قال الله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتَابَ
عَلَيْهِ وَهَدَى}[طه: 121].
وهناك حديث كثير في علم الكلام عن معصية آدم، باعتباره نبيّاً معصوماً، في ما تفرضه
صفة النبوّة من العصمة التي تحمي المجتمع من انحرافه في مقام الدعوة، أو في مقام
التطبيق. ويتساءل العلماء عن الآية التي تصرّح بالمعصية، ويجيبون تارةً بأنّ الجنة
ليست موضع عمل أو تكليف حتى تكون محلاً لإثارة مشكلة الخطأ والصّواب، وأخرى، بأنّ
المعصية ليست لأمر تكليفي يستتبع الجزاء والعقاب، بل هي لأمر إرشاديّ يستتبع الضّرر
الذاتي الذي يترك تأثيره على حياة الإنسان، بعيداً من مواقع الانحراف الفكري
والروحي الذي يضرّ بالحياة العامّة للمجتمع.
سرّ أم مسؤوليّة؟
ويدور حديث آخر حول العصمة، وهل هي عبارة عن سرّ مكنون في الذات يولد مع النبي، فلا
يمكن أن ينفصل عنه؟ أو هي عبارة عن حركة المسؤوليّة المنطلقة في حياته من مواقعها
المراعية للإرادة الإلهيّة التي تمنحها الإيمان وقوّة الالتزام والانضباط أمام
الاهتزاز في الإرادة تحت ضغط نقاط الضّعف؟ ويثير آخرون مسألة نبوّة آدم بالمعنى
المصطلح لدور النبي، وما يعنيه من حمل رسالة تتحرّك في خطّ الدعوة والتبليغ، وينقسم
الرّأي في إعطاء معقوليّة لدوره كرسول، فمنهم من ينكرها لفقدان المجتمع الذي يمكن
أن يشكّل ساحة للدّعوة، ومنهم من يثبتها لأنّ فعليّتها، أي ممارسة الدّور فيها،
ستتحدّد في المستقبل، بعد أن يتحوّل الجيل الجديد إلى مجتمع يبحث عن القاعدة
الفكريّة الروحيّة، لقيام بنائه.
وهكذا، أثارت هذه الآية الكثير من الحديث عن جانب العصمة لدى الأنبياء بشكل عامّ من
خلال الإيمان بنبوّة آدم، وعن نبوّة آدم بالذات في ما ألمحنا إليه، مما لا نجد كبير
فائدة في الدخول في تفاصيله في هذا البحث التفسيري. ولكنّنا نستفيد منها نقطتين:
الأولى: إنّ النبوّة تلتقي بمواقع الضّعف البشريّ في أكثر من موقع، ولا تفرض الكمال
الذي يبتعد عن طبيعته البشريّة.
الثانية: إنَّ القرآن لا يريد أن يعطي النبيّ هالة مقدَّسة في مجال التصور، بل يريد
أن يدفع بالتصوّر إلى أن يتحرّك بشكل طبيعيّ في فهم الشخصيّة، من خلال البعد
الظاهري الذي يكشف عن العمق الداخلي، عبر الوسائل العاديّة التي يملكها الناس في
معرفة عمق الأشياء من خلال ظواهرها.
توبة الله عليه
{ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ} واصطفاه إليه واختاره لنفسه، فلم يتركه حائراً ضائعاً
في قبضة إبليس، {فَتَابَ عَلَيْهِ} ورضي عنه، {وَهَدَى} وفتح له أبواب رحمته، ودلّه
على الطريق المستقيم، وأراده أن يواجه الحياة من مواقع قوّة الإرادة في ساحة
الصّراع مع الشيطان، ولعلَّ الله سبحانه أراد أن يجعل له من تجربة العصيان في
الجنّة، فترة تدريبية للتعرّف إلى طرق الشيطان وأساليبه، من الكذب والغشّ والدجل
والخيانة والرّياء، وذلك قبل أن ينزل إلى الأرض التي أعدَّه الله ليكون خليفة له
فيها، فيستفيد من تجربة سقوطه وخروجه من الجنّة نتيجةً لإغواء الشيطان، ويعمل على
تفادي مكائده في الأرض بعد أن ذاق مرّها في الجنة، وخصوصاً أنّه سيوكل إليه دوراً
رسالياً يجب أن يتسلّمه وهو في مواقع القوّة لا الضّعف.
وهكذا أراد الله له أن يعيش الشعور برضا الله عنه، وهدايته له في ما يريد له أن
يتحرّك فيه.
{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} قالها لإبليس، كما
قالها لآدم وحوّاء. وقد استحكمت العقدة بينهما، فهذا إبليس يريد أن يضلّل آدم وولده،
وينحرف بهم عن طريق الله، ويضع بينهم وبين الله الحواجز.
وهذا آدم، يعمل على أن يحمل الرسالة لأولاده، ويحمّل أولاده الرّسالة من بعده،
ليحاربوا الشيطان، وليحذروا منه، وليقعدوا له كلّ مرصد، وليفتحوا الحياة كلّها على
الله، ليكون الدين كلّه لله.
قالها الله لهم، ثم بيَّن لهم البرنامج العملي الذي يمثّل خطّ الهلاك، وخطّ النجاة،
{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ
وَلاَ يَشْقَى}، لأنّه هو السّبيل الذي يقود الناس إلى الطريق المستقيم الذي يحقّق
لهم سعادتهم في ما يأخذون وفي ما يدعون من شؤون الحياة الدنيا، المستندة إلى
البرنامج الرّسالي الذي ينظر الله فيه إلى خلقه في ما يصلحهم وفي ما يفسدهم، وهو
العالم بذلك والخبير به، فلا يحيط الخلق بما يحيط به المخلوق.
*من كتاب "تفسير من وحي القرآن"، ج 15، ص 166-167.
قال الله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتَابَ
عَلَيْهِ وَهَدَى}[طه: 121].
وهناك حديث كثير في علم الكلام عن معصية آدم، باعتباره نبيّاً معصوماً، في ما تفرضه
صفة النبوّة من العصمة التي تحمي المجتمع من انحرافه في مقام الدعوة، أو في مقام
التطبيق. ويتساءل العلماء عن الآية التي تصرّح بالمعصية، ويجيبون تارةً بأنّ الجنة
ليست موضع عمل أو تكليف حتى تكون محلاً لإثارة مشكلة الخطأ والصّواب، وأخرى، بأنّ
المعصية ليست لأمر تكليفي يستتبع الجزاء والعقاب، بل هي لأمر إرشاديّ يستتبع الضّرر
الذاتي الذي يترك تأثيره على حياة الإنسان، بعيداً من مواقع الانحراف الفكري
والروحي الذي يضرّ بالحياة العامّة للمجتمع.
سرّ أم مسؤوليّة؟
ويدور حديث آخر حول العصمة، وهل هي عبارة عن سرّ مكنون في الذات يولد مع النبي، فلا
يمكن أن ينفصل عنه؟ أو هي عبارة عن حركة المسؤوليّة المنطلقة في حياته من مواقعها
المراعية للإرادة الإلهيّة التي تمنحها الإيمان وقوّة الالتزام والانضباط أمام
الاهتزاز في الإرادة تحت ضغط نقاط الضّعف؟ ويثير آخرون مسألة نبوّة آدم بالمعنى
المصطلح لدور النبي، وما يعنيه من حمل رسالة تتحرّك في خطّ الدعوة والتبليغ، وينقسم
الرّأي في إعطاء معقوليّة لدوره كرسول، فمنهم من ينكرها لفقدان المجتمع الذي يمكن
أن يشكّل ساحة للدّعوة، ومنهم من يثبتها لأنّ فعليّتها، أي ممارسة الدّور فيها،
ستتحدّد في المستقبل، بعد أن يتحوّل الجيل الجديد إلى مجتمع يبحث عن القاعدة
الفكريّة الروحيّة، لقيام بنائه.
وهكذا، أثارت هذه الآية الكثير من الحديث عن جانب العصمة لدى الأنبياء بشكل عامّ من
خلال الإيمان بنبوّة آدم، وعن نبوّة آدم بالذات في ما ألمحنا إليه، مما لا نجد كبير
فائدة في الدخول في تفاصيله في هذا البحث التفسيري. ولكنّنا نستفيد منها نقطتين:
الأولى: إنّ النبوّة تلتقي بمواقع الضّعف البشريّ في أكثر من موقع، ولا تفرض الكمال
الذي يبتعد عن طبيعته البشريّة.
الثانية: إنَّ القرآن لا يريد أن يعطي النبيّ هالة مقدَّسة في مجال التصور، بل يريد
أن يدفع بالتصوّر إلى أن يتحرّك بشكل طبيعيّ في فهم الشخصيّة، من خلال البعد
الظاهري الذي يكشف عن العمق الداخلي، عبر الوسائل العاديّة التي يملكها الناس في
معرفة عمق الأشياء من خلال ظواهرها.
توبة الله عليه
{ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ} واصطفاه إليه واختاره لنفسه، فلم يتركه حائراً ضائعاً
في قبضة إبليس، {فَتَابَ عَلَيْهِ} ورضي عنه، {وَهَدَى} وفتح له أبواب رحمته، ودلّه
على الطريق المستقيم، وأراده أن يواجه الحياة من مواقع قوّة الإرادة في ساحة
الصّراع مع الشيطان، ولعلَّ الله سبحانه أراد أن يجعل له من تجربة العصيان في
الجنّة، فترة تدريبية للتعرّف إلى طرق الشيطان وأساليبه، من الكذب والغشّ والدجل
والخيانة والرّياء، وذلك قبل أن ينزل إلى الأرض التي أعدَّه الله ليكون خليفة له
فيها، فيستفيد من تجربة سقوطه وخروجه من الجنّة نتيجةً لإغواء الشيطان، ويعمل على
تفادي مكائده في الأرض بعد أن ذاق مرّها في الجنة، وخصوصاً أنّه سيوكل إليه دوراً
رسالياً يجب أن يتسلّمه وهو في مواقع القوّة لا الضّعف.
وهكذا أراد الله له أن يعيش الشعور برضا الله عنه، وهدايته له في ما يريد له أن
يتحرّك فيه.
{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} قالها لإبليس، كما
قالها لآدم وحوّاء. وقد استحكمت العقدة بينهما، فهذا إبليس يريد أن يضلّل آدم وولده،
وينحرف بهم عن طريق الله، ويضع بينهم وبين الله الحواجز.
وهذا آدم، يعمل على أن يحمل الرسالة لأولاده، ويحمّل أولاده الرّسالة من بعده،
ليحاربوا الشيطان، وليحذروا منه، وليقعدوا له كلّ مرصد، وليفتحوا الحياة كلّها على
الله، ليكون الدين كلّه لله.
قالها الله لهم، ثم بيَّن لهم البرنامج العملي الذي يمثّل خطّ الهلاك، وخطّ النجاة،
{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ
وَلاَ يَشْقَى}، لأنّه هو السّبيل الذي يقود الناس إلى الطريق المستقيم الذي يحقّق
لهم سعادتهم في ما يأخذون وفي ما يدعون من شؤون الحياة الدنيا، المستندة إلى
البرنامج الرّسالي الذي ينظر الله فيه إلى خلقه في ما يصلحهم وفي ما يفسدهم، وهو
العالم بذلك والخبير به، فلا يحيط الخلق بما يحيط به المخلوق.
*من كتاب "تفسير من وحي القرآن"، ج 15، ص 166-167.