من التسميات التي تطلق على عالم الدين ويعرف بها على نطاق واسع، تسمية السماحة، فيقال له صاحب السماحة، وتكاد هذه التسمية تختصّ بهذه الفئة من الناس، وتتفرّد بها عن باقي الفئات الأخرى.
هكذا جرى العرف في الوسطين الديني والاجتماعي، وبين المذاهب الإسلامية كافة تقريباً، فحينما يقال صاحب السماحة، يستبق إلى الذهن ابتداءً صورة عالم الدين، في دلالة على تطابق الوصف والصورة من الناحية العرفيّة.
هذه التسميات لا تحصل غالباً بمحض الصدفة، أو بحسب مجريات العادة، وهي لا تأتي من فراغ أو من دون مناسبة، ولا تظهر فجأةً من دون مقدّمات، وليست هي تسميات بلا معنى أو تفتقر إلى قوّة المعنى، كما أنها ليست مجرد أوصاف وألقاب شكلية، جاءت بقصد التعظيم، وتحصيل درجة من درجات التفاضل، أو من أجل الوجاهة الدينية والاجتماعية.
وإذا كنا لا نعلم على وجه التحديد متى بدأ استعمال هذه التسمية زمناً وتاريخاً، مناسبةً وحالة، إلا أننا نعلم على وجه اليقين من أين جاءت هذه التسمية، فهي قد جاءت من وصف الشريعة التي وصفت في الحديث النبوي الشريف بالحنيفيّة السمحة.
واستناداً إلى هذه الأحاديث النبوية الشريفة مع آيات قرآنيّة تتّصل بها، اعتبر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في كتابه (مقاصد الشريعة الإسلاميّة)، أنّ السماحة هي أولى أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها، واستناداً إلى هذا الرأي، فإن السماحة كذلك هي أولى أوصاف عالم الدين ومن أكبر مقاصده.
هذا التلازم بين كون السماحة هي أولى أوصاف الشريعة، وكونها أولى أوصاف عالم الشريعة أو عالم الدين، هو تلازم جديد يمكن التسليم بصحته، ولوجاهته يمكن التمسك به، والدفاع عنه، وإعطاؤه فرصة الشياع في مجالنا التداولي، فهو لا يخلو من طرافة في المعنى.
وكحال كثير من التسميات التي يجري تداولها في مجالاتنا الفكرية والدينية والاجتماعية وغيرها، لكن من دون أن نعطي أنفسنا فرصة التأمل فيها، ووضعها في دائرة البحث الاستكشافي، للتبصّر في حكمتها، وبيان حقلها الدلالي.
وهذا ما يصدق على تسمية صاحب السماحة التي لم نتوقّف عندها فحصاً وتبصّراً واستكشافاً، مع كثرة استعمالها وشياعها الواسع، الوضع الذي عرّضها على ما يبدو للرتابة، وأفقدها عنصر الدهشة، الدهشة التي فقدناها غالباً في حياتنا الفكرية، وفقدنا معها قوّة الخيال، وعظمة التأمل، وبهجة الفكر، ومحبّة الاستكشاف، حصل ذلك نتيجة ما أصابنا من جمود فكري، وتراجع حضاري.
والسؤال: لماذا حصل هذا الاقتران بين السماحة وعالم الدين إلى درجة التفرّد بهذه الصفة؟
هل حصل ذلك لأنّ عالم الدين ظهر بهذه الصفة، وطغت عليه حتى عرف بها، وحين أطلقت عليه جاءت من باب الإعلام والإخبار؟ أم هي دعوة ملحّة ومستمرة لعالم الدين لأن يتّصف بهذه الصفة، وحين أطلقت عليه جاءت من باب التّذكير والتنبيه؟ أم لأنّ السماحة، حسب قول الشيخ ابن عاشور، هي أولى أوصاف الشريعة، فلا بدّ من أن تكون بالتبع أولى أوصاف عالم الشّريعة؟
هذه التقديرات الثّلاثة هي تقديرات واردة ومتصوّرة، وعند النظر الاستكشافي، يمكن الإشارة إلى الدلالات الآتية:
أوّلاً: إنّ من يقترب من الشريعة تعلّماً وتخلّقاً، يكون قريباً من صفة السماحة، متنبّهاً لهذه الصفة أو غير متنبّه لها، فالشريعة بطبيعتها تخلق في من يقترب منها صفة السماحة، بشعورٍ منه أو من دون شعور، تخلّقاً يكون ظاهراً ومتجلّياً، لكن ليس بصورة فورية وفجائية، وإنما بصورة تدريجية، حتى تصل إلى درجة يعرف بها فيقال له صاحب السماحة، وفي هذه الحالة، يكون الوصف حاكياً عن المصداق ومصدّقاً له، فالصفة هي صفة مصداقيّة.
ثانياً: إنّ عالم الدين يعرف بصفة السماحة قبل وأكثر من أية صفة أخرى، وبهذا المعنى، فإن عالم الدين الحقيقي هو صاحب سماحة يعرف بها علماً وتخلّقاً، يعرف بها لا في مكان دون آخر، ولا في زمان دون آخر، ولا في حال دون آخر، ولا مع ناسٍ دون ناس، وإنما يعرف بها بصورة دائمة ومستمرّة في كلّ مكان وزمان وحال، ومع النّاس كافّة، بلا فرق بينهم ولا تمايز، لا من جهة العرق والقوم، ولا من جهة اللغة واللسان، ولا من جهة المذهب والطائفة، ولا من جهة الثّروة والجاه.
وعلى هذا الأساس، يمكن القول إنّ كلّ عالم دين يفترض فيه أن يكون صاحب سماحة، ولكن هل كلّ عالم دين هو صاحب سماحة فعلاً!
بالقطع والتأكيد، ليس كل عالم دين هو صاحب سماحة، وهذا ما يعرفه علماء الدين عن أنفسهم قبل غيرهم قديماً وحديثاً، فالسماحة هي معيار يعرف بها عالم الدين الحقيقي دون سواه، وفي هذه الحالة، يكون الوصف حاكياً عن المعيار، فالصفة هي صفة معياريّة.
ثالثاً: إن إطلاق صفة السماحة على عالم الدين، تجعل منه أن يكون متنبّهاً لهذه الصفة، ومتبصّراً بها دائماً وبلا توقف، لكي يصبح مشعّاً بهذه الصفة، ومصدر إشعاع لها، يفيض بها دوماً وبلا توقف شخصاً وفكراً، قولاً وعملاً، صمتاً وكلاماً، وبشكل يشعر بها كلّ من يقترب منه، ويتلمسها كلّ من يتصل به، ويتأثر بها كلّ من يتواصل معه، القريب والبعيد، المتفق والمختلف.
الحال الذي يجعل عالم الدين أكثر من غيره تنبّهاً لهذه الصفة، وأكثر من غيره تمسّكاً بها، وأكثر من غيره دفاعاً عنها، وأكثر من غيره كذلك فيضاً وإشعاعاً لها بين الناس كافة، وبهذا الحال، يكون عالم الدين إنما يدافع عن ذاته وصورته ورمزيّته، ولكي يظهر بمظهر جماليّ بهيج يبهج الناس كافّة.
وفي هذه الحالة، يكون الوصف حاكياً عن التخلّق، ومصدّقاً له، فالصفة هي صفة تخلقية.
لكن هذه الصورة انقلبت عند البعض قديماً وحديثاً، فوجدنا من ينتسب إلى شريحة علماء الدين، وينشر الكراهية بين الناس، ويبثّ الأحقاد والضغائن والبغضاء، وحتى التعصّب والتطرّف والتحجّر والتنازع، ووصل الحال بالبعض إلى دعوة الناس إلى العنف والتكفير والإرهاب.
*صحيفة اليوم، بتاريخ 28 أغسطس/ آب 2016م، العدد 15780.
إنّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.