين بحجج متنوعة، وبما أنها المناخ المناسب لتنمية كفاءات الإنسان وطاقاته ومواهبه، فكأن الحرية هي أمّ الطاقات، وكانت المعارك وكان الصراع المرير. عندما تُسلب الحرية من الإنسان، تخضع طاقات الفرد وطاقات الجماعة للحجم الذي يقدمه الغاصب للحرية، الحجم الذي يقدّمه للإنسان فيتقزّم الفرد، وتتقزم الجماعة. وعندما يرفض الإنسان هذا التحجيم، ويحاول ونحاول معه بمقتضى إيماننا الحدّ من طغيان هذه القوة المفرِّقة والساحقة، فإنما يدافع إنساننا وندافع معه عن طاقات الإنسان وكراماته، دون فرق بين الصيغة التي يأخذها هذا التحجيم عبر الزمن الطويل.

فمن الاستبداد إلى الاستعمار، ومن الإقطاع إلى الإرهاب الفكري، وادعاء الوصاية على الناس واتهامهم بأنهم لا يفهمون. ومن الاستعمار الجديد، إلى فرض المواقف على الأفراد والشعوب، بضغط اقتصادي أو ثقافي أو فكري. ومن سياسة الإهمال وإبعاد الفرص عن الناس، بعض الناس، وعن المناطق، بعض المناطق، منها إلى التجهيل، حتى منع الصحة عن الناس وفرص التحرك والتنمية... صوَرٌ وأشكال لسلب الحريات ولتحطيم الطاقات.

والمال، هذا الصنم الأكبر، هذا الذي يعتبره السيد المسيح مانعًا لدخول ملكوت السماء أكثر من حجم الإبل عندما تحاول إدخاله في خرم الإبرة. المال هذا فتنة، فهو عندما يوضع بحدّه وبقدره في موضعه نعمة ورحمة؛ ولكنه عندما يصبح الهدف، فيُعبد من دون الله، ويصبح قدس الأقداس للإنسان، يتحرك لأجله ويدور في فلكه،-المال هذا- بدأ ينمو على حساب الحاجات الأخرى للفرد وللجماعة، فيصبح قوّة ساحقة أو مفرِّقة لما يمكّنه تأثيره العميق في حياة الناس، فالكبير يبلع الصغير.

وكذلك جميع الحاجات الإنسانية عندما تنمو على حساب حاجات أخرى في الإنسان، تلك التي نسميها بالشهوات، فكلّ حاجة دافع ومحرِّك، بل وقود لتحرك الإنسان في الحياة، ولكن عندما تنمو هذه الحاجة على حساب حاجات أخرى في الإنسان تشكّل كارثة. وهذا هو سبب المسؤولية الكبرى عن المُلك والمال والجاه والنفوذ وسائر الإمكانات البشرية.

والحقيقة، أن إبعاد الإيمان الذي يجعل الربط بين الله وبين الإنسان في حضور دائم، إبعاد الإيمان عن كونه قاعدة للحضارة الحديثة، جعلها معرضة لهذا الاختلال. وعندما نستعرض تاريخ هذه الحضارة، نشعر بأن الإنسان الذي عاش الحضارة الحديثة في كلّ فترة وأخرى، بدأ ينمو في اتجاهه على حساب الاتجاهات الأخرى. فالسياسة والإدارة والسوق والعمران، لأنها كانت غير معتمِدة على القاعدة الإيمانية، تنسقها وتجعلها معتدلة وفي خدمة الجميع، لا تسحق ولا تفرق؛ لأنها لم تكن مبنية على القاعدة الإيمانية، بدأت كل حاجة تنمو في فترة من الزمن، فكانت الإدارة والسياسة والسوق والعمران، تحوّلت إلى الاستعمار وإلى الحروب وإلى التفتيش عن الأسواق الجديدة، وإلى فترة السلام المسلّح؛ فجعلت حياة الإنسانية كلها منتابة بين الحروب الساخنة والباردة، وبين فترة تضميد الجراح والسّلام المسلّح.

كما أن حب الذات، وهو وقود الكمال للإنسان ومحقق الطموح للإنسان، هذا الأمر الجيّد الذي يمكن أن يخدم الإنسان، عندما ينمو في الفرد، فيصبح عبادة الذات، حب الذات عندما يتحوّل إلى عبادة الذات تبدأ المشكلة. فالتصادم والتمييز العنصري واحتقار الآخرين، والصراع المرير من أصغر خلايا المجتمع إلى المجتمع الدولي، صراع متفاوت الحلقات، محور الدوائر واحد والدوائر تتفاوت.

هذا الصراع الذي اعتبروه جزءًا أساسًا من التكوين، جاء نتيجة لنموّ حبّ الذات، وتحوّل حب الذات إلى عبادة الذات. وكذلك عندما تتحوّل الأنانية إلى الجماعة. فالجماعة التي تكوَّنت لخدمة الإنسان، وهو الموجود المدني الجماعي بطبعه، وهو الموجود ذو البعدين الشخصي والجماعي، الأنانية عندما تتحوّل إلى الجماعة، والجماعة تصبح أنانيّة موسعة لديها. وهنا تقع المشكلة في أطر مختلفة، فمن الأنانية الذاتية، إلى الأنانية العائلية التي عانى شرورها الإنسان، إلى القبلية الطاغية التي أصبحت نظامًا ذا آثار ونتائج، إلى الطائفية التي حوّلت بأنانيتها السماء إلى الأرض، وأفرغت محتوى الدين ـ¬ والمذهب ـ¬ من سموّه ورفقه وربطه وتسامحه. هذه الطائفية التي تاجرت بالقيم، فأخذت منها ثمنًا متفاوتًا، إلى الوطنية الأنانية. فالوطنية أيضًا، رغم كونها أشرف الحاجات، عندما تتحوّل إلى الوطنية العنصرية، حتى يكاد يحس المرء بأنه يعبد وطنه من دون الله، عند ذلك، يسمح لنفسه بأن يبني مجد وطنه على أنقاض أوطان الآخرين، وأن يصنع حضارته على تدمير ودمار حضارة الآخرين، ويرفع مستوى شعبه على حساب إفقار الشعوب الأخرى، إلى القومية النازية التي أحرقت العالم أكثر من مرة.

هذه الأمور أنانيات موسعة، عبدناها فتحولت إلى نكال ودمار؛ بينما أن حب الذات والبرّ بالأهل وحبّ العشيرة وحبّ الوطن والانتماء القومي نزعات خيّرة في حياة الإنسان، إذا بقيت في مستواها. وعند ذلك، بإمكاننا أن نلقي ضوءًا على العنوان المختار لهذه المحاضرة: "الإنسان في حاجاته وكفاءاته".

والمجتمع الذي يحتضن هذا الإنسان، يجب أن يكون منسقًا ككلّ، والفرد يجب أن يكون منسجمًا كالفرد. فكلّما تجاوز من حاجات الإنسان على حساب بقية حاجاته أصبح وبالًا؛ وكلّما نما الفرد أو حاجات الفرد على حساب بقيّة الأفراد أصبح وبالًا، وكلما نمت جماعة أو نمت حاجات الجماعة، فئة بديل فئة، أصبحت وبالًا ومصيبة. فالاعتدال، وهو الذي يحصل بالتحسس، يبلغ الإنسان درجة يشعر بأن ألم الآخرين ألمه، وهذا الذي يدعو إليه الصيام. هذا الاعتدال هو الضمانة لسلامة النموّ المنسق لدى الفرد، ولسلامة النموّ المنسق لدى الجماعة...

* من عظة الصّوم التي ألقاها الإمام الصدر في كاتدرائية مار لويس اللاتينية للآباء الكبوشيين في بيروت ، بتاريخ 18/2/1975.

نحمدك اللّهمّ ونشكرك، ربّنا، إله إبراهيم وإسماعيل، إله موسى وعيسى ومحمد، رب المستضعفين، وإله الخلق أجمعين.

الحمد لله الذي يؤمّن الخائفين، وينجّي الصالحين، ويرفع المستضعفين، ويضع المستكبرين، ويهلك ملوكًا ويستخلف آخرين. والحمد لله قاصم الجبارين، مبير الظالمين، مدرك الهاربين، نكال الطاغين، صريخ المستصرخين.

نحمدك اللّهمّ ربنا على أن وفّقتنا بعنايتك، وجمعتنا بهدايتك، ووحَّدت قلوبنا بمحبّتك ورحمتك. وها نحن نجتمع بين يديك في بيت من بيوتك، وفي أوقات الصيام من أجلك. قلوبنا تهفو إليك، وعقولنا تستمدّ النور والهداية منك، معتبرين أنك دعوتنا إلى أن نسير جنبًا إلى جنب في خدمة خلقك، وأن نلتقي على كلمةٍ سواء لأجل سعادة خليفتك. فإلى بابك اتجهنا، وفي محرابك صلينا.

اجتمعنا من أجل الإنسان الذي كانت من أجله الأديان، وكانت واحدة آنذاك، يبشّر بعضها ببعض، ويصدّق أحدها الآخر، فأخرج الله الناس بها من الظلمات إلى النور، بعد أن أنقذهم بها من الخلافات الكثيرة الساحقة والمفرِّقة، وعلّمهم السلوك في سبيل السلام.

كانت الأديان واحدة، حيث كانت في خدمة الهدف الواحد دعوةً إلى الله وخدمةً للإنسان، وهما وجهان لحقيقة واحدة. ثم اختلفت عندما اتجهت إلى خدمة نفسها أيضًا، ثم تعاظم اهتمامها بنفسها حتى كادت أن تنسى الغاية، فتعاظم الخلاف واشتدّ، فازدادت محنة الإنسان وآلامه.

كانت الأديان واحدة تهدف إلى غاية واحدة، حرب على آلهة الأرض والطغاة، ونصرة للمستضعفين والمضطهدين، وهما أيضًا وجهان لحقيقة واحدة. ولما انتصرت الأديان وانتصر معها المستضعفون، وجدوا أن الطغاة غيّروا اللّبوس وسبقوهم إلى المكاسب، وأنهم بدأوا يحكمون باسم الأديان ويحملون سيفها؛ فكانت المحنة المتعاظمة للمضطهدين، وكانت محنة الأديان والخلافات فيما بينها، ولا خلاف إلا في مصالح المستغلين.

كانت الأديان واحدة، لأنّ البدء الذي هو الله واحد، والهدف الذي هو الإنسان واحد، والمسير الذي هو هذا الكون واحد. وعندما نسينا الهدف وابتعدنا عن خدمة الإنسان، نسِيَنا الله وابتعد عنّا، فأصبحنا فرقًا وطرائق قددًا، وأُلقي بأسنا بيننا، فاختلفنا، ووزّعنا الكون الواحد، وخدمنا المصالح الخاصة، وعبدنا آلهة من دون الله، وسحقنا الإنسان فتمزق.

والآن نعود إلى الطريق، نعود إلى الإنسان ليعود الله إلينا؛ نعود إلى الإنسان المعذَّب لكي ننجو من عذاب الله. نلتقي على الإنسان المستضعف المسحوق والممزق لكي نلتقي في كل شيء، ولكي نلتقي في الله فتكون الأديان واحدة.

و﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ﴾[المائدة: 48].

أجد نفسي واعظًا ومتّعظًا، قائلًا ومستمعًا، أقول بلساني وأستمع بجناني، يشهد لنا التاريخ، فنستمع ثم نشهد له فيستمع. يشهد التاريخ للبنان، بلد اللقاء، بلد الإنسان، وطن المضطهدين ومأمن الخائفين. وفي هذه الأجواء، وفي هذا الأفق السامي، نتمكن من أن نستمع إلى النداءات الأصيلة السماوية، لأننا اقتربنا من الينابيع.

ها هو السيد له المجد في محبته الغاضبة يصرخ: لا! لا يجتمع حبّ الله مع كره الإنسان؛ فيدوّي صوته في الضمائر، فيرتفع صوت آخر لنبي الرّحمة: ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانًا وجاره جائع.

ويتفاعل الصوتان عبر الزمن، فإذا بالصدى يرتفع على لسان الحبر الأعظم، وبمناسبة الصيام أيضًا، فيقول: إن المسيح والفقير شخص واحد. بل وفي رسالته الشهيرة "ترقي الشعوب"، يغضب لكرامة الإنسان، ويقول كالمسيح في الهيكل: عظيمة كانت التجربة، بأن تدفع بالعنف مثل تلك المُذِلات للكرامة الإنسانيّة. ويقول: أحطّ إنسانية هي الأنظمة الغاشمة، تنجم عن استغلال حق الملك والسلطان، عن امتصاص العمال حقوق العمال وجور المعاهدات.

هل يختلف هذا الصوت الطاهر عما ورد في الأثر الإسلامي الثابت عن الهدف: أنا الله عند المنكسرة قلوبهم. أنا كنت عند المريض عندما عدته، وعند الفقير عندما ساعدته، ومع المحتاج عندما سعيت لقضاء حاجته؟

أما عن الوسيلة، فقد فقد اعتبر كل سعي لإقامة الحقّ، وكل جهد لنصرة المظلوم جهادًا في سبيله، وصلاة في محرابه، وهو الكفيل بالنصر.

خلال هذه الشهادات، نعود إلى إنساننا لنبحث عن القوى التي تسحق، وعن القوى التي تفرّق؛ الإنسان، هذا العطاء الإلهي، هذا المخلوق الذي خُلق على صورة خالقه في الصفات، خليفة الله في الأرض. الإنسان هذا، أساس الوجود، وبداية المجتمع، والغاية منه، والمحرك للتاريخ. الإنسان هذا، يعادل ويساوي مجموعة طاقاته، لا لما التقى عليه الفلسفة والفيزياء في قرننا هذا من المبادلة، وإمكانية التحول بين المادة، كل مادة، والطاقة. بل لما تؤكّده الأديان والتجارب العلمية: ﴿أن ليس للإنسان إلا ما سعى﴾[النجم: 39]، وأن الأعمال تخلد، وأن الإنسان عدا إشعاعه في مختلف الآفاق لا يساوي شيئًا. لذلك، فبقدر ما صنّا طاقات الإنسان ونمّيناها، بقدر ما كرّمناه وخلّدناه.

وإذا كان الإيمان، ببعده السماوي، يعطي الإنسان اللانهائية في الإحساس، واللانهائية في الطموح، وإذا كان الإيمان، ببعده السماوي، يحفظ للإنسان الأمل الدائم، عندما تسقط الأسباب، ويزيل عنه القلق، وينسق بينه وبين بني نوعه من جهة، وبينه وبين الموجودات كلها من جهة أخرى؛ إذا كان الإيمان، بهذا البعد، يعطي الإنسان هذا الجلال وهذا الجمال، فإن الإيمان ببعده الآخر يسعى لصيانة الإنسان وحفظه، ويفرض المحافظة عليه، ويؤكد عدم وجود الإيمان دون الالتزام بخدمة الإنسان.

إن طاقات الإنسان كلّها، وطاقات كل إنسان يجب صيانتها وتنميتها، ومن أجل ذلك، نجد مبدأ الاستكمال سارٍ منذ أيام الرسالات الأولى إلى هذه الرسالة المباركة الصادرة عن الأب الأقدس، حيث ورد فيها: لكي يكون ترقيًا أصيلًا، ينبغي أن يكون كاملًا، أي أن يقوِّم كلّ إنسان والإنسان كلّه.

لذلك، فإننا نجد أيضًا أن السرقة من باب المثل، حرّمت في الوصايا، حيث كانت اغتصابًا لطاقات الإنسان ولنتائج تلك الطاقات، وها هي اليوم تظهر بصورة الاستثمار والاحتكار، فبحجة التقدم الصناعي، أو عن طريق الحاجات المصطنعة التي تُفرض على الإنسان من خلال وسائل الإنتاج، عندما يشعر باشتهاء كاذب، فيضطر إلى المزيد من الاستهلاك.

فالحاجات اليوم، ليست نابعة من ذات الإنسان، وإنما اصطُنعت اصطناعًا بواسطة الإعلام التابع لوسائل الإنتاج.

وهكذا، يفرض كل يوم حاجة جديدة أو تطورًا لحاجة جديدة على الإنسان، فيستدر كافة طاقاته، ويحوِّل الكثيرة منها دون أن يكون له الاختيار في صرفها في الطريق التي يريدها. هكذا، نشاهد أيضًا تطوّرًا عميقًا في مختلف القوى التي تصدّ طاقات الإنسان، فتحطمها أو تفرّقها، والقوى هذه تبقى في أساسها رغم تفاوت الصّور وكثرة التطوّر.

لقد حارب الدين، مثلًا، الكذب والنفاق، وحارب أيضًا الغرور والكبرياء، وعندما نلاحظ الأساس، نجد مدى تأثير هذه الصفات على طاقات الفرد والجماعة. الكذب يزيّف الحقائق والطاقات المعدَّة للمبادلة بين بني الإنسان، تلك الطاقات التي ينمو الإنسان بإعطائها، وبأخذ بديل منها، هذه الطاقات المعدَّة الكذب يزيّفها، فتصبح مجهولة منحرفة، فتتشوّه المبادلات، وتتعطل الطاقات.

أما الغرور والكبرياء، فإنهما يجمّدان الإنسان، لأن الإنسان يشعر معهما بأنه وصل درجة الاكتفاء، فيمتنع المغرور عن الأخذ، وبالتالي عن التكامل، ويمتنع الناس من جهة أخرى عن الأخذ منه والتكامل بواسطته، فلا أخذ ولا عطاء، إنه موت الطاقات، إنه موت طاقات الإنسان. وكذلك الصفات الرديفة للكذب أو الغرور.

الحرية مثلًا، وهي المناخ الملائم لنموّ طاقات الإنسان وبروز مواهبه عند توفير الفرص، هذه الحرية كانت تتعرض دائمًا للاعتداء وكانت تُغتصب من قبل الآخرين بحجج متنوعة، وبما أنها المناخ المناسب لتنمية كفاءات الإنسان وطاقاته ومواهبه، فكأن الحرية هي أمّ الطاقات، وكانت المعارك وكان الصراع المرير. عندما تُسلب الحرية من الإنسان، تخضع طاقات الفرد وطاقات الجماعة للحجم الذي يقدمه الغاصب للحرية، الحجم الذي يقدّمه للإنسان فيتقزّم الفرد، وتتقزم الجماعة. وعندما يرفض الإنسان هذا التحجيم، ويحاول ونحاول معه بمقتضى إيماننا الحدّ من طغيان هذه القوة المفرِّقة والساحقة، فإنما يدافع إنساننا وندافع معه عن طاقات الإنسان وكراماته، دون فرق بين الصيغة التي يأخذها هذا التحجيم عبر الزمن الطويل.

فمن الاستبداد إلى الاستعمار، ومن الإقطاع إلى الإرهاب الفكري، وادعاء الوصاية على الناس واتهامهم بأنهم لا يفهمون. ومن الاستعمار الجديد، إلى فرض المواقف على الأفراد والشعوب، بضغط اقتصادي أو ثقافي أو فكري. ومن سياسة الإهمال وإبعاد الفرص عن الناس، بعض الناس، وعن المناطق، بعض المناطق، منها إلى التجهيل، حتى منع الصحة عن الناس وفرص التحرك والتنمية... صوَرٌ وأشكال لسلب الحريات ولتحطيم الطاقات.

والمال، هذا الصنم الأكبر، هذا الذي يعتبره السيد المسيح مانعًا لدخول ملكوت السماء أكثر من حجم الإبل عندما تحاول إدخاله في خرم الإبرة. المال هذا فتنة، فهو عندما يوضع بحدّه وبقدره في موضعه نعمة ورحمة؛ ولكنه عندما يصبح الهدف، فيُعبد من دون الله، ويصبح قدس الأقداس للإنسان، يتحرك لأجله ويدور في فلكه،-المال هذا- بدأ ينمو على حساب الحاجات الأخرى للفرد وللجماعة، فيصبح قوّة ساحقة أو مفرِّقة لما يمكّنه تأثيره العميق في حياة الناس، فالكبير يبلع الصغير.

وكذلك جميع الحاجات الإنسانية عندما تنمو على حساب حاجات أخرى في الإنسان، تلك التي نسميها بالشهوات، فكلّ حاجة دافع ومحرِّك، بل وقود لتحرك الإنسان في الحياة، ولكن عندما تنمو هذه الحاجة على حساب حاجات أخرى في الإنسان تشكّل كارثة. وهذا هو سبب المسؤولية الكبرى عن المُلك والمال والجاه والنفوذ وسائر الإمكانات البشرية.

والحقيقة، أن إبعاد الإيمان الذي يجعل الربط بين الله وبين الإنسان في حضور دائم، إبعاد الإيمان عن كونه قاعدة للحضارة الحديثة، جعلها معرضة لهذا الاختلال. وعندما نستعرض تاريخ هذه الحضارة، نشعر بأن الإنسان الذي عاش الحضارة الحديثة في كلّ فترة وأخرى، بدأ ينمو في اتجاهه على حساب الاتجاهات الأخرى. فالسياسة والإدارة والسوق والعمران، لأنها كانت غير معتمِدة على القاعدة الإيمانية، تنسقها وتجعلها معتدلة وفي خدمة الجميع، لا تسحق ولا تفرق؛ لأنها لم تكن مبنية على القاعدة الإيمانية، بدأت كل حاجة تنمو في فترة من الزمن، فكانت الإدارة والسياسة والسوق والعمران، تحوّلت إلى الاستعمار وإلى الحروب وإلى التفتيش عن الأسواق الجديدة، وإلى فترة السلام المسلّح؛ فجعلت حياة الإنسانية كلها منتابة بين الحروب الساخنة والباردة، وبين فترة تضميد الجراح والسّلام المسلّح.

كما أن حب الذات، وهو وقود الكمال للإنسان ومحقق الطموح للإنسان، هذا الأمر الجيّد الذي يمكن أن يخدم الإنسان، عندما ينمو في الفرد، فيصبح عبادة الذات، حب الذات عندما يتحوّل إلى عبادة الذات تبدأ المشكلة. فالتصادم والتمييز العنصري واحتقار الآخرين، والصراع المرير من أصغر خلايا المجتمع إلى المجتمع الدولي، صراع متفاوت الحلقات، محور الدوائر واحد والدوائر تتفاوت.

هذا الصراع الذي اعتبروه جزءًا أساسًا من التكوين، جاء نتيجة لنموّ حبّ الذات، وتحوّل حب الذات إلى عبادة الذات. وكذلك عندما تتحوّل الأنانية إلى الجماعة. فالجماعة التي تكوَّنت لخدمة الإنسان، وهو الموجود المدني الجماعي بطبعه، وهو الموجود ذو البعدين الشخصي والجماعي، الأنانية عندما تتحوّل إلى الجماعة، والجماعة تصبح أنانيّة موسعة لديها. وهنا تقع المشكلة في أطر مختلفة، فمن الأنانية الذاتية، إلى الأنانية العائلية التي عانى شرورها الإنسان، إلى القبلية الطاغية التي أصبحت نظامًا ذا آثار ونتائج، إلى الطائفية التي حوّلت بأنانيتها السماء إلى الأرض، وأفرغت محتوى الدين ـ¬ والمذهب ـ¬ من سموّه ورفقه وربطه وتسامحه. هذه الطائفية التي تاجرت بالقيم، فأخذت منها ثمنًا متفاوتًا، إلى الوطنية الأنانية. فالوطنية أيضًا، رغم كونها أشرف الحاجات، عندما تتحوّل إلى الوطنية العنصرية، حتى يكاد يحس المرء بأنه يعبد وطنه من دون الله، عند ذلك، يسمح لنفسه بأن يبني مجد وطنه على أنقاض أوطان الآخرين، وأن يصنع حضارته على تدمير ودمار حضارة الآخرين، ويرفع مستوى شعبه على حساب إفقار الشعوب الأخرى، إلى القومية النازية التي أحرقت العالم أكثر من مرة.

هذه الأمور أنانيات موسعة، عبدناها فتحولت إلى نكال ودمار؛ بينما أن حب الذات والبرّ بالأهل وحبّ العشيرة وحبّ الوطن والانتماء القومي نزعات خيّرة في حياة الإنسان، إذا بقيت في مستواها. وعند ذلك، بإمكاننا أن نلقي ضوءًا على العنوان المختار لهذه المحاضرة: "الإنسان في حاجاته وكفاءاته".

والمجتمع الذي يحتضن هذا الإنسان، يجب أن يكون منسقًا ككلّ، والفرد يجب أن يكون منسجمًا كالفرد. فكلّما تجاوز من حاجات الإنسان على حساب بقية حاجاته أصبح وبالًا؛ وكلّما نما الفرد أو حاجات الفرد على حساب بقيّة الأفراد أصبح وبالًا، وكلما نمت جماعة أو نمت حاجات الجماعة، فئة بديل فئة، أصبحت وبالًا ومصيبة. فالاعتدال، وهو الذي يحصل بالتحسس، يبلغ الإنسان درجة يشعر بأن ألم الآخرين ألمه، وهذا الذي يدعو إليه الصيام. هذا الاعتدال هو الضمانة لسلامة النموّ المنسق لدى الفرد، ولسلامة النموّ المنسق لدى الجماعة...

* من عظة الصّوم التي ألقاها الإمام الصدر في كاتدرائية مار لويس اللاتينية للآباء الكبوشيين في بيروت ، بتاريخ 18/2/1975.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية