بالنسبة إلى التجارب التي قامت بها الجماعات غير الإسلامية، فلا بُدَّ لنا من
دراسة طبيعتها، ومدى علاقتها بالأفكار والمعتقدات التي يدعو إليها هؤلاء، من أجل أن
نعرف أوجه النجاح والفشل، من حيث ارتباطها بأسلوب العمل من دون أن يكون له علاقة
بالفكرة، أو القضيّة بالعكس، كأن يكون ذلك الأثر مرتبطاً بالفكرة وحدها دون الأسلوب،
أو بالأسلوب والفكرة معاً، فإنَّ مثل هذه المعرفة تستطيع أن تقدِّم لنا الشيء
الكثير، عندما نريد أن نأخذ بعض هذه التجارب وندع البعض الآخر.
وتواجهنا في هذا المجال تجربتان: الأولى دينية، والثانية غير دينية.
أمّا التجربة الدينيّة، فتتمثّل ـ بشكل واضح ـ في النّشاط الذي يقوم به التبشير
المسيحي في العالم، فقد نلاحظ أنَّه قد نجح إلى حدّ كبير في إيصال المسيحية إلى
آفاق شاسعة من المعمورة، كما نلاحظ أنَّه قد استغل جميع أوجه النشاطات والخدمات
الاجتماعية والثقافية وغيرها، سواء كان ذلك بإنشاء المستشفيات أو المعاهد أو
المياتـم. ولم يقتصر على ذلك، بل حاول أن يجعل من المسيحية طابعاً للأحزاب السياسية،
كما هي الحال في بعض الدول الغربية.
وقد حاول القائمون على شؤونها أن ينظروا في تجاربهم السابقة، ومدى ما تشتمل عليه من
نقاط القوّة والضعف، ليحوّروا بعض المقررات السابقة ويبدِّلوا بعضها الآخر.
وأخيراً، كان الموقف الإيجابي الذي اتخذه (المجمع المسكوني) في فتح باب الحوار بين
المسيحية وبين الأديان والمبادئ الأخرى، حتى الإلحادية.
وعلى أيِّ حال، فقد يكون من الخير لنا أن ننفتح على هذه التجارب وندرسها، لنستفيد
منها في كيفية تأثير هذه النشاطات في مجال الدعوة، ومدى الأثر الذي يمكن أن يحتفظ
به الحسّ الديني في حياة النّاس، وقابلية الشعوب لتقبّل الدِّين كأساس للقيم في
حياتها العامة والخاصة.
ومن الجانب الآخر، نحاول التعرف إلى الأساليب المتبعة في دعوة النّاس إلى الإيمان
بالمسيحية، من قبل دعاة التبشير، ومقدار نجاحها في الوصول إلى الغاية المقصودة،
والاطّلاع على الطرق التي يستعملونها تجاه الإسلام في المجتمعات الإسلاميّة، سواء
في ذلك المجال الثقافي والتربوي، أو الاجتماعي بشكل عام. ونحسب أنَّ مثل هذه
الدراسة الواعية، تفتح لنا آفاقاً جديدة، وتزوّدنا بخبرات واسعة، وتجعلنا نعي دور
التبشير في مجتمعاتنا الإسلاميّة، ومخطّطاته المتجدّدة في كلّ آن، بشكل أعمق، الأمر
الذي يجنبّنا الانهيار والذوبان مع الشعارات البراقة والأساليب العاطفيّة، وبالتالي،
فقدان الأصالة في شخصيتنا المسلمة.
وبهذه المناسبة، نحبّ أن نشير إلى بعض الاتجاهات التي تنطلق من هنا وهناك، في
محاولة للتوحيد بين الأديان، أو بالأحرى، لإيجاد تعاون وتقارب أقوى وأوثق من أجل
تركيز القيم الدينية العليا.
إنَّنا نحبّ أن نشير إلى هذا كموقف جديد، نحاول أن نتفهّمه ونعيه ونحدّد مواقع
أقدامنا منه على ضوء من الدّقة والعمق.
ففي الوقت الذي نحاول ألا نقلّل من شأن هذه الخطوة وتأثيرها في مستقبل الدِّين في
الأجيال الآتية، نودُّ أن لا يكون هذا الاتجاه أداةً للمساومة والمجاملة على حساب
القيم الأصيلة للإسلام.
فقد يكون من الخير لنا أن نعرف أنَّ أيّ اتجاه للتقارب بين أيّ جهة وأخرى، لن يكون
واقعياً وعملياً، إلاَّ إذا كان كلّ من الطرفين ذا شخصيّة مستقلة، لا تغلبها نوازع
الضعف، ولا تتقاذفها رياح الهوى.
أمّا إذا كان أحدهما ضعيفاً لا يملك إلاَّ أن يبتسم ويجامل، من دون أن يعرف ما حوله
من أحداث وحركات، وكان الطرف الآخر قويّاً يتقن استغلال الظروف واستخدام المناسبات
واقتناص الفرص، فإنَّ القضيّة تصبح ـ حينئذٍ ـ عملية خداع واحتيال في ثوب من
الشعارات الزائفة.
لا بُدَّ لنا من أن ندخل في حسابنا كلّ هذا عندما نريد أن نعمل، ولا بُدَّ لنا من
أن نعي طبيعة الموقف قبل أن نتقدّم، ولن يكون ذلك، إلا إذا كنّا نملك عمق الفكرة،
وسعة الأفق، وذكاء الحسّ، وأصالة التجربة، وقوّة الشخصيّة.
وأمّا التجارب غير الدينية، فتتمثّل بالأحزاب العقائدية الإلحادية، والمنظّمات
الكثيرة ذات الطابع الاقتصادي الخاصّ وغيرها.
فقد نجحت في السيطرة على الحكم في بعض البلدان، واستطاعت أن تزرع قواها في بلدان
أخرى، وفشلت ـ في الوقت نفسه ـ في بعض المواقف.
أمّا علاقتنا بها، فتبدو ـ بوضوح ـ في دخولها إلى بلادنا الإسلامية وسيطرتها على
قطاع كبير من أبناء أمّتنا بشتى الأساليب، وفي اعتبارها قوّة مناهضة للدعوة
الإسلامية في العالم.
وعلى ضوء هذا، فلا بُدَّ لنا من الاطلاع على تجاربها في ميدان العمل وأساليبه، فقد
نستفيد من ذلك في طرقنا العمليّة الخاصّة، وفي تعرّف أساليبها التي تتبعها في
التبشير بأفكارها في مجتمعاتنا الإسلامية الخاصّة، ومدى نجاحها في تحقيق الهدف
المقصود.
تجارب إسلاميّة
وهناك تجارب إسلاميّة قامت بها جماعات كثيرة من المهتمين بالعمل الإسلامي، فقد حدثت
عدّة محاولات جادّة في تركيز العقيدة الإسلاميّة في النفوس ونشر تعاليمها بين
النّاس، وتعدّدت الاتجاهات؛ فكان الجانب الثقافي يستأثر باهتمام بعضهم، وذلك عن
طريق فتح المدارس والمعاهد، التي تعنى بتربية الناشئة تربية دينية، إضافةً إلى
التربية العلمية الحديثة... ويتمثّل بعضها في الجانب السياسي، الذي يستهدف إقامة
حكم إسلامي في داخل بلاد المسلمين. وهناك فئة ثالثة تعمل على الصعيد الاجتماعي
العام.
وقد أخفق بعض هذه المحاولات ونجح بعضها الآخرK حسب اختلاف الظروف والأوضاع.
فلا بُدَّ لنا من أن نعرف، لماذا نجح هذا وأخفق ذاك؟ وما هي عوامل الخطأ والصواب في
التجربة؟ ذلك هو ما نستطيع أن نعرفه في دراسة التجربة التي عاناها هؤلاء، لنتفادى
الأخطاء التي وقعوا فيها، من أجل أن نكون أكثر وعياً لواقعنا، وأبعد عن الانحراف في
مجال العمل.
وماذا بعد ذلك؟
إنَّ علينا أن نجرّب ونحن ندعو، ونجرّب ونحن نعمل، ونجرّب ونحن نفكر، ونجرّب ونحن
نضع الخطط وننفّذ المشاريع، ونجرّب حتى لا يبقى هناك مجال للتجربة، حتى يكون العمر
كلّه تجربة في سبيل الله، وفي سبيل دينه وشريعته. وهو ـ سبحانه ـ وليّ النصر
والتوفيق والسّداد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
*من كتاب "قضايانا على ضوء الإسلام".