كتابات
18/12/2018

منهج الدراسات الإسلامية بين السند والمتن

منهج الدراسات الإسلامية بين السند والمتن

من بين القضايا التي تلفت القارئ الواعي، في الكتب التي تدرس الإسلام في مبادئه وقيمه وشخصياته، هذا الارتباك العجيب والاختلاف الواضح في ما ينقل من روايات وحوادث، حتى لتأخذه الحيرة في ما يأخذ وفي ما يدع وهو بين خطّين متوازيين، فلا يستطيع الالتزام بالشّيء ونقيضه، فيعترف بعظمة إنسان ما وحقارته في وقت واحد، أو يؤمن بحرمة شيء وإباحته.

ارتباكات التاريخ

إنها حيرة الإنسان أمام ارتباكات التاريخ واختلاف المؤرخين، حين يريد أن يأخذ أو يدع، أن يؤمن بشيء أو يكفر به، أن يحدّد رأيه في إنسان أو مبدأ أو قضية. فماذا يصنع؟ وماذا يقبل؟ وماذا يرفض؟

إنَّ هذه الحيرة، وهذه المشكلة التي تشعر بها وأنت تقرأ التاريخ، هي المشكلة نفسها التي تشعر بها وتعيشهـا الآن وأنت تقرأ الصحف أو تستمع إلى المذياع، أو إلى الإشاعـات المتناقضة التي يتناقلها النّاس هنا وهناك في قضاياهم الحياتية اليومية، لتقف متسائلاً ـ بقلق وحيرة ـ ماذا تصدّق وماذا تكذّب؟

خطورة المشكلة

إنها مشكلة الإنسان منذ أن بدأ الكذب يأخذ مكانه إلى جانب الصدق، ولكنَّها قد تشتدّ وقد تضعف تبعاً لقيمة القضية التي يعرضها هذا الالتباس والارتباك.

فإذا كانت القضية ذات طابع ديني أو عقيدي أو تاريخي، يتصل اتصالاً وثيقاً بحياتنا ومصيرنا، تصبح المشكلة أقوى وأشدّ مما لو كانت القضيّة ذات طابع شخصي عادي.

ولذا، فإنك قد تغفر لإنسان يكذب عليك في قضيّة عاديّة ما لا تغفره له عندما يكذب عليك في قضية تتعلّق بمصيرك الاجتماعي أو الدّيني.. وقد نلمس هذا في بعض الآراء الفقهية التي اعتبرت الكذب على الله وعلى رسوله من بين الأمور التي قد تفطر الصائم دون غيره من أنواع الكذب الأخرى.

إنها مشكلة الباحثين عن الحقيقة، حين يصطدمون بها وسط ركام هائل من الأكاذيب والافتراءات والاختلافات.

المنهج القديم

وتنبّه الباحثون الأقدمون إلى هذه المشكلة، وعرّفوها، ووضعوا لها القواعد والحلول التي تيسّر للباحثين سبيل المعرفة والوصول إلى الحقيقة بالمقدار الممكن؛ فاشترطوا للعمل بالحديث الذي ينقله المحدّث، أو الرواية التي يرويها الراوي، شرطين أساسيّين، هما:

أ ـ صحته من حيث السند.

ب ـ صحته من حيث المتن، حسب التعبير العلمي.

ويريدون بالسند سلسلة الرواة التي تربط الحديث بمصدره الأساس، أمّا المتن، فيريدون به: النص الحرفي للحديث أو الرِّواية.

وعلى هذا الأساس، فهم لا يعتمدون على حديث، مهما كان موضوعه، ما لم يكن رجال السند معروفين بالوثاقة والصّدق.

فإذا كانوا مجهولين لديهم، أو كانوا معروفين بالوضع والكذب، أو لم يكونوا معروفين بالوثاقة، فإنَّ حديثهم يطرح في سلَّة المهملات، ما لم تقم بعض القرائن التي توجب الوثوق أو القطع بالصحة من جانب آخر، وهكذا وضعت قواعد الجرح والتعديل، والتصديق والتكذيب، والترجيح والإسقاط والتوقف في ما لا نملك ترجيحه أو إسقاطه. وهكذا نشأ (علم الرجال) و (علم الدراية).

وهذا ما يفسّر لنا المحافظة التامّة على ذكر أسانيد الأحاديث بطرق عديدة في بعض الكتب التاريخية والدينية، كتاريخ الطبري.

وقد بلغ اهتمامهم بذلك حداً عجيباً من الدقّة والحذر، حتى إنَّ بعض أعاظم المحدّثين، أخرج محدّثاً آخر من بلده، بحجّة أنه يروي عن الضعفاء. وقد يذكرون ـ من بين الأمثلة على هذه الدقّة ـ أنَّ بعض الرواة قصد شخصاً من المحدّثين ليأخذ منه الحديث ويروي عنه، فوجده يخدع شاته، فيوهمها أنّ بيده علفاً دون أن يكون في يده شيء، فرجع من حيث أتى مع بُعد المسافة التي قطعها، لأنه اعتبر ذلك تدليساً يتنافى ووثاقة الراوي.

ويسمع بعض الرواة أحاديث كثيرة عن أبيه ـ وكان من شيوخ المحدّثين ـ فلا يرويها عنه مباشرة، بل يلجأ إلى روايتها عنه بالواسطة ـ بسماعها من إخوته الذين هم أكبر منه سناً، ويعتذر عن ذلك بأنّه كان صغير السنّ عندما سمعها من والده، فلا يأمن على نفسه الخطأ والغفلة وعدم الضبط.

وكان بإمكان هذا المنهج العلمي في دراسة الحديث، أن يعطي ثماره الطيبة في جميع المجالات، لولا أنَّ الأقدمين اقتصروا في ممارسته على مجال الحديث والرِّواية في الفقه والشريعة، بشكل عامّ.

أمّا التاريخ، فلم يكلّفوا أنفسهم عناء البحث فيه وتحقيقه، ليصل إلى أيدينا بشكل أنظف وأنصع من الشّكل الذي هو فيه الآن. ولذا قلّت العناية، في أكثر الكتب التاريخيّة، بذكر الأسانيد بشكل متّصل، على العكس من كتب الحديث.

ذلك هو المنهج الذي اتّبعه الأقدمون في دراسة الحديث من ناحية السند، ولم يقتصروا على ذلك في قبول الحديث، بل اشترطوا لذلك ـ كما قدّمنا آنفاً ـ سلامة المتن من ناحية معناه ولغته، وموافقته لحكم العقل والشرع فيما إذا كان المضمون شرعياً.

فإذا تـمّ لهم ذلك كلّه من كلا الجانبين، أخذوا بالحديث وعملوا به، أمّا إذا فقدوا بعض تلك العناصر ـ أو جميعها ـ في الحديث، فلا بُدَّ لهم من رفضه وإلقائه في سلّة المهملات ـ كما نعبّر الآن ـ وبهذا كانت مهمة الباحث تتطلّب كثيراً من الجهد والمشقّة، والدقّة والحذر في ما يستند إليه من أحاديث، وفي ما يستدلّ به من أخبار.

المنهج الحديث

أمّا الباحثون المحدثون، فقد رفضوا هذا المنهج بشكل عام، وأغفلوا ناحية السند جانباً، فلم يعودوا يهتمون بتحقيق حال الراوي، أو معرفة صفة المؤرخ، بل وجّهوا نظرهم وتفكيرهم إلى تحقيق حال النصوص وتحليلها، والجوانب النفسية والاجتماعيّة، وملاحظة طبيعة الزمان والمكان.

فإذا كانت منسجمةً مع هذه الجوانب التي راعوها، أو القواعد التي وضعوها، فحسبها ذلك صحّةً وسلامةً، وإلاَّ كان سبيلها الإهمال.

وربما يلاحظ البعض جانب المصادر الأصلية للحديث، فيكتفي في وثاقة الحديث بوجوده في كتاب موثوق به من ناحية وثاقة مؤلفه.

تلك هي طبيعة بعض ملامح المنهج الحديث في دراسة النصوص التاريخية وغيرها، وذلك هو سبيل هؤلاء الباحثين فيما يكتبون.

ونحن لا نختلف معهم في ما سلكوا من سبيل، أو في ما ارتأوه من منهج، بل نوافقهم عليه إلى حدّ ما، ونسير معهم في الطريق نفسه، لأننا نرى فيه نهجاً سليماً في دراسة النصوص التاريخيّة وتحقيقها، فربما يكون أقرب الطرق إلى معرفة الحقيقة بعمق، من جميع جهاتها وملابساتها، في أفق مجرّد من هوامش الخرافات والأساطير.

وقد لمسنا في ما قرأناه من الدراسات الحديثة، ورأينا كيف شارك هذا المنهج في إزاحة الستار عن كثير من الحقائق المطمورة تحت أكداس الأساطير والخرافات والأغراض الشخصيّة والقبلية.

وربما يكون لهذا المنهج في البحث والتحليل، الدور الكبير في الفكرة التي أطلقها الدكتور طه حسين، في اعتبار (حديث عبد الله بن سبأ) أسطورة خرافيّة ابتدعها المؤرخون في ما ابتدعوا من شخصيات وأدوار، ليعهدوا إليها بالكشف عن كثير من الأسرار التي أحاطت ببعض القضايا التاريخيّة، في جوّ من الغموض، أو التي أريد لها أن تعيش في هذا الجوّ الغامض.

فقد لاحظ الدكتور طه حسين أنَّ الأحداث والأدوار التي نسبت إلى هذه الشخصية، لا تنسجم مع طبيعة الأشخاص والظروف التي رافقت تلك الفترة من حياة المسلمين، الأمر الذي يقوده إلى استنتاج الوضع والتلفيق في هذه الأحاديث: "وأكبر الظنّ كذلك أنَّ خصوم الشيعة أيام الأمويين والعباسيين، قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا، ليشكّكوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان وولاته من ناحية، وليشنّعوا على عليّ (ع) وشيعته من ناحية أخرى، فيردوا بعض أمور الشيعة إلى يهودي أسلم كيداً للمسلمين".

"فلنقف من هذا كلّه موقف التحفّظ والتحرّج والاحتياط، ولنكبر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهودياً وكانت أمّه سوداء، وكان هو يهودياً ثُمَّ أسلم، لا رغباً ولا رهباً، ولكن مكراً أو كيداً وخداعاً، ثُمَّ أتيح له من النجاح ما كان يبتغي، فحرَّض المسلمين على خليفتهم حتى قتلوه، وفرّقهم بعد ذلك أو قبل ذلك شيعاً وأحزاباً.

هذه كلّها أمور لا تستقيم للعقل، ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أن تقام عليها أمور التاريخ".

وهكذا ندرك قيمة هذا المنهج في دراسة التاريخ الإسلامي، كما ندرك قيمته في دراسة الأحاديث الإسلاميّة، ودوره في طرح كلّ حديث لا يتفق وموازين العقل، وطبيعة التشريع وقواعد النقد.

وربما كان لابن خلدون الأثر الكبير في تركيز المنهج في البحوث التاريخيّة، فقد فتح الطريق في (مقدّمته) للباحثين في تنقيح هذا المنهج وتحقيقه.

وقد يكون من المناسب لهذا الحديث ـ ونحن نعرض لهذا المنهج ـ أن ننقل بعض هذه اللّمحات التي ألمحنا إليها من (مقدّمة ابن خلدون).

"إنَّ الأخبار إذا اعتُمِد فيها على مجرّد النقل، ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلّة القدم والحيد عن جادة الصدق، وكثيراً ما وقع للمؤرّخين والمفسّرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرّد النقل غثّاً أو سميناً، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النّظر والبصيرة في الأخبار، فضلّوا عن الحقّ، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط".

المنهج المختار

ذلك هو منهج الأقدمين في الدراسة ومنهج المحدثين، فأيُّهما نختار في دراساتنا الإسلاميّة؟

وفي اعتقادنا، إنَّ منهج الأقدمين ـ من حيث المبدأ ـ هو المنهج المفضَّل في دراساتنا التي نريد أن نجري عليها. ونعني بكلمة "من حيث المبدأ"، طبيعة المنهج من الناحية العامّة، وهي رعاية السند والمتن، حسب تعبير القدامى.

أمّا تفاصيل هذا المنهج، فلا نجد ما يلزمنا باتباع طريقتهم فيها، لأنَّ مقاييسهم التي كانوا يعتبرونها أساساً للحكم على مضمون الحديث، من حيث انسجامه مع موازين النقد وأحكام العقل، وحقائق الأشياء، لم تعد مقبولةً لدينا جملةً وتفصيلاً، بفضل التطوّر الفكري والعلمي، وتبدّل النظر بالنّسبة إلى كثير من الأشياء في عالم الفكر والتاريخ.

ولهذا، فلا بأس باتباع الأساليب الحديثة في التّحقيق والتّدقيق، والنقد والمحاكمة، شريطة أن يكون منسجماً مع الروح الإسلاميّة والمقاييس الإسلامية للأشياء.

أمّا الذي يفرض علينا التزام هذا المنهج، فهو أنَّ المؤرخين والرواة لا يرتفعون فوق مستوى الشبهات، فهم أفراد من البشر، لهم ما للبشر من ميول وأفكار وطبائع مختلفة وصفات متباينة.

ومن الواضح أنَّ ذلك قد يفرض عليهم الانسجام مع طبائعهم وصفاتهم، تبعاً للضرورات المعاشية والنفسية والمذهبيّة والاجتماعية بشكل عام، فقد يقتضيهم الصدق في بعض الحالات، كما يقتضيهم الكذب في البعض الآخر.

وثمة ناحية أخرى، هي طبيعة التاريخ الإسلامي، وظروفه المختلفة، وطبيعة الأشخاص الذين عاشوا على مسرح هذا التاريخ وقادوا حركته، ومدى تأثيرهم في الأفراد الذين كتبوا هذا التاريخ، على أساس العرف الشائع في ذلك الحين، من اهتمام المؤرخين بقضايا الحكّام دون غيرهم من فئات الأمّة، ولك أن تتصوّر ـ من خلال ذلك ـ ما يفرضه هذا العرف، وهذا الوضع، من تملّق وطمع ورغبة ورهبة لذلك ولغيره، ما لا يتّسع له صدر هذا الحديث. لذلك نجد أنَّ من الضروريّ جداً أن نلتزم المنهج القديم في البحث، لأنه يجنّبنا كثيراً من المزالق الخطرة التي تقتضيها طبيعة ما قدّمناه.

ولن يستطيع المنهج الحديث، الذي يغفل أحوال الرواة جانباً، أن يجنّبنا ذلك، مادام بإمكان الكاذب أن يصوغ قصته أو حديثه بأسلوب يتناسب وطبيعة المجتمع والظروف التي يريد للقصة أو الحديث أن يعيش فيها. وقد ظهرت قيمة هذا المنهج الذي يعتمد التركيز على أحوال الرواة، في قضية البحث عن "عبد الله بن سبأ"، فقد استطاع أحد الباحثين الإسلاميين أن يرجع هذه القضية إلى المصدر الأمّ لجميع الكتب التاريخيّة، التي عرضت لهذا الإنسان ولرواياته، وتمكّن ـ بهذا المنهج ـ أن يكتشف الراوي الذي اخترع هذه الشخصيّة وهو (سيف بن عمر التميمي)، الذي يصفه أكثر علماء الرجال والحديث بأنَّه وضّاع كذّاب لا يُعتمَد على حديثه ولا يؤخذ بما ينفرد به.

إننا نعرض ذلك أمام الباحثين كضرورة حتمية، من أجل التخلّص من الفوضى التاريخيّة التي وقعنا فيها، والفوضى الفكرية التي نشأت من ذلك، نظراً إلى اعتماد كثير من قضايانا الفكرية والعقيدية على ما يرويه المؤرخون ويكتبه التاريخ.

*مقالة في مجلّة "الأضواء" النجف الأشرف ومنشورة في كتاب "قضايانا على ضوء الإسلام".

من بين القضايا التي تلفت القارئ الواعي، في الكتب التي تدرس الإسلام في مبادئه وقيمه وشخصياته، هذا الارتباك العجيب والاختلاف الواضح في ما ينقل من روايات وحوادث، حتى لتأخذه الحيرة في ما يأخذ وفي ما يدع وهو بين خطّين متوازيين، فلا يستطيع الالتزام بالشّيء ونقيضه، فيعترف بعظمة إنسان ما وحقارته في وقت واحد، أو يؤمن بحرمة شيء وإباحته.

ارتباكات التاريخ

إنها حيرة الإنسان أمام ارتباكات التاريخ واختلاف المؤرخين، حين يريد أن يأخذ أو يدع، أن يؤمن بشيء أو يكفر به، أن يحدّد رأيه في إنسان أو مبدأ أو قضية. فماذا يصنع؟ وماذا يقبل؟ وماذا يرفض؟

إنَّ هذه الحيرة، وهذه المشكلة التي تشعر بها وأنت تقرأ التاريخ، هي المشكلة نفسها التي تشعر بها وتعيشهـا الآن وأنت تقرأ الصحف أو تستمع إلى المذياع، أو إلى الإشاعـات المتناقضة التي يتناقلها النّاس هنا وهناك في قضاياهم الحياتية اليومية، لتقف متسائلاً ـ بقلق وحيرة ـ ماذا تصدّق وماذا تكذّب؟

خطورة المشكلة

إنها مشكلة الإنسان منذ أن بدأ الكذب يأخذ مكانه إلى جانب الصدق، ولكنَّها قد تشتدّ وقد تضعف تبعاً لقيمة القضية التي يعرضها هذا الالتباس والارتباك.

فإذا كانت القضية ذات طابع ديني أو عقيدي أو تاريخي، يتصل اتصالاً وثيقاً بحياتنا ومصيرنا، تصبح المشكلة أقوى وأشدّ مما لو كانت القضيّة ذات طابع شخصي عادي.

ولذا، فإنك قد تغفر لإنسان يكذب عليك في قضيّة عاديّة ما لا تغفره له عندما يكذب عليك في قضية تتعلّق بمصيرك الاجتماعي أو الدّيني.. وقد نلمس هذا في بعض الآراء الفقهية التي اعتبرت الكذب على الله وعلى رسوله من بين الأمور التي قد تفطر الصائم دون غيره من أنواع الكذب الأخرى.

إنها مشكلة الباحثين عن الحقيقة، حين يصطدمون بها وسط ركام هائل من الأكاذيب والافتراءات والاختلافات.

المنهج القديم

وتنبّه الباحثون الأقدمون إلى هذه المشكلة، وعرّفوها، ووضعوا لها القواعد والحلول التي تيسّر للباحثين سبيل المعرفة والوصول إلى الحقيقة بالمقدار الممكن؛ فاشترطوا للعمل بالحديث الذي ينقله المحدّث، أو الرواية التي يرويها الراوي، شرطين أساسيّين، هما:

أ ـ صحته من حيث السند.

ب ـ صحته من حيث المتن، حسب التعبير العلمي.

ويريدون بالسند سلسلة الرواة التي تربط الحديث بمصدره الأساس، أمّا المتن، فيريدون به: النص الحرفي للحديث أو الرِّواية.

وعلى هذا الأساس، فهم لا يعتمدون على حديث، مهما كان موضوعه، ما لم يكن رجال السند معروفين بالوثاقة والصّدق.

فإذا كانوا مجهولين لديهم، أو كانوا معروفين بالوضع والكذب، أو لم يكونوا معروفين بالوثاقة، فإنَّ حديثهم يطرح في سلَّة المهملات، ما لم تقم بعض القرائن التي توجب الوثوق أو القطع بالصحة من جانب آخر، وهكذا وضعت قواعد الجرح والتعديل، والتصديق والتكذيب، والترجيح والإسقاط والتوقف في ما لا نملك ترجيحه أو إسقاطه. وهكذا نشأ (علم الرجال) و (علم الدراية).

وهذا ما يفسّر لنا المحافظة التامّة على ذكر أسانيد الأحاديث بطرق عديدة في بعض الكتب التاريخية والدينية، كتاريخ الطبري.

وقد بلغ اهتمامهم بذلك حداً عجيباً من الدقّة والحذر، حتى إنَّ بعض أعاظم المحدّثين، أخرج محدّثاً آخر من بلده، بحجّة أنه يروي عن الضعفاء. وقد يذكرون ـ من بين الأمثلة على هذه الدقّة ـ أنَّ بعض الرواة قصد شخصاً من المحدّثين ليأخذ منه الحديث ويروي عنه، فوجده يخدع شاته، فيوهمها أنّ بيده علفاً دون أن يكون في يده شيء، فرجع من حيث أتى مع بُعد المسافة التي قطعها، لأنه اعتبر ذلك تدليساً يتنافى ووثاقة الراوي.

ويسمع بعض الرواة أحاديث كثيرة عن أبيه ـ وكان من شيوخ المحدّثين ـ فلا يرويها عنه مباشرة، بل يلجأ إلى روايتها عنه بالواسطة ـ بسماعها من إخوته الذين هم أكبر منه سناً، ويعتذر عن ذلك بأنّه كان صغير السنّ عندما سمعها من والده، فلا يأمن على نفسه الخطأ والغفلة وعدم الضبط.

وكان بإمكان هذا المنهج العلمي في دراسة الحديث، أن يعطي ثماره الطيبة في جميع المجالات، لولا أنَّ الأقدمين اقتصروا في ممارسته على مجال الحديث والرِّواية في الفقه والشريعة، بشكل عامّ.

أمّا التاريخ، فلم يكلّفوا أنفسهم عناء البحث فيه وتحقيقه، ليصل إلى أيدينا بشكل أنظف وأنصع من الشّكل الذي هو فيه الآن. ولذا قلّت العناية، في أكثر الكتب التاريخيّة، بذكر الأسانيد بشكل متّصل، على العكس من كتب الحديث.

ذلك هو المنهج الذي اتّبعه الأقدمون في دراسة الحديث من ناحية السند، ولم يقتصروا على ذلك في قبول الحديث، بل اشترطوا لذلك ـ كما قدّمنا آنفاً ـ سلامة المتن من ناحية معناه ولغته، وموافقته لحكم العقل والشرع فيما إذا كان المضمون شرعياً.

فإذا تـمّ لهم ذلك كلّه من كلا الجانبين، أخذوا بالحديث وعملوا به، أمّا إذا فقدوا بعض تلك العناصر ـ أو جميعها ـ في الحديث، فلا بُدَّ لهم من رفضه وإلقائه في سلّة المهملات ـ كما نعبّر الآن ـ وبهذا كانت مهمة الباحث تتطلّب كثيراً من الجهد والمشقّة، والدقّة والحذر في ما يستند إليه من أحاديث، وفي ما يستدلّ به من أخبار.

المنهج الحديث

أمّا الباحثون المحدثون، فقد رفضوا هذا المنهج بشكل عام، وأغفلوا ناحية السند جانباً، فلم يعودوا يهتمون بتحقيق حال الراوي، أو معرفة صفة المؤرخ، بل وجّهوا نظرهم وتفكيرهم إلى تحقيق حال النصوص وتحليلها، والجوانب النفسية والاجتماعيّة، وملاحظة طبيعة الزمان والمكان.

فإذا كانت منسجمةً مع هذه الجوانب التي راعوها، أو القواعد التي وضعوها، فحسبها ذلك صحّةً وسلامةً، وإلاَّ كان سبيلها الإهمال.

وربما يلاحظ البعض جانب المصادر الأصلية للحديث، فيكتفي في وثاقة الحديث بوجوده في كتاب موثوق به من ناحية وثاقة مؤلفه.

تلك هي طبيعة بعض ملامح المنهج الحديث في دراسة النصوص التاريخية وغيرها، وذلك هو سبيل هؤلاء الباحثين فيما يكتبون.

ونحن لا نختلف معهم في ما سلكوا من سبيل، أو في ما ارتأوه من منهج، بل نوافقهم عليه إلى حدّ ما، ونسير معهم في الطريق نفسه، لأننا نرى فيه نهجاً سليماً في دراسة النصوص التاريخيّة وتحقيقها، فربما يكون أقرب الطرق إلى معرفة الحقيقة بعمق، من جميع جهاتها وملابساتها، في أفق مجرّد من هوامش الخرافات والأساطير.

وقد لمسنا في ما قرأناه من الدراسات الحديثة، ورأينا كيف شارك هذا المنهج في إزاحة الستار عن كثير من الحقائق المطمورة تحت أكداس الأساطير والخرافات والأغراض الشخصيّة والقبلية.

وربما يكون لهذا المنهج في البحث والتحليل، الدور الكبير في الفكرة التي أطلقها الدكتور طه حسين، في اعتبار (حديث عبد الله بن سبأ) أسطورة خرافيّة ابتدعها المؤرخون في ما ابتدعوا من شخصيات وأدوار، ليعهدوا إليها بالكشف عن كثير من الأسرار التي أحاطت ببعض القضايا التاريخيّة، في جوّ من الغموض، أو التي أريد لها أن تعيش في هذا الجوّ الغامض.

فقد لاحظ الدكتور طه حسين أنَّ الأحداث والأدوار التي نسبت إلى هذه الشخصية، لا تنسجم مع طبيعة الأشخاص والظروف التي رافقت تلك الفترة من حياة المسلمين، الأمر الذي يقوده إلى استنتاج الوضع والتلفيق في هذه الأحاديث: "وأكبر الظنّ كذلك أنَّ خصوم الشيعة أيام الأمويين والعباسيين، قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا، ليشكّكوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان وولاته من ناحية، وليشنّعوا على عليّ (ع) وشيعته من ناحية أخرى، فيردوا بعض أمور الشيعة إلى يهودي أسلم كيداً للمسلمين".

"فلنقف من هذا كلّه موقف التحفّظ والتحرّج والاحتياط، ولنكبر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهودياً وكانت أمّه سوداء، وكان هو يهودياً ثُمَّ أسلم، لا رغباً ولا رهباً، ولكن مكراً أو كيداً وخداعاً، ثُمَّ أتيح له من النجاح ما كان يبتغي، فحرَّض المسلمين على خليفتهم حتى قتلوه، وفرّقهم بعد ذلك أو قبل ذلك شيعاً وأحزاباً.

هذه كلّها أمور لا تستقيم للعقل، ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أن تقام عليها أمور التاريخ".

وهكذا ندرك قيمة هذا المنهج في دراسة التاريخ الإسلامي، كما ندرك قيمته في دراسة الأحاديث الإسلاميّة، ودوره في طرح كلّ حديث لا يتفق وموازين العقل، وطبيعة التشريع وقواعد النقد.

وربما كان لابن خلدون الأثر الكبير في تركيز المنهج في البحوث التاريخيّة، فقد فتح الطريق في (مقدّمته) للباحثين في تنقيح هذا المنهج وتحقيقه.

وقد يكون من المناسب لهذا الحديث ـ ونحن نعرض لهذا المنهج ـ أن ننقل بعض هذه اللّمحات التي ألمحنا إليها من (مقدّمة ابن خلدون).

"إنَّ الأخبار إذا اعتُمِد فيها على مجرّد النقل، ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلّة القدم والحيد عن جادة الصدق، وكثيراً ما وقع للمؤرّخين والمفسّرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرّد النقل غثّاً أو سميناً، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النّظر والبصيرة في الأخبار، فضلّوا عن الحقّ، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط".

المنهج المختار

ذلك هو منهج الأقدمين في الدراسة ومنهج المحدثين، فأيُّهما نختار في دراساتنا الإسلاميّة؟

وفي اعتقادنا، إنَّ منهج الأقدمين ـ من حيث المبدأ ـ هو المنهج المفضَّل في دراساتنا التي نريد أن نجري عليها. ونعني بكلمة "من حيث المبدأ"، طبيعة المنهج من الناحية العامّة، وهي رعاية السند والمتن، حسب تعبير القدامى.

أمّا تفاصيل هذا المنهج، فلا نجد ما يلزمنا باتباع طريقتهم فيها، لأنَّ مقاييسهم التي كانوا يعتبرونها أساساً للحكم على مضمون الحديث، من حيث انسجامه مع موازين النقد وأحكام العقل، وحقائق الأشياء، لم تعد مقبولةً لدينا جملةً وتفصيلاً، بفضل التطوّر الفكري والعلمي، وتبدّل النظر بالنّسبة إلى كثير من الأشياء في عالم الفكر والتاريخ.

ولهذا، فلا بأس باتباع الأساليب الحديثة في التّحقيق والتّدقيق، والنقد والمحاكمة، شريطة أن يكون منسجماً مع الروح الإسلاميّة والمقاييس الإسلامية للأشياء.

أمّا الذي يفرض علينا التزام هذا المنهج، فهو أنَّ المؤرخين والرواة لا يرتفعون فوق مستوى الشبهات، فهم أفراد من البشر، لهم ما للبشر من ميول وأفكار وطبائع مختلفة وصفات متباينة.

ومن الواضح أنَّ ذلك قد يفرض عليهم الانسجام مع طبائعهم وصفاتهم، تبعاً للضرورات المعاشية والنفسية والمذهبيّة والاجتماعية بشكل عام، فقد يقتضيهم الصدق في بعض الحالات، كما يقتضيهم الكذب في البعض الآخر.

وثمة ناحية أخرى، هي طبيعة التاريخ الإسلامي، وظروفه المختلفة، وطبيعة الأشخاص الذين عاشوا على مسرح هذا التاريخ وقادوا حركته، ومدى تأثيرهم في الأفراد الذين كتبوا هذا التاريخ، على أساس العرف الشائع في ذلك الحين، من اهتمام المؤرخين بقضايا الحكّام دون غيرهم من فئات الأمّة، ولك أن تتصوّر ـ من خلال ذلك ـ ما يفرضه هذا العرف، وهذا الوضع، من تملّق وطمع ورغبة ورهبة لذلك ولغيره، ما لا يتّسع له صدر هذا الحديث. لذلك نجد أنَّ من الضروريّ جداً أن نلتزم المنهج القديم في البحث، لأنه يجنّبنا كثيراً من المزالق الخطرة التي تقتضيها طبيعة ما قدّمناه.

ولن يستطيع المنهج الحديث، الذي يغفل أحوال الرواة جانباً، أن يجنّبنا ذلك، مادام بإمكان الكاذب أن يصوغ قصته أو حديثه بأسلوب يتناسب وطبيعة المجتمع والظروف التي يريد للقصة أو الحديث أن يعيش فيها. وقد ظهرت قيمة هذا المنهج الذي يعتمد التركيز على أحوال الرواة، في قضية البحث عن "عبد الله بن سبأ"، فقد استطاع أحد الباحثين الإسلاميين أن يرجع هذه القضية إلى المصدر الأمّ لجميع الكتب التاريخيّة، التي عرضت لهذا الإنسان ولرواياته، وتمكّن ـ بهذا المنهج ـ أن يكتشف الراوي الذي اخترع هذه الشخصيّة وهو (سيف بن عمر التميمي)، الذي يصفه أكثر علماء الرجال والحديث بأنَّه وضّاع كذّاب لا يُعتمَد على حديثه ولا يؤخذ بما ينفرد به.

إننا نعرض ذلك أمام الباحثين كضرورة حتمية، من أجل التخلّص من الفوضى التاريخيّة التي وقعنا فيها، والفوضى الفكرية التي نشأت من ذلك، نظراً إلى اعتماد كثير من قضايانا الفكرية والعقيدية على ما يرويه المؤرخون ويكتبه التاريخ.

*مقالة في مجلّة "الأضواء" النجف الأشرف ومنشورة في كتاب "قضايانا على ضوء الإسلام".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية