وهكذا التقيت (في النجف) بالشهيد السيّد محمد باقر الصّدر، الذي كانت علاقتي
بأخيه السيد إسماعيل الصدر قويةً، وكذلك كانت علاقتي مع آل الصّدر بالمستوى الحميم
جداً، وأذكر أنّه طلب مني تقريرات ما كتبته من بحث درس السيّد الخوئي، وقال: إنّني
أريد أن أثبت للسيّد الخوئي أنّ في العرب فضلاء. وأخذ مني التقرير وأقرأه للسيّد
الخوئي، وكما ذكر لي، كان انطباع السيّد الخوئي جيّداً حول هذا الموضوع.
وانطلقنا معاً في الحركة الإسلامية في النجف من خلال هذا التجمع الإسلامي الحركي
الذي كان يضم نخبةً من الشباب المؤمن المجاهد، كالمرحوم عبد الصاحب دخيّل، والمرحوم
أبو حسن السبيتي، والسيد مهدي الحكيم... إلى آخره، وكان الشهيد الصدر هو المنظِّر
للحركة الإسلامية، وكنا معاً في الإشراف على مجلّة "الأضواء" التي كانت تصدر باسم
جماعة علماء النجف الأشرف، وكان السيّد الشّهيد الصدر يكتب الافتتاحيّة الأولى
بعنوان "رسالتنا"، وكنت أكتب الافتتاحيّة الثانية بعنوان "كلمتنا".
كنا نفكّر في الإسلام الحضاري الوحدوي المنفتح، وقد كان من أهدافنا التّخطيط والعمل
من أجل الوحدة الإسلاميّة، ولذلك كانت عندنا علاقات مع بعض الحركيّين من علماء
المسلمين السنّة، ومنهم الشهيد عبد العزيز البدري، وكنا نعمل على أن تكون مجلّة "الأضواء"
الإسلامية المجلة التي تتابع قضايا المسلمين في العالم. ولذلك كانت المجلة هي التي
واجهت مسألة اعتراف الشّاه بإسرائيل بطريقة واقعيّة، ما أغضب البعض ممن يؤيّدون
الشّاه في الحوزة العلميّة النجفيّة، ووصلت رسالة إلى السيّد الحكيم تطلب منه
التدخّل لحلّ هذا الموضوع.
لقد كنّا نفكّر في الإسلام على مستوى العالم، على أساس أنّه رسالة الله التي أوحى
بها إلى النبيّ محمّد (ص)، وقال له: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً
لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}[سبأ: 28]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107]، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ
إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}[الأعراف: 158]. لذلك، كنا في طموحاتنا الفكريّة نفكّر في
أسلمة العالم.
لقد عشت مع السيد الشهيد (رحمه الله) علاقات حميمةً وقويّةً، وكنا نلتقي في الخطّ
الإسلامي الأصيل، وكان هو الذي اقترح عليّ أن أكتب الافتتاحيّة الثانية في مجلّة "الأضواء"
الإسلامية، وكنت أتابع نموّ السيد الشهيد حتى في بدايات شبابه، لأنّه كان ظاهرة
فكرية قلّما تجدها في الأشخاص الذين كانوا في مستوى عمره، وربما كان للبيئة التي
ولد فيها دور كبير في تشجيعه، باعتبار أنّ خاله، وهو المرجع الكبير، الشيخ محمد رضا
آل ياسين، كان أستاذاً لمجموعة من فضلاء النجف الأشرف، الذين كانت الحوزة العلميّة
تحترمهم، وتجد فيهم المجتهدين والفضلاء الكبار، وكان هؤلاء يشجّعونه عندما كان يطرح
بعض أفكاره في المجالس، وبذلك احتُضِنَ عاطفياً من خلال هذه المجموعة من الفضلاء،
حتى قيل إن المرحوم الفقيه الشيخ عباس الربيشي، كان يطلب منه أن يجلس إليه عندما
كان يكتب بعض فتاواه.
وقد انفتح السيد الشهيد في مرحلته الأولى على الأبحاث الأصولية، وتأثّر تأثراً
بالغاً بالمرحوم الشيخ محمد حسين الأصفهاني، المعروف بأصوليته الفلسفية، وكان
يتباحث مع بعض الطلاب في النجف حول حاشيته على الكفاية، كما تأثر بالشّيخ ضياء
الدين العراقي، ثم انطلق بعد ذلك في درس أستاذنا السيّد أبي القاسم الخوئي، الذي
كان يقدّره تقديراً كبيراً، حتى إنّه عندما كان يطرح أيّ إشكال في الدرس، كان
السيّد الخوئي (رحمه الله) يقرّر إشكاله أمام التلامذة ويجيب عنه.
وهكذا كان يتحرّك في الحوزة العلمية وهو في سنّ مبكرة جداً، وكان يُنظر إليه كأستاذ
لبعض كتب السطوح التي لا يدرسها إلا الأشخاص الذين يملكون الثقافة الأصولية العميقة.
وهكذا بدأ درس الفلسفة عند أستاذها المعروف في النّجف، الشيخ ملا صدرا البادكوبي،
حتى إنّ أخاه السيّد إسماعيل الصّدر، استبدل كتاب "الحدائق" التي كانت عندهم بكتاب
الأسفار، لكي يدرِّس السيّد محمد باقر الصّدر هذا الكتاب.
إلى جانب كلّ ذلك، كان السيّد الصّدر يشرف على التيار الإسلامي، وينظِّر للحركة
الإسلاميّة في ما كتبه من الأسس الإسلاميّة، وكان الإسلاميون، ومنهم الشيخ عارف
البصري (رحمه الله) وآخرون، يلتقون معه ويجتمعون عنده ويستفيدون منه. ولذلك، فإننا
نعتقد أنه كان يمثل القيادة الفكرية للحركة الإسلامية، وعندما حدث الانقلاب في
العراق من خلال عبد الكريم قاسم، ونشأت جماعة العلماء في النجف الأشرف كردّ فعل على
المدّ الأحمر، كان هو الذي يكتب بيانات جماعة العلماء في النجف الأشرف.
وقد قام بدور كبير في الردّ على الماركسية من خلال كتابه "فلسفتنا"، ثم كتابه "اقتصادنا"،
ما أعطى الثقافة الإسلاميّة في العالم خطّاً جديداً، لأنه كان أوّل كاتب إسلامي
يؤلّف كتاباً في الاقتصاد الإسلامي بالطريقة العلميّة التي تقارن بين الاقتصاد
الرأسمالي والاقتصاد الماركسي والاقتصاد الإسلامي، ولايزال المثقفون المسلمون في
العالم يستفيدون من كتاب "اقتصادنا"، ولم يحدث أن ألّف أيّ مفكر إسلامي، حتى من
المتخصّصين في مجال الاقتصاد، كتاباً جديداً يماثل هذا الكتاب.
إننا نقول الآن، كما قلنا لكثير من أخواننا وأبنائنا من الدّعاة الإسلاميّين
السائرين على نهج الشّهيد الصّدر والمنفتحين على فكره الإسلامي، إنهم مسؤولون في
العراق الجديد، أوّلاً بأن يطلقوا هذا الفكر الإسلامي في الواقع الشعبي، لأنّ هناك
خطة أمريكية غربية، وربما عربية، في إبعاد الإسلام عن أن يكون هو الطّابع الذي
يتحرّك به العراق الجديد.
لذلك نقول لهم إنّ الإسلام أمانة الله في أعناقكم، وإنّ عليكم أن لا تنشغلوا عن
الإسلام في كلّ حركتكم، وفي كلّ علاقتكم، وفي كلّ أوضاعكم. الوحدة الإسلاميّة هي
الخيار الوحيد لكم، ونعتقد أنّ أيّ نوع من أنواع التمزّق على أساس الطموحات
الشخصيّة هنا وهناك، أو على أساس الخلافات الهامشيّة، سوف يكون خيانة للإسلام كلّه
وللعراق كلّه، وخيانة للسيّد الشّهيد الذي بذل حياته من أجل الإسلام.
ولذلك، فإنّ الإخلاص لدمه الطاهر، هو أن تتوحّدوا في فكره، وتتوحّدوا في نهجه،
وتتوحّدوا في خطّه السياسي الذي يعتبر العراق مجرّد قاعدة إسلاميّة لا بدّ من أن
تمتد إلى العالم كله.
*من حوار مع تلفزيون المسار العراقي، بتاريخ: 27 ربيع الأوّل 1430 هـ/ الموافق:
24/03/2009 م.