كتابات
16/09/2018

لماذا يهتمّ الشيعة بذكرى الإمام الحسين(ع)؟!

لماذا يهتمّ الشيعة بذكرى الإمام الحسين(ع)؟!

حاولت في كلمتي هذه أن أجيب عن سؤال وجهه إليّ أكثر من واحد، وهو يجول في أفكار الكثيرين، وهذا هو:

لماذا يهتم الشيعة الإمامية هذا الاهتمام البالغ بذكرى الإمام الحسين (عليه السلام)، ويعلنون عليه الحداد، ويقيمون له التعازي عشرة أيام متوالية من كلّ عام؟ !

هل الحسين أعظم وأكرم على الناس من جدّه محمد وأبيه علي؟ !

وإذا كان الإمام الحسين إماماً، فإن جده خاتم الرسل والأنبياء، وأباه سيد الأئمة والأوصياء؟!

لماذا لا يحيي الشيعة ذكرى النبي والوصي، كما يفعلون ويذكرون الشهيد؟!

الجواب: إن الشيعة لا يفضّلون أحداً على الرسول الأعظم؛ إنه أشرف الخلق دون استثناء، ويفضّلون علياً على الناس باستثناء الرّسول، فقد ثبت عندهم أنّ علياً قال مفاخراً : «أنا خاصف النعل»، أي مصلح حذاء الرسول .

وقال: «كنا إذا حمى الوطيس، لذنا برسول الله». أجل، إنّ الشيعة الإمامية يعتقدون أن محمداً لا يوازيه عند الله ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل، وأنّ عليّاً خليفته من بعده وخير أهله وصحبه، وإقامة عزاء الحسين في كلّ عام، مظهر لهذه العقيدة وعمل مجسّم لها. وتتضح هذه الحقيقة بعد معرفة الأسرار التالية :

1 ـ تزوج الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو ابن 25 سنة، وقبض وله 63 سنة، وبقي بعد خديجة دون نساء وحده، ثم تزوّج الكثيرا، حتى جمع في آن واحد بين تسع، وامتدّت حياته الزوجية 37 عاماً، ورزق من خديجة ذكرين: القاسم وعبد الله، وهما الطيّب والطّاهر، ماتا صغيرين، كما رزق منها أربع بنات: زينب وأمّ كلثوم ورقيّة وفاطمة، أسلمن وتزوّجن وتوفّين في حياته ماعدا فاطمة. وولدت له ماريّة القبطيّة إبراهيم، وقد اختاره الله، وله من العمر سنة وعشرة أشهر وثمانية أيام، فانحصر نسل الرّسول بفاطمة وولديها من عليّ؛ الحسن والحسين، فهم أهله الذين ضمهم وإياه «كساء» واحد وبيت واحد .

وقد كان هؤلاء الأربعة (عليهم السلام) بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سلوة وعزاءً للمسلمين عن فقد نبيّهم، وإن عظم الخطب، لأن البيت الذي كان يأويه مازال مأهولاً بمن يجب، عامراً بأهله وأبنائه. وماتت فاطمة بعد أبيها بـ 72 يوماً، فبقي بيت النبي مزيناً ومضيئاً بعليّ والحسن والحسين، ثم قتل علي، فظلّ الحسنان، وكان حبّ المسلمين لهما لا يعادله شيء إلا الحبّ والإخلاص لنبيّهم الكريم، لأنهما البقية الباقية من نسله وأهل بيته، وبعد أن ذهب الحسن إلى ربّه، لم يبق من أهل البيت إلا الحسين، فتمثّلوا جميعاً في شخصه، فكان حبّ المسلمين له حباً لأهل البيت أجمعين، للنبيّ وعليّ وفاطمة والحسن والحسين، تماماً كما لو كان لك خمسة أولاد أعزاء، وفقدت منهم أربعة وبقي واحد، فإنه يأخذ سهم الجميع، وتوازي منزلته من قلبك منزلة الخمسة مجتمعين. وبهذا نجد تفسير قول سيدة الطفّ زينب، وهي تندب أخاها الحسين يوم العاشر من المحرَّم: «اليوم مات جدّي رسول الله، اليوم ماتت أمّي فاطمة، اليوم قتل أبي عليّ، اليوم سمّ أخي الحسن».

ونجد تفسير ما قاله الإمام الشهيد لجيش يزيد حين صمّموا على قتله: «فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم». وإذا أقفل بيت الرسول بقتل ولده الحسين، ولم يبق من أهله أحد، كان، والحال هذه، استشهاده استشهاداً لأهل البيت جميعاً، وإحياء ذكراه احياء لذكرى الجميع .

2 ـ إن واقعة الطف كانت ومازالت أبرز وأظهر مأساة عرفها التاريخ على الإطلاق، فلم تكن حرباً وقتالاً بالمعنى المعروف للحرب والقتال، وإنما كانت مجزرة دامية لآل الرسول، كباراً وصغاراً، فلقد أحاطت بهم كثرة غاشمة باغية من كلّ جانب، ومنعوا عنهم الطعام والشّراب أياماً، وحين أشرف آل الرسول على الهلاك من الجوع والعطش، انهالوا عليهم رمياً بالسهام ورشقاً بالحجارة وضرباً بالسيوف وطعناً بالرّماح، ولما سقط الجميع صرعى، قطعوا الرؤوس، ووطأوا الجثث بحوافر الخيل مقبلين ومدبرين، وبقروا بطون الأطفال، وأضرموا النار في الأخبية على النساء. فجدير بمن والى وشايع نبيّه الأعظم وأهل بيته أن يحزن لحزنهم، وأن ينسى كلّ فجيعة ورزية إلا ما حلّ بهم من الرزايا والفجائع، معدّداً مناقبهم ومساوئ أعدائهم مادام حياً .

حين نكت يزيد ثغر الحسين بالقضيب، قال له رسول قيصر المسيحي: «إن عندنا في بعض الجزائر حافر حمار عيسى (عليه السلام)، نحج إليه في كلّ عام من الأقطار، ونهدي إليه النذور، ونعظّمه كما تعظّمون كتبكم، فاشهد إنّكم على باطل» . لقد شاء الله وقدّر أن تكون حادثة كربلاء أعظم وأخلد من كلّ حادثة عرفها التاريخ، كما أنها أفجع وأوجع مأساة مرّت وتمرّ على وجه الأرض .

إن الحسين عند شيعته والعارفين بمقاصده وأهدافه، ليس اسماً لشخص فحسب، وإنما هو رمز عميق الدلالة، رمز للبطولة والإنسانية والأمل، وعنوان للدّين والشريعة، وللفداء والتضحية في سبيل الحقّ والعدالة، كما أنّ يزيد رمز للفساد والاستبداد والتهتك والرذيلة، فحيثما كان ويكون الفساد والفوضى وانتهاك الحرمات وإراقة الدماء البرئية والخلاعة والفجور وسلب الحقوق والطغيان، فثمّ اسم يزيد وأعمال يزيد، وحيثما كان ويكون الثبات والإخلاص والبسالة والفضيلة والشرف، فثمّ اسم الحسين ومبادئ الحسين، وهذا ما عناه الشاعر الشيعي من قوله :

كأنّ كلّ مكان كربلاء لدى عيني وكلّ زمان يوم عاشور

فإحياء بطولة الحسين وجهاده ومبدئه، إحياء للحق والخير والحرية، والتضحية من أجلها بالنّفس والأهل والأصحاب، واحتجاج صارخ على الحاكم الظالم وأعوانه، وعلى كلّ مسرف يعبث بمقدّرات الشعوب، ويغرق في لهوه وملذّاته، وينطلق مع شهواته ومآثمه، كيزيد وأعوان يزيد .

أراد ابن معاوية من التنكيل بأهل البيت أن يطفئ نور الله، وأن تكون الكلمة العليا للشرّ والظلم، وظنّ أنه انتصر، وتمّ له ما أراد بقتله الحسين، ولكن انتصاره كان زائفاً، وإلى أمد، فسرعان مازالت دولة الأمويّين، وظلت ذكريات كربلاء ومبادئ الحسين حيّةً إلى يوم يبعثون، وقد جابهت السيّدة زينب يزيد بهذه الحقيقة، حيث قالت من كلامٍ تخاطبه فيه :

» أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السّماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أن بنا على الله هواناً، وبك عليه كرامة؟!... فمهلاً مهلاً... فوالله ما فريت إلا جلدك، وما حززت إلا لحمك. ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، ولئن اتخذتنا مغنماً لتجدنّا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلا ما قدّمت يداك .. فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحوذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرخص عنك عارها، وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد؟».

وصدقت نبوءة السيّدة العظيمة، فقد سقط يزيد وخلفاء يزيد الواحد بعد الآخر، وانهارت دولة الأمويّين بعد مصرع الحسين بنصف قرن، وظلّ المسلمون يلعنون يزيد ويحتفلون بذكرى الإمام الشّهيد يوم قتله ويوم مولده من كلّ عام .

فهذه مصر تحتشد فيها الحشود، وتنصب السّرادقات، وترتفع دقات الدفوف وإيقاع الطبول، وتمتلئ بالبهجة أصوات المطربين والمنشدين لمولد الإمام ومولد أخته بطلة كربلاء. فليس الشيعة وحدهم يهتمون ويحتفلون بذكرى الحسين، بل المسلمون عرباً وعجماً في كلّ مكان، وإذا اختلفت الأساليب وتعدّدت المظاهر، فالجوهر واحد. قرأت في العدد الثاني من مجلة «الغد» المصرية، تاريخ فبراير/شباط سنة 1959، كلمة بعنوان «مولد السيدة وأعياد الأمة العربية»، جاء فيها :

«خلال أعظم معركة في سبيل العقيدة، شهدها التاريخ القديم لأمّة العرب، برزت شخصيّة السيدة زينب «رئيسة الديوان»، كما نسميها نحن أبناء مصر، بطلة باسلة مؤمنة شجاعة، حتى إن يزيد بن معاوية لم يجرؤ على مناقشتها عندما ساقوها إليه، ورفضت أن تبايعه، ولعنته كما لعنت كلّ الذين يغدرون ويطعنون المؤمنين في ظهورهم! من أجل ذلك، نحن في مصر وفي كلّ الوطن العربيّ، نؤمن ببطولة السيّدة زينب، كما نؤمن بذلك البطل الخالد «الحسين بن عليّ» أبي الشهداء جميعاً.. نؤمن بأمثال هؤلاء العظام، ونحتفل بمولدهم، ونرقص ونغني ونطرب وننشد الأغاني حول أضرحتهم، وذلك لأنّنا نحبّهم، ولا أحد يستطيع أن يزيل من قلوبنا الحبّ الصّادق لقائد البطولة الخارقة.. وقد نحيا ونمتلئ بالأمل، فنعمل ونكافح، لأنّ مثل هذا الرمز يضيء لنا الطريق، ويشحننا بالرغبات الطيّبة والإيمان بالشرف... ونحن لا نبالغ إذا اعتبرنا مولد السيّدة زينب ومولد الحسين من الأعياد القوميّة لأمّة العرب».

لقد نظر هذا الكاتب بعين الواقع، ونطق بلسان الحقّ، فإن ظروفنا الماضية والحاضرة تجعل هذه الأعياد أمراً لا مفر منه، لأنها تذكّرنا بالبطولة والنضال من أجل الحريّة، مثلنا الأعلى، وتدفع بنا إلى البحث والتّنقيب عن الحاكم المثالي الذي يعمل لوطنه وأمّته.

لقد مضى على قتل الحسين 1318 عاماً، ومازال الشيعة يتذكّرون ويذكرون هذا الماضي البعيد ويمجّدونه، ليستخلصوا منه روح الثّورة على الظلم .

نحن الشيعة ثوريون بعقيدتنا وتعاليمنا، نتفاءل بالثورات التحررية، ونستبشر بها، ونحسّ بعطف عميق نحوها ونحو شهدائها، فإذا كرّمنا الحسينَ، فإنما نكرّمه بصفته الباعث الأكبر للثّورات، والمعلّم الأوّل للثائرين من أجل الحقّ والمساواة. نحن لا نعبد الأفراد، بل نقدّس المبادئ، لأننا مسلمون قبل كلّ شيء .

والحسين يمثّل مبادئ جدّه الرسول خير تمثيل، ومن أجله، قتل هو وأهله وأصحابه وسبيت نساؤه وأطفاله، ومن أجلها يفرح المسلمون السنّة يوم مولد الحسين، فيصفّقون ويرقصون ويغنّون، لأنّه اليوم الذي ابتهج فيه نبيّ الرّحمة والعدالة، ويحزن المسلمون الشيعة يوم قتله، فيبكون ويندبون ويلبسون ثوب الحداد، لأنّه يوم حزن وكآبة عليه وعلى جميع المسلمين، وينشد الشيعة يوم العاشر من المحرّم مع الشريف الرضي :

لو رسول الله يحيا بعده قعد اليوم عليه للعز

يفرح أولئك بالمولد، ويحزن هؤلاء للمقتل، وهدف الجميع واحد، هو الطاعة والولاء والتقرّب إلى الله وخاتم الأنبياء، وكلاً وعد الله الحسنى.

*مجلة "رسالة الإسلام"، العدد 43.

حاولت في كلمتي هذه أن أجيب عن سؤال وجهه إليّ أكثر من واحد، وهو يجول في أفكار الكثيرين، وهذا هو:

لماذا يهتم الشيعة الإمامية هذا الاهتمام البالغ بذكرى الإمام الحسين (عليه السلام)، ويعلنون عليه الحداد، ويقيمون له التعازي عشرة أيام متوالية من كلّ عام؟ !

هل الحسين أعظم وأكرم على الناس من جدّه محمد وأبيه علي؟ !

وإذا كان الإمام الحسين إماماً، فإن جده خاتم الرسل والأنبياء، وأباه سيد الأئمة والأوصياء؟!

لماذا لا يحيي الشيعة ذكرى النبي والوصي، كما يفعلون ويذكرون الشهيد؟!

الجواب: إن الشيعة لا يفضّلون أحداً على الرسول الأعظم؛ إنه أشرف الخلق دون استثناء، ويفضّلون علياً على الناس باستثناء الرّسول، فقد ثبت عندهم أنّ علياً قال مفاخراً : «أنا خاصف النعل»، أي مصلح حذاء الرسول .

وقال: «كنا إذا حمى الوطيس، لذنا برسول الله». أجل، إنّ الشيعة الإمامية يعتقدون أن محمداً لا يوازيه عند الله ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل، وأنّ عليّاً خليفته من بعده وخير أهله وصحبه، وإقامة عزاء الحسين في كلّ عام، مظهر لهذه العقيدة وعمل مجسّم لها. وتتضح هذه الحقيقة بعد معرفة الأسرار التالية :

1 ـ تزوج الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو ابن 25 سنة، وقبض وله 63 سنة، وبقي بعد خديجة دون نساء وحده، ثم تزوّج الكثيرا، حتى جمع في آن واحد بين تسع، وامتدّت حياته الزوجية 37 عاماً، ورزق من خديجة ذكرين: القاسم وعبد الله، وهما الطيّب والطّاهر، ماتا صغيرين، كما رزق منها أربع بنات: زينب وأمّ كلثوم ورقيّة وفاطمة، أسلمن وتزوّجن وتوفّين في حياته ماعدا فاطمة. وولدت له ماريّة القبطيّة إبراهيم، وقد اختاره الله، وله من العمر سنة وعشرة أشهر وثمانية أيام، فانحصر نسل الرّسول بفاطمة وولديها من عليّ؛ الحسن والحسين، فهم أهله الذين ضمهم وإياه «كساء» واحد وبيت واحد .

وقد كان هؤلاء الأربعة (عليهم السلام) بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سلوة وعزاءً للمسلمين عن فقد نبيّهم، وإن عظم الخطب، لأن البيت الذي كان يأويه مازال مأهولاً بمن يجب، عامراً بأهله وأبنائه. وماتت فاطمة بعد أبيها بـ 72 يوماً، فبقي بيت النبي مزيناً ومضيئاً بعليّ والحسن والحسين، ثم قتل علي، فظلّ الحسنان، وكان حبّ المسلمين لهما لا يعادله شيء إلا الحبّ والإخلاص لنبيّهم الكريم، لأنهما البقية الباقية من نسله وأهل بيته، وبعد أن ذهب الحسن إلى ربّه، لم يبق من أهل البيت إلا الحسين، فتمثّلوا جميعاً في شخصه، فكان حبّ المسلمين له حباً لأهل البيت أجمعين، للنبيّ وعليّ وفاطمة والحسن والحسين، تماماً كما لو كان لك خمسة أولاد أعزاء، وفقدت منهم أربعة وبقي واحد، فإنه يأخذ سهم الجميع، وتوازي منزلته من قلبك منزلة الخمسة مجتمعين. وبهذا نجد تفسير قول سيدة الطفّ زينب، وهي تندب أخاها الحسين يوم العاشر من المحرَّم: «اليوم مات جدّي رسول الله، اليوم ماتت أمّي فاطمة، اليوم قتل أبي عليّ، اليوم سمّ أخي الحسن».

ونجد تفسير ما قاله الإمام الشهيد لجيش يزيد حين صمّموا على قتله: «فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم». وإذا أقفل بيت الرسول بقتل ولده الحسين، ولم يبق من أهله أحد، كان، والحال هذه، استشهاده استشهاداً لأهل البيت جميعاً، وإحياء ذكراه احياء لذكرى الجميع .

2 ـ إن واقعة الطف كانت ومازالت أبرز وأظهر مأساة عرفها التاريخ على الإطلاق، فلم تكن حرباً وقتالاً بالمعنى المعروف للحرب والقتال، وإنما كانت مجزرة دامية لآل الرسول، كباراً وصغاراً، فلقد أحاطت بهم كثرة غاشمة باغية من كلّ جانب، ومنعوا عنهم الطعام والشّراب أياماً، وحين أشرف آل الرسول على الهلاك من الجوع والعطش، انهالوا عليهم رمياً بالسهام ورشقاً بالحجارة وضرباً بالسيوف وطعناً بالرّماح، ولما سقط الجميع صرعى، قطعوا الرؤوس، ووطأوا الجثث بحوافر الخيل مقبلين ومدبرين، وبقروا بطون الأطفال، وأضرموا النار في الأخبية على النساء. فجدير بمن والى وشايع نبيّه الأعظم وأهل بيته أن يحزن لحزنهم، وأن ينسى كلّ فجيعة ورزية إلا ما حلّ بهم من الرزايا والفجائع، معدّداً مناقبهم ومساوئ أعدائهم مادام حياً .

حين نكت يزيد ثغر الحسين بالقضيب، قال له رسول قيصر المسيحي: «إن عندنا في بعض الجزائر حافر حمار عيسى (عليه السلام)، نحج إليه في كلّ عام من الأقطار، ونهدي إليه النذور، ونعظّمه كما تعظّمون كتبكم، فاشهد إنّكم على باطل» . لقد شاء الله وقدّر أن تكون حادثة كربلاء أعظم وأخلد من كلّ حادثة عرفها التاريخ، كما أنها أفجع وأوجع مأساة مرّت وتمرّ على وجه الأرض .

إن الحسين عند شيعته والعارفين بمقاصده وأهدافه، ليس اسماً لشخص فحسب، وإنما هو رمز عميق الدلالة، رمز للبطولة والإنسانية والأمل، وعنوان للدّين والشريعة، وللفداء والتضحية في سبيل الحقّ والعدالة، كما أنّ يزيد رمز للفساد والاستبداد والتهتك والرذيلة، فحيثما كان ويكون الفساد والفوضى وانتهاك الحرمات وإراقة الدماء البرئية والخلاعة والفجور وسلب الحقوق والطغيان، فثمّ اسم يزيد وأعمال يزيد، وحيثما كان ويكون الثبات والإخلاص والبسالة والفضيلة والشرف، فثمّ اسم الحسين ومبادئ الحسين، وهذا ما عناه الشاعر الشيعي من قوله :

كأنّ كلّ مكان كربلاء لدى عيني وكلّ زمان يوم عاشور

فإحياء بطولة الحسين وجهاده ومبدئه، إحياء للحق والخير والحرية، والتضحية من أجلها بالنّفس والأهل والأصحاب، واحتجاج صارخ على الحاكم الظالم وأعوانه، وعلى كلّ مسرف يعبث بمقدّرات الشعوب، ويغرق في لهوه وملذّاته، وينطلق مع شهواته ومآثمه، كيزيد وأعوان يزيد .

أراد ابن معاوية من التنكيل بأهل البيت أن يطفئ نور الله، وأن تكون الكلمة العليا للشرّ والظلم، وظنّ أنه انتصر، وتمّ له ما أراد بقتله الحسين، ولكن انتصاره كان زائفاً، وإلى أمد، فسرعان مازالت دولة الأمويّين، وظلت ذكريات كربلاء ومبادئ الحسين حيّةً إلى يوم يبعثون، وقد جابهت السيّدة زينب يزيد بهذه الحقيقة، حيث قالت من كلامٍ تخاطبه فيه :

» أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السّماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أن بنا على الله هواناً، وبك عليه كرامة؟!... فمهلاً مهلاً... فوالله ما فريت إلا جلدك، وما حززت إلا لحمك. ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، ولئن اتخذتنا مغنماً لتجدنّا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلا ما قدّمت يداك .. فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحوذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرخص عنك عارها، وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد؟».

وصدقت نبوءة السيّدة العظيمة، فقد سقط يزيد وخلفاء يزيد الواحد بعد الآخر، وانهارت دولة الأمويّين بعد مصرع الحسين بنصف قرن، وظلّ المسلمون يلعنون يزيد ويحتفلون بذكرى الإمام الشّهيد يوم قتله ويوم مولده من كلّ عام .

فهذه مصر تحتشد فيها الحشود، وتنصب السّرادقات، وترتفع دقات الدفوف وإيقاع الطبول، وتمتلئ بالبهجة أصوات المطربين والمنشدين لمولد الإمام ومولد أخته بطلة كربلاء. فليس الشيعة وحدهم يهتمون ويحتفلون بذكرى الحسين، بل المسلمون عرباً وعجماً في كلّ مكان، وإذا اختلفت الأساليب وتعدّدت المظاهر، فالجوهر واحد. قرأت في العدد الثاني من مجلة «الغد» المصرية، تاريخ فبراير/شباط سنة 1959، كلمة بعنوان «مولد السيدة وأعياد الأمة العربية»، جاء فيها :

«خلال أعظم معركة في سبيل العقيدة، شهدها التاريخ القديم لأمّة العرب، برزت شخصيّة السيدة زينب «رئيسة الديوان»، كما نسميها نحن أبناء مصر، بطلة باسلة مؤمنة شجاعة، حتى إن يزيد بن معاوية لم يجرؤ على مناقشتها عندما ساقوها إليه، ورفضت أن تبايعه، ولعنته كما لعنت كلّ الذين يغدرون ويطعنون المؤمنين في ظهورهم! من أجل ذلك، نحن في مصر وفي كلّ الوطن العربيّ، نؤمن ببطولة السيّدة زينب، كما نؤمن بذلك البطل الخالد «الحسين بن عليّ» أبي الشهداء جميعاً.. نؤمن بأمثال هؤلاء العظام، ونحتفل بمولدهم، ونرقص ونغني ونطرب وننشد الأغاني حول أضرحتهم، وذلك لأنّنا نحبّهم، ولا أحد يستطيع أن يزيل من قلوبنا الحبّ الصّادق لقائد البطولة الخارقة.. وقد نحيا ونمتلئ بالأمل، فنعمل ونكافح، لأنّ مثل هذا الرمز يضيء لنا الطريق، ويشحننا بالرغبات الطيّبة والإيمان بالشرف... ونحن لا نبالغ إذا اعتبرنا مولد السيّدة زينب ومولد الحسين من الأعياد القوميّة لأمّة العرب».

لقد نظر هذا الكاتب بعين الواقع، ونطق بلسان الحقّ، فإن ظروفنا الماضية والحاضرة تجعل هذه الأعياد أمراً لا مفر منه، لأنها تذكّرنا بالبطولة والنضال من أجل الحريّة، مثلنا الأعلى، وتدفع بنا إلى البحث والتّنقيب عن الحاكم المثالي الذي يعمل لوطنه وأمّته.

لقد مضى على قتل الحسين 1318 عاماً، ومازال الشيعة يتذكّرون ويذكرون هذا الماضي البعيد ويمجّدونه، ليستخلصوا منه روح الثّورة على الظلم .

نحن الشيعة ثوريون بعقيدتنا وتعاليمنا، نتفاءل بالثورات التحررية، ونستبشر بها، ونحسّ بعطف عميق نحوها ونحو شهدائها، فإذا كرّمنا الحسينَ، فإنما نكرّمه بصفته الباعث الأكبر للثّورات، والمعلّم الأوّل للثائرين من أجل الحقّ والمساواة. نحن لا نعبد الأفراد، بل نقدّس المبادئ، لأننا مسلمون قبل كلّ شيء .

والحسين يمثّل مبادئ جدّه الرسول خير تمثيل، ومن أجله، قتل هو وأهله وأصحابه وسبيت نساؤه وأطفاله، ومن أجلها يفرح المسلمون السنّة يوم مولد الحسين، فيصفّقون ويرقصون ويغنّون، لأنّه اليوم الذي ابتهج فيه نبيّ الرّحمة والعدالة، ويحزن المسلمون الشيعة يوم قتله، فيبكون ويندبون ويلبسون ثوب الحداد، لأنّه يوم حزن وكآبة عليه وعلى جميع المسلمين، وينشد الشيعة يوم العاشر من المحرّم مع الشريف الرضي :

لو رسول الله يحيا بعده قعد اليوم عليه للعز

يفرح أولئك بالمولد، ويحزن هؤلاء للمقتل، وهدف الجميع واحد، هو الطاعة والولاء والتقرّب إلى الله وخاتم الأنبياء، وكلاً وعد الله الحسنى.

*مجلة "رسالة الإسلام"، العدد 43.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية