كتابات
08/01/2019

القرآن الكريم كتاب يحثّنا على الإيمان

القرآن الكريم كتاب يحثّنا على الإيمان

عني المسلمون منذ فجر الإسلام، وانبثاق نور الهداية الإلهية على ربوع العالم، بالقرآن الكريم، مصدر تلك الهداية، ومنبع ذلك الإشراق، عناية كبرى شملت جميع نواحيه، وأحاطت بكلّ ما يتّصل به، وكان لها آثارها المباركة الطيّبة في حياة الإنسان عامّة، والمسلمين خاصّة، أفاد منها العلم، وأفاد منها العقل، وأفاد منها الدين، وأفاد منها الفنّ، وأفاد منها القانون والتشريع، وأفادت منها الفلسفة والأخلاق، وأفادت منها السياسة والحكم، وأفاد منها الاقتصاد والمال، وأفاد منها كلّ مظهرمن مظاهر النشاط الفكري والعملي عرفه الناس في حياتهم المادية والروحية.

ولقد زخرت المكتبة الإسلاميّة من آثار هذا النشاط العظيم، بل زخرت مكتبات أخرى في لغات أخرى وأمم أخرى، بكنوز رائعة يقف العقل أمامها حائراً مشدوهاً، يخالجه مزيج من الإعجاب والمهابة، ويملكه معنى عميق من معاني الخضوع، أمام هذه العظمة التي لا كفاء لها إلا الإقرار بالعجز والخضوع !

ولكي ندرك مدى هذه العناية الكبرى التي تلقّى بها المسلمون القرآن الكريم في جميع عصورهم ومراحل حياتهم، وعلى أيدي علمائهم وملوكهم ووزرائهم وأمرائم وأغنيائهم وأرباب الفنّ فيهم، وأهل الإحسان في كلّ ناحية من نواحي الإحسان، لكي ندرس مدى هذه العناية الكبرى، علينا أن نلتفت إلى ما سجّله التاريخ الفكري للمسلمين.

لا نكاد نعرف علماً من العلوم التي اشتغل بها المسلمون في تاريخهم الطويل، إلا كان الباعث عليه هو خدمة القرآن الكريم من ناحية ذلك العلم، فالنحو الذي يقوّم اللسان ويعصمه من الخطأ، أريد به خدمة النطق الصحيح للقرآن، وعلوم البلاغة التي تبرز خصائص اللّغة العربيّة وجمالها، أريد بها بيان نواحي الإعجاز في القرآن، والكشف عن أسراره الأدبيّة.. وتتبّع مفردات اللغة، والتماس شواردها وشواهدها وضبط ألفاظها، وتحديد معانيها، أريد بها صيانة ألفاظ القرآن ومعانيه أن تعدو عليها عوامل التحريف أو الغموض.. والتجويد والقراءات، لضبط أداء القرآن وحفظ لهجاته، والتفسير لبيان معانيه، والكشف عن مراميه، والفقه لاستنباط أحكامه، والأصول لبيان قواعد تشريعه العام وطريقة الاستنباط منه.. وعلم الكلام لبيان ما جاء به من العقائد، وأسلوبه في الاستدلال عليها، وقل مثل هذا في التاريخ الذي يشتغل به المسلمون تحقيقاً لما أوحى به الكتاب الكريم في مثل قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ}. {وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}. {وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ}.. وقل مثل هذا أيضاً في علم تقويم البلدان وتخطيط الأقاليم، الّذي يوحي به مثل قوله تعالى: {سِيرُواْ فِي الأَرْضِ}، {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا}، وفي علوم الكائنات التي يوحي بها مثل قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ...}، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ* يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ* وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

وهكذا علوم الفلك والنجوم والطبّ، وعلوم الحيوان والنبات، وغير ذلك من علوم الإنسان، لا يخلو علم منها أن يكون الاشتغال به في نظر من اشتغل به من المسلمين مقصوداً به خدمة القرآن، أو تحقيق إيحاء أوحى به القرآن… حتى الشعر، إنما اشتغلوا به ترقية لأذواقهم، وتربية لملكاتهم، وإعداداً لها كي تفهم القرآن وتدرك جمال القرآن، وحتى العروض كان من أسباب عنايتهم به أنه وسيلة لمعرفة بطلان قول المشركين: إنّ محمداً شاعر، وإن ما جاء به شعر.

وتبعاً لهذه الأنحاء المختلفة في نظر المسلمين إلى القرآن واشتغالهم به، نرى التفاسير ذات ألوان متنوعة، فمنها ما يغلب عليه تطبيق قواعد النحو وبيان إعراب الكلمات وبنائها، ومنها ما يغلب عليه بيان نواحي البلاغة والإعجاز، ومنها ما يهتمّ بالفقه والتشريع وبيان أصول الأحكام... وهكذا.

ولعلّ مما يدلنا أيضاً على مدى هذه العناية، أن الذين فاتتهم القدرة على معالجة القرآن من هذه النواحي العلمية، لم يفتهم أن يضربوا بسهم في نواحٍ أخرى، جعلوها مظهراً من مظاهر عنايتهم، وسبيلاً إلى نيل حظهم من رضا الله وثوابه، فهذا يكتب القرآن بخطّ جميل، وهذا يزخرف صفحاته وأوائل سوره، وهذا يرقّم آياته، وهذا يطرّز سجلّه وغلافه، وهذا يرصد الأموال لتحفيظه، والمكافأة على التبريز فيه، ومازالت المساجد إلى يومنا هذا محتفظة بمظهر من هذه المظاهر، هو تلك المقارئ التي يجتمع فيها القراء يتبادلون فيها قراءته وتجويده والاستماع إليه.

لهذا كلّه، أعتقد أني لا أتجاوز حدّ القصد والاعتدال إذا قلت: إنه لم يظفر كتاب من الكتب، سماوياً كان أو أرضياً، في أية أمة من الأمم، قديمها وحديثها، بمثل ما ظفر به القرآن على أيدي المسلمين، ومن شارك في علوم المسلمين.

ولعلّ هذا يفسِّر لنا جانباً من الرعاية الإلهيّة لهذا الكتاب الكريم الذي تكفَّل الله بحفظه وتخليده في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. فما كان الحفظ والتخليد بمجرد بقاء ألفاظه وكلماته مكتوبة في المصاحف، مقروءة بالألسنة، متعبداً بها في المساجد والمحاريب، إنما الحفظ والخلود بهذه العظمة التي شغلت الناس، وملأت الدنيا، وكانت مثاراً لأكبر حركة فكرية اجتماعية عرفها البشر! ومن فضل الله علينا في هذا العصر، أنّ الرّكب سائر لم يقف، ولم يفتر، وأنّ هذا الروح الكريم مايزال يسيطر على المسلمين، وينتقل فيهم من جيل إلى جيل يورّثه الآباء للأبناء، وسيظلّ كذلك إن شاء الله، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.

وهؤلاء هم المسلمون، على تفرّقهم في البلاد والأقاليم، وتفرّقهم في السلطان والنفوذ، وضعفهم المادي أمام دول الغرب، وبالرغم مما غمروا به وغزوا من علوم متنوّعة، وثقافات متعدّدة ذات ألوان ماديّة، وأدبيّة، واجتماعيّة، وتشريعيّة، لايزالون يعتصمون بالقرآن، ويدينون بقدسية القرآن، ويتآزرون على خدمة القرآن.

وإنهم ليستشرفون جميعاً لمطلع ذلك اليوم الذي يعود فيه سلطان القرآن، فيكون التشريع تشريع القرآن، والأخلاق أخلاق القرآن، والهدى هدى القرآن، ونرجو أن يكون قريباً.

وإذا كان المسلمون قد تلقوا كتاب الله بهذه العناية، واشتغلوا به على هذا النحو الذي أفادت منه العلوم والفنون، فإنّ هناك، مع الأسف الشديد، ناحيتين كان من الخير أن يظلّ القرآن بعيداً عنهما، احتفاظاً بقدسيته وجلاله. هاتان الناحيتان هما:

ناحية استخدام آيات القرآن لتأييد الفرق والخلافات المذهبية، وناحية استنباط العلوم الكونية والمعارف النظرية الحديثة منه. وأحب أن أثبت على صفحات هذه المجلة، وبين يدي ما سأكتبه لها من التفسير، رأيي في هاتين الناحيتين واضحاً، فأقول:

أما الناحية الأولى: فإنه لما حدثت بدعة الفرق، والتطاحن المذهبي، والتشاحن الطائفي، وأخذ أرباب المذاهب، وحاملو رايات الفرق المختلفة، يتنافسون في العصبيات المذهبية والسياسية، امتدّت أيديهم إلى القرآن، فأخذوا يوجّهون العقول في فهمه وجهاتٍ تتّفق وما يريدون، وبذلك تعدّدت وجهات النظر في القرآن، واختلفت مسالك الناس في فهمه وتفسيره، وظهرت في أثناء ذلك ظاهرة خطيرة، هي تفسير القرآن بالروايات الغريبة، والإسرائيليات الموضوعة التي تلقّفها الرواة من أهل الكتاب، وجعلوها بياناً لمجمل القرآن، وتفصيلاً لآياته، ومنهم من عني بتنزيل القرآن على مذهبه أو عقيدته الخاصّة، وبذلك وجدت تحكّمات الفقهاء والمتكلّمين وغلاة المتصوفة وغيرهم ممن يروّجون لمذاهبم، ويستبيحون في سبيل تأييدها والدعاية لها، أن يقتحموا حمى القرآن، فأصبحنا نرى من يؤول الآيات لتوافق مذهب فلان، ومن يخرجها عن بيانها الواضح، وغرضها المسوقة له، لكيلا تصلح دليلاً لمذهب فلان، وبهذا أصبح القرآن تابعاً بعد أن كان متبوعاً، ومحكوماً عليه بعد أن كان حاكماً!...

وأما الناحية الثانية: فإن طائفة أخرى هي طائفة المثقفين الذين أخذوا بطرف من العلم الحديث، وتلقّنوا، أو تلقّفوا، شيئاً من النظريات العلمية والفلسفية والصحية وغيرها، أخذوا يستندون إلى ثقافتهم الحديثة، ويفسّرون آيات القرآن على مقتضاها.

نظروا في القرآن، فوجدوا الله سبحانه وتعالى يقول: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}، فتأوّلوها على نحو زيّن لهم أن يفتحوا في القرآن فتحاً جديداً، ففسّروه على أساس من النظريات العلمية المستحدثة، وطبّقوا آياته على ما وقعوا عليه من قواعد العلوم الكونية، وظنّوا أنهم بذلك يخدمون القرآن، ويرفعون من شأن الإسلام، ويدعون له أبلغ دعاية في الأوساط العلمية والثقافية.

نظروا في القرآن على هذا الأساس، فأفسد ذلك عليهم أمر علاقتهم بالقرآن وأفضى بهم إلى صور من التفكير لا يريدها القرآن، ولا تنّفق مع الغرض الذي من أجله أنزله الله... هذه النظرة للقرآن خاطئة من غير شكّ، لأنّ الله لم ينزل القرآن ليكون كتاباً يتحدّث فيه إلى الناس عن نظريات العلوم ودقائق الفنون وأنواع المعارف.

وهي خاطئة من غير شكّ، لأنها تحمل أصحابها والمغرمين بها على تأويل القرآن تأويلاً متكلفاً يتنافى مع الإعجاز، ولا يسيغه الذوق السليم.

وهي خاطئة لأنها تعرّض القرآن للدوران مع مسائل العلوم في كلّ زمان ومكان، والعلوم لا تعرف الثبات ولا القرار ولا الرأي الأخير، فقد يصحّ اليوم في نظر العلم ما يصبح غداً خرافة من الخرافات.

فلو طبّقنا القرآن على هذه المسائل العلميّة المتقلّبة، لعرضناه للتقلّب معها، وتحمّل تبعات الخطأ فيها، ولأوقفنا أنفسنا بذلك موقفاً حرجاً في الدفاع عنه.

فلندع للقرآن عظمته وجلالته، ولنحفظ عليه قدسيّته ومهابته، ولنعلم أنّ ما تضمّنه من الإشارة إلى أسرار الخلق وظواهر الطبيعة، إنما هو لقصد الحثّ على التأمّل والبحث والنظر، ليزداد الناس إيماناً مع إيمانهم.

*من مقالة منشورة في مجلة "رسالة الإسلام"، العدد 1.

عني المسلمون منذ فجر الإسلام، وانبثاق نور الهداية الإلهية على ربوع العالم، بالقرآن الكريم، مصدر تلك الهداية، ومنبع ذلك الإشراق، عناية كبرى شملت جميع نواحيه، وأحاطت بكلّ ما يتّصل به، وكان لها آثارها المباركة الطيّبة في حياة الإنسان عامّة، والمسلمين خاصّة، أفاد منها العلم، وأفاد منها العقل، وأفاد منها الدين، وأفاد منها الفنّ، وأفاد منها القانون والتشريع، وأفادت منها الفلسفة والأخلاق، وأفادت منها السياسة والحكم، وأفاد منها الاقتصاد والمال، وأفاد منها كلّ مظهرمن مظاهر النشاط الفكري والعملي عرفه الناس في حياتهم المادية والروحية.

ولقد زخرت المكتبة الإسلاميّة من آثار هذا النشاط العظيم، بل زخرت مكتبات أخرى في لغات أخرى وأمم أخرى، بكنوز رائعة يقف العقل أمامها حائراً مشدوهاً، يخالجه مزيج من الإعجاب والمهابة، ويملكه معنى عميق من معاني الخضوع، أمام هذه العظمة التي لا كفاء لها إلا الإقرار بالعجز والخضوع !

ولكي ندرك مدى هذه العناية الكبرى التي تلقّى بها المسلمون القرآن الكريم في جميع عصورهم ومراحل حياتهم، وعلى أيدي علمائهم وملوكهم ووزرائهم وأمرائم وأغنيائهم وأرباب الفنّ فيهم، وأهل الإحسان في كلّ ناحية من نواحي الإحسان، لكي ندرس مدى هذه العناية الكبرى، علينا أن نلتفت إلى ما سجّله التاريخ الفكري للمسلمين.

لا نكاد نعرف علماً من العلوم التي اشتغل بها المسلمون في تاريخهم الطويل، إلا كان الباعث عليه هو خدمة القرآن الكريم من ناحية ذلك العلم، فالنحو الذي يقوّم اللسان ويعصمه من الخطأ، أريد به خدمة النطق الصحيح للقرآن، وعلوم البلاغة التي تبرز خصائص اللّغة العربيّة وجمالها، أريد بها بيان نواحي الإعجاز في القرآن، والكشف عن أسراره الأدبيّة.. وتتبّع مفردات اللغة، والتماس شواردها وشواهدها وضبط ألفاظها، وتحديد معانيها، أريد بها صيانة ألفاظ القرآن ومعانيه أن تعدو عليها عوامل التحريف أو الغموض.. والتجويد والقراءات، لضبط أداء القرآن وحفظ لهجاته، والتفسير لبيان معانيه، والكشف عن مراميه، والفقه لاستنباط أحكامه، والأصول لبيان قواعد تشريعه العام وطريقة الاستنباط منه.. وعلم الكلام لبيان ما جاء به من العقائد، وأسلوبه في الاستدلال عليها، وقل مثل هذا في التاريخ الذي يشتغل به المسلمون تحقيقاً لما أوحى به الكتاب الكريم في مثل قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ}. {وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}. {وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ}.. وقل مثل هذا أيضاً في علم تقويم البلدان وتخطيط الأقاليم، الّذي يوحي به مثل قوله تعالى: {سِيرُواْ فِي الأَرْضِ}، {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا}، وفي علوم الكائنات التي يوحي بها مثل قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ...}، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ* يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ* وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

وهكذا علوم الفلك والنجوم والطبّ، وعلوم الحيوان والنبات، وغير ذلك من علوم الإنسان، لا يخلو علم منها أن يكون الاشتغال به في نظر من اشتغل به من المسلمين مقصوداً به خدمة القرآن، أو تحقيق إيحاء أوحى به القرآن… حتى الشعر، إنما اشتغلوا به ترقية لأذواقهم، وتربية لملكاتهم، وإعداداً لها كي تفهم القرآن وتدرك جمال القرآن، وحتى العروض كان من أسباب عنايتهم به أنه وسيلة لمعرفة بطلان قول المشركين: إنّ محمداً شاعر، وإن ما جاء به شعر.

وتبعاً لهذه الأنحاء المختلفة في نظر المسلمين إلى القرآن واشتغالهم به، نرى التفاسير ذات ألوان متنوعة، فمنها ما يغلب عليه تطبيق قواعد النحو وبيان إعراب الكلمات وبنائها، ومنها ما يغلب عليه بيان نواحي البلاغة والإعجاز، ومنها ما يهتمّ بالفقه والتشريع وبيان أصول الأحكام... وهكذا.

ولعلّ مما يدلنا أيضاً على مدى هذه العناية، أن الذين فاتتهم القدرة على معالجة القرآن من هذه النواحي العلمية، لم يفتهم أن يضربوا بسهم في نواحٍ أخرى، جعلوها مظهراً من مظاهر عنايتهم، وسبيلاً إلى نيل حظهم من رضا الله وثوابه، فهذا يكتب القرآن بخطّ جميل، وهذا يزخرف صفحاته وأوائل سوره، وهذا يرقّم آياته، وهذا يطرّز سجلّه وغلافه، وهذا يرصد الأموال لتحفيظه، والمكافأة على التبريز فيه، ومازالت المساجد إلى يومنا هذا محتفظة بمظهر من هذه المظاهر، هو تلك المقارئ التي يجتمع فيها القراء يتبادلون فيها قراءته وتجويده والاستماع إليه.

لهذا كلّه، أعتقد أني لا أتجاوز حدّ القصد والاعتدال إذا قلت: إنه لم يظفر كتاب من الكتب، سماوياً كان أو أرضياً، في أية أمة من الأمم، قديمها وحديثها، بمثل ما ظفر به القرآن على أيدي المسلمين، ومن شارك في علوم المسلمين.

ولعلّ هذا يفسِّر لنا جانباً من الرعاية الإلهيّة لهذا الكتاب الكريم الذي تكفَّل الله بحفظه وتخليده في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. فما كان الحفظ والتخليد بمجرد بقاء ألفاظه وكلماته مكتوبة في المصاحف، مقروءة بالألسنة، متعبداً بها في المساجد والمحاريب، إنما الحفظ والخلود بهذه العظمة التي شغلت الناس، وملأت الدنيا، وكانت مثاراً لأكبر حركة فكرية اجتماعية عرفها البشر! ومن فضل الله علينا في هذا العصر، أنّ الرّكب سائر لم يقف، ولم يفتر، وأنّ هذا الروح الكريم مايزال يسيطر على المسلمين، وينتقل فيهم من جيل إلى جيل يورّثه الآباء للأبناء، وسيظلّ كذلك إن شاء الله، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.

وهؤلاء هم المسلمون، على تفرّقهم في البلاد والأقاليم، وتفرّقهم في السلطان والنفوذ، وضعفهم المادي أمام دول الغرب، وبالرغم مما غمروا به وغزوا من علوم متنوّعة، وثقافات متعدّدة ذات ألوان ماديّة، وأدبيّة، واجتماعيّة، وتشريعيّة، لايزالون يعتصمون بالقرآن، ويدينون بقدسية القرآن، ويتآزرون على خدمة القرآن.

وإنهم ليستشرفون جميعاً لمطلع ذلك اليوم الذي يعود فيه سلطان القرآن، فيكون التشريع تشريع القرآن، والأخلاق أخلاق القرآن، والهدى هدى القرآن، ونرجو أن يكون قريباً.

وإذا كان المسلمون قد تلقوا كتاب الله بهذه العناية، واشتغلوا به على هذا النحو الذي أفادت منه العلوم والفنون، فإنّ هناك، مع الأسف الشديد، ناحيتين كان من الخير أن يظلّ القرآن بعيداً عنهما، احتفاظاً بقدسيته وجلاله. هاتان الناحيتان هما:

ناحية استخدام آيات القرآن لتأييد الفرق والخلافات المذهبية، وناحية استنباط العلوم الكونية والمعارف النظرية الحديثة منه. وأحب أن أثبت على صفحات هذه المجلة، وبين يدي ما سأكتبه لها من التفسير، رأيي في هاتين الناحيتين واضحاً، فأقول:

أما الناحية الأولى: فإنه لما حدثت بدعة الفرق، والتطاحن المذهبي، والتشاحن الطائفي، وأخذ أرباب المذاهب، وحاملو رايات الفرق المختلفة، يتنافسون في العصبيات المذهبية والسياسية، امتدّت أيديهم إلى القرآن، فأخذوا يوجّهون العقول في فهمه وجهاتٍ تتّفق وما يريدون، وبذلك تعدّدت وجهات النظر في القرآن، واختلفت مسالك الناس في فهمه وتفسيره، وظهرت في أثناء ذلك ظاهرة خطيرة، هي تفسير القرآن بالروايات الغريبة، والإسرائيليات الموضوعة التي تلقّفها الرواة من أهل الكتاب، وجعلوها بياناً لمجمل القرآن، وتفصيلاً لآياته، ومنهم من عني بتنزيل القرآن على مذهبه أو عقيدته الخاصّة، وبذلك وجدت تحكّمات الفقهاء والمتكلّمين وغلاة المتصوفة وغيرهم ممن يروّجون لمذاهبم، ويستبيحون في سبيل تأييدها والدعاية لها، أن يقتحموا حمى القرآن، فأصبحنا نرى من يؤول الآيات لتوافق مذهب فلان، ومن يخرجها عن بيانها الواضح، وغرضها المسوقة له، لكيلا تصلح دليلاً لمذهب فلان، وبهذا أصبح القرآن تابعاً بعد أن كان متبوعاً، ومحكوماً عليه بعد أن كان حاكماً!...

وأما الناحية الثانية: فإن طائفة أخرى هي طائفة المثقفين الذين أخذوا بطرف من العلم الحديث، وتلقّنوا، أو تلقّفوا، شيئاً من النظريات العلمية والفلسفية والصحية وغيرها، أخذوا يستندون إلى ثقافتهم الحديثة، ويفسّرون آيات القرآن على مقتضاها.

نظروا في القرآن، فوجدوا الله سبحانه وتعالى يقول: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}، فتأوّلوها على نحو زيّن لهم أن يفتحوا في القرآن فتحاً جديداً، ففسّروه على أساس من النظريات العلمية المستحدثة، وطبّقوا آياته على ما وقعوا عليه من قواعد العلوم الكونية، وظنّوا أنهم بذلك يخدمون القرآن، ويرفعون من شأن الإسلام، ويدعون له أبلغ دعاية في الأوساط العلمية والثقافية.

نظروا في القرآن على هذا الأساس، فأفسد ذلك عليهم أمر علاقتهم بالقرآن وأفضى بهم إلى صور من التفكير لا يريدها القرآن، ولا تنّفق مع الغرض الذي من أجله أنزله الله... هذه النظرة للقرآن خاطئة من غير شكّ، لأنّ الله لم ينزل القرآن ليكون كتاباً يتحدّث فيه إلى الناس عن نظريات العلوم ودقائق الفنون وأنواع المعارف.

وهي خاطئة من غير شكّ، لأنها تحمل أصحابها والمغرمين بها على تأويل القرآن تأويلاً متكلفاً يتنافى مع الإعجاز، ولا يسيغه الذوق السليم.

وهي خاطئة لأنها تعرّض القرآن للدوران مع مسائل العلوم في كلّ زمان ومكان، والعلوم لا تعرف الثبات ولا القرار ولا الرأي الأخير، فقد يصحّ اليوم في نظر العلم ما يصبح غداً خرافة من الخرافات.

فلو طبّقنا القرآن على هذه المسائل العلميّة المتقلّبة، لعرضناه للتقلّب معها، وتحمّل تبعات الخطأ فيها، ولأوقفنا أنفسنا بذلك موقفاً حرجاً في الدفاع عنه.

فلندع للقرآن عظمته وجلالته، ولنحفظ عليه قدسيّته ومهابته، ولنعلم أنّ ما تضمّنه من الإشارة إلى أسرار الخلق وظواهر الطبيعة، إنما هو لقصد الحثّ على التأمّل والبحث والنظر، ليزداد الناس إيماناً مع إيمانهم.

*من مقالة منشورة في مجلة "رسالة الإسلام"، العدد 1.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية