الاجتهاد ضروريّ من أجل اكتشاف حكم الله تعالى في كلّ واقعة من الوقائع وأمر من الأمور التي تختصّ بحياة الناس وعلاقاتهم المختلفة مع أنفسهم وربّهم والآخرين والحياة من حولهم، هذه الضرورة تفرضها المعرفة في تبيان حكم الشّريعة ومقاصدها على مرور الزمن واختلاف العصور والحاجات والمتطلّبات، وبروز مستجدّات وإشكالات لا بدّ من مواكبتها. من هنا، كان الاجتهاد أيضاً مما تفرضه روح الشّريعة في استمرارها وحيويتها.
والمجتهد هو من يبذل وسعه المعرفي، ويسخّر أدواته ومناهجه العلمية من أجل الوصول برأيه إلى اكتشاف حكم الله تعالى، وهي عملية مستمرة من جيل إلى جيل. والسؤال: هل إن الاجتهاد يغيّر حكم الدين أم يكتشفه فقط؟ انطلاقاً من تساؤل البعض حول احتمال تغيير الاجتهاد لأحكام الدين في كلّ عصر.
يجيب العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض) بالنفي، في معرض ردّه على سؤال حول هل إن الاجتهاد يؤدّي إلى تغيير حكم الدين؟ مبيناً المسألة وحدودها، ضارباً بعض الأمثلة، قائلاً: "مبدأ الاجتهاد وأصوله ومنطلقاته لا يعبِّر عن التغيير في الدين، فإن المجتهد ـ باختصار ـ يكتشف حكم الدين ولا يغيّره، والإسلام له أحكام ثابتة لا تختلف ما اختلف الزمان والمكان، وتصحّ بحكمة الله وتشريعه لكلّ البشر إلى مدى الحياة، وله أحكام في أصل تشريعها ترتبط بظروفها، فإن تغيَّرت مواضيعها، تغيَّرت تلقائياً، لا لاختلاف الحكم، بل لاختلاف موضوعه.
هذا بشكل عام، إضافةً إلى وجود أحكام هي ليست وليدة نصوص واضحة، بل وليدة اجتهادات للفقهاء الذين يحاولون إصابة الحكم الواقعي، ثم يأتي فقهاء آخرون لهم آراء أخرى في ظلّ غياب الإمام المعصوم(ع) عن ساحة الواقع، فالعقوبات لها شروط في تطبيقها، ومسألة العبيد لم تعد واقعيّة، فإن الإسلام بحكمته أوصل الواقع إلى مرحلة انتفت معه العبودية، والربا محرَّم بنص القرآن الكريم، ولا يوجد من يخالف ذلك من علماء المسلمين، إلا ما يُختلف فيه من انطباق عنوانه على الأفراد الخارجيَّة من معاملات المصارف وغيرها، وهو ينطبق عليها، كالفائدة في القروض، في رأينا، وفرض الجزية له موارده وظروفه في ظلّ الدولة الإسلامية، وهذا غير واقعيّ الآن. مع ملاحظة أخرى، وهي أنّ هناك بديلاً عن الجزية، وهو العهد مع أتباع الديانات الأخرى. ومن جانب آخر، فإن تطور الواقع من خلال الأفكار الخاضعة لحضارات أخرى، لا يفرض الخضوع لها والابتعاد عن مفاهيمنا وشرائعنا التي هي أساس الحقيقة في عقيدتنا".[سؤال وجواب].
ويتابع فيما يتعلّق بموضوعات الأحكام:
"إنَّ مسألة تغيّر الحاجات، قد تختزن في داخلها تغيّر الموضوعات، فيتبدّل الحكم بتبدّل الموضوعات، وقد تفرض اختلاف الظروف والشروط التي تحيط بالموضوع، اختلاف بعض خصوصيات الحكم تبعاً لذلك، كما هو الشّأن في العناوين الأوليّة والعناوين الثانوية التي تختلف الأحكام باختلافها. وربما تكون المسألة أن تغيّر الحاجات لا يمثّل التغيير في العناوين الكبيرة للحكم الشرعي.
فضلاً عن أنّ هناك إمكانات كبيرة للاجتهاد في معالجة كثير من المشاكل والأوضاع المستحدثة لاستنباط أحكام شرعيّة، استناداً إلى المرونة الحيويّة للقواعد الاجتهادية، في ما توحي به النصوص المتنوّعة في مواجهة كلّ جديد.
وإذا كان بعض النصوص قد عالج مفردات الواقع الاقتصادي في المجتمع الرعوي والزراعي، فإنّ هناك قواعد عامّة تنفتح على المجتمع الصناعي في كلّ مفرداته، على مستوى العلاقات الاقتصادية، في قضايا الإنتاج والتوزيع، وهذا ما نلاحظه في حركة الاجتهاد الفقهي التي واكبت كلّ التطوّرات الأخيرة، فاستنبطت لكلّ واقعة حكماً شرعياً، فلا فراغ في الساحة الفقهية فيما يمكن أن يقف فيه المسلم على مسألة من المسائل".[الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل، ص 38].
ويلفت سماحته إلى مهمّات الاجتهاد المعاصر الضروريّة للتعرّف إلى خصوصيّة الموضوعات المستجدّة، ووضع الحلول العملانيَّة والمناسبة لها بوعي وحكمة، قائلاً:
"لعلَّ من أولى مهمّات حركة الاجتهاد المعاصر، أن تواجه النصوص في الكتاب والسنّة مواجهة مستقلّة واضحة، تنطلق من الفهم الواعي المستند إلى ثقافة علمية دقيقة واسعة في المجالات التي تتحرّك فيها القواعد اللغوية والأصولية، ومن التركيز على دراسة الأجواء العامّة التي انطلقت فيها.
ثم ملاحظة الظروف الموضوعيّة التي نعيشها، مما أحدث لنا أوضاعاً جديدة في العلاقات العامّة وفي أساليب الحياة، للتعرّف من خلال ذلك إلى طبيعة الموضوعات التي تتوفّر النصوص الشرعية الكفيلة بمنحها الحكم، ليعالجها معالجة واقعيّة، لأنّ الخطأ في فهم الموضوع يؤدّي بالتالي إلى الخطأ في طرح الحكم، وقد رأينا بعض المجتهدين الذين تحيّروا في الإفتاء في بعض الموضوعات، نظراً إلى عدم اطّلاعهم على طبيعة الموضوع". [م، ن، ص 94].
كم من مستجدّات وموضوعات معاصرة وحيوية تتّصل بالسياسة والاجتماع والمعرفة والدّين والثقافة والاقتصاد، بحاجة إلى مواكبة واعية وحكيمة ومسؤولة من قبل أهل المعرفة والاجتهاد، وإبراز روح الدين تجاهها بإخلاص ودقّة وأمانة، حفظاً للواقع، ورعاية لمصالح العباد، والتزاماً بهدى الله وسبيله!