اتّفقت الأمّة الإسلامية على وجوب نصب الإمام، سوى فرقة "العجاردة" من الخوارج، ومعهم حاتم الأصمّ، أحد شيوخ المعتزلة، فذهب المسلمون إلى وجوب نصب الإمام، إمّا على الله سبحانه كما عليه الشّيعة، وإمّا على الأمّة كما عليه غيرهم، فوجوب نصب الإمام لا خلاف فيه بين المسلمين، وإنَّما الكلام في تعيين من يجب عليه ذلك.
وليس المراد من وجوبه على الله سبحانه، هو إصدار الحكم من العباد على الله سبحانه، حتّى يقال: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ﴾، بل المراد، كما ذكرنا غير مرّة، أنّ العقل حسب التعرّف على صفاته سبحانه، من كونه حكيماً غير عابث، يكشف عن كون مقتضى الحكمة هو لزوم النصب أو عدمه، وإلاّ فالعباد أقصر من أن يكونوا حاكمين على الله سبحانه.
ثمّ إنّ اختلافهم في كون النصب فرضاً على الله أو على الأمّة، ينجم عن اختلافهم في حقيقة الخلافة والإمامة عن رسول الله. فمن ينظر إلى الإمام كرئيس دولة ليس له وظيفة إلّا تأمين الطرق والسبل، وتوفير الأرزاق، وإجراء الحدود، والجهاد في سبيل الله، إلى غير ذلك ممّا يقوم به رؤساء الدّول بأشكالها المختلفة، فقد قال بوجوب نصبه على الأمّة، إذ لا يشترط فيه من المواصفات إلاّ الكفاءة والمقدرة على تدبير الأمور، وهذا ما يمكن أن تقوم به الأمّة الإسلامية، وأمّا على القول بأنَّ الإمامة استمرار لوظائف الرسالة (لا لنفس الرسالة، فانّ الرسالة والنبوّة مختومتان بالتحاق النبي الأكرم بالرفيق الأعلى)، فمن المعلوم أنّ تقلّد هذا المقام يتوقّف على توفّر صلاحيات عالية لا ينالها الفرد، إلاّ إذا حظي بعناية إلهية خاصة، فيخلف النبي في علمه بالأصول والفروع، وفي سد جميع الفراغات الحاصلة بموته، ومن المعلوم أنّه لا تتعرّف عليه الأمّة إلاّ عن طريق الرسول، ولا يتوفّر وجوده إلاّ بتربية غيبيّة.
فقد ظهر من ذلك أنّ كون القيادة الإسلامية بعد النبي بيد الله أو بيد الأمّة، أو أنّ التعيين هل هو واجب عليه سبحانه أو عليهم، ينجم عن الاختلاف في ماهية الخلافة.
فمن جعلها سياسة زمنية وقتية يشغلها فرد من الأمّة بأحد الطرق، قال في حقه: «لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه بغصب الأموال وضرب الابشار، وتناول النفوس المحرّمة، وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود، ولا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظه وتخويفه، وترك طاعته في شيء ممّا يدعو إليه من معاصي الله».
فمن قال: بأنّ الإمام بعد الرسول أشبه برئيس الدولة والوزراء، تنتخبه الأمّة الإسلامية، قال في حقه: «ولا نرى الخروج على أئمّتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة. والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين، برّهم وفاجرهم، إلى قيام الساعة، ولا يبطلهما شيء ولا ينقضهما».
وقد درج على هذه الفكرة متكلّمو السنّة ومحدّثوهم، حتّى قال التفتازاني: «ولا ينعزل الإمام بالفسق، أو بالخروج عن طاعة الله تعالى، والجور (الظلم على عباد الله)، لأنّه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الأئمّة والأمراء بعد الخلفاء الراشدين، والسلف كانوا ينقادون لهم، ويقيمون الجمع والأعياد بإذنهم، ولا يرون الخروج عليهم، ونقل عن كتب الشافعية: أنّ القاضي ينعزل بالفسق بخلاف الإمام، والفرق أنّ في انعزاله ووجوب نصب غيره إثارة الفتنة، لما له من الشوكة، بخلاف القاضي».
ومن فسّر الإمامة بأنّها عبارة عن إمرة إلهية واستمرار لوظائف النبوّة كلّها سوى تحمّل الوحي الإلهي، فلا مناص له عن القول: بوجوب نصبه على الله سبحانه.
وقد استدلّت الإمامية على وجوب نصب الإمام على الله سبحانه: بأنّ وجود الإمام الّذي اختاره الله سبحانه، مقرّب من الطاعات، ومبعد عن المعاصي، وقد أوضحوه في كتبهم الكلامية. والمراد من اللطف المقرّب هنا، ما عرفت من أنّ رحلة النبي الأكرم تترك فراغات هائلة بين الأمّة في مجالي العقيدة والشريعة، كما تترك جدالاً ونزاعاً عنيفاً بين الأمّة في تعيين الإمام. فالواجب على الله سبحانه من باب اللطف، هو سدّ هذه الفراغات بنصب من هو صنو النبيّ الأكرم في علمه بالعقيدة والشّريعة، وفي العدالة والعصمة، والتدبير والحنكة، وحسم مادة النزاع المشتعل برحلة الرسول، ولمّ شعث الأمَّة، وجمعهم على خطّ واحد.
والعجب أنّ المعتزلة ممّن تقول: بوجوب اللطف والأصلح على الله سبحانه، ولكنّهم لم يلتزموا بها في المقام، مع العلم بأنّ المورد من جزئياته، والّذي منعهم عن الالتزام بالقاعدة في المقام، بأنّهم لو قالوا بها في هذه المسألة، لزمهم أن يقولوا بعدم صحة خلافة الخلفاء المتقدمين على عليّ، لأنّ قاعدة اللّطف تقتضي أن يكون الخليفة منصوصاً عليه من الله سبحانه.
ثمّ إنّك تعرّفت على أنّ الرسول الأكرم بوحي من الله سبحانه، قام بتطبيق القاعدة، ونصب إماماً للأمَّة، ليقود أمرهم ويسدّ جميع الفراغات الحاصلة بلحوقه بالرفيق الأعلى، وبذلك حسم مادة النزاع، وقطع الطريق على المشاغبين، ولكنَّه ـ وللأسف ـ تناست الأمَّة وصيّة الرسول وأمره، فانقسموا إلى طوائف وأحزاب، وقامت بينهم المعارك والحروب الّتي أريقت فيها الدّماء واستبيحت الأعراض، وتبدَّلت المفاهيم، واختلفت القيم، ومازال ولم تزل معاناة الأمّة من هذا الانشقاق، وأصبح التقريب فضلاً عن الوحدة أمراً متعسّراً على المفكرين.
نسأل الله سبحانه أن يسدّ تلك الفجوة العميقة، بإيقاظ شعور علماء الأمَّة ومصلحيهم في المستقبل.
*من كتاب "بحوث في الملل والنّحل، ج6، ص 283-286.