كتابات
12/04/2019

الإعلام المضلل

الإعلام المضلل
إنَّ هذه القضيّة في عصرنا الحاضر أوضح من أن تبحث أو تُناقش، كما أنّها لم تخفَ على النّاس في العهود الغابرة.

إنّ الجبابرة الذين أرادوا فرض إرادتهم وحاكميّتهم على‏ الناس، توسلوا بوسائل إعلاميّة مختلفة لغسل أدمغة الناس، بدءاً بالمكاتيب القديمة، وانتهاءً بالمحاريب والمنابر، وأخذاً برواة القصص والأساطير في المقاهي، وانتهاءً بالكتب العلميّة.

والخلاصة: إنّهم استعانوا بجميع الوسائل المضلِّلة للوصول إلى‏ مآربهم؛ من تحريف التاريخ، وأشعار الشعراء، وثناء المداحين، ومراكز التقديس والاحترام عند الناس، واختلاق الأساطير والكرامات والقيم غير الواقعية، وغيرها من الوسائل، فانّهم يستطيعون بوسائل الإعلام هذه أن يصوّروا الشيطان ملكاً أو إنساناً محترماً، وذلك كلّه من أجل الوصول إلى‏ مآربهم.
وقد جاء في بعض التواريخ الإسلامية المعروفة، أن طاعة أهل الشام لمعاوية بلغت درجة عجيبة، وننقل هنا عبارة المسعودي في هذا المجال :"لقد بلغ من أمرهم في إطاعتهم له، أنَّه صلَّى‏ بهم عند مسيرهم إلى‏ صفّين الجمعة في يوم الأربعاء".

والقصّة التالية قصّة معروفة (وَلَوْ لَمْ تكن مرويّةً في كتب التاريخ، لكان قبولها صعباً)، حيث إنّ رجلًا من أهل الكوفة قدم دمشق راكباً جملًا، في وقت كان أهل الشّام يرجعون من صفّين، فرآه رجل دمشقيّ، فقال له: إنّ هذه الناقة لي وأنت أخذتها مني في صفّين، فتنازعا، فاشتكى‏ الشاميّ عند معاوية (وكأنّها اتخذت صبغة سياسيّة)، وجاء بخمسين شاهداً على‏ أنّ هذه النّاقة له، فقضى‏ له معاوية على‏ أساس الشّهود.

فصرخ الكوفي قائلًا لمعاوية: إنَّ هذا جمل وليس ناقة (أنثى‏ الجمل)، وطلب منه أن‏ يلاحظها بنفسه، فأدرك معاوية صدق الكوفي فيما يقوله، لكن رغم ذلك قال له: إنَّ الحكم صدر وانقضى‏، وبعد ما تفرَّق الناس، أرسل معاوية رجلًا إلى‏ الكوفي، فأتاه وأعطاه ضعف قيمة جمله، وقال له: «أبلغ عليّاً أنّي أقابله بِمِائةِ ألفٍ ما فيهم من يُفرّق بين النّاقة والجمل».

وخلاصة القول: إنّ في التّاريخ شواهد ونماذج كثيرة تكشف عن كيفيّة إغواء الطغاة والساسة لأُمم عظيمة وغسل أدمغتهم بحيث ضلّوا حَيارى‏ في متاهات الدّروب، وابتلوا بمصائب كثيرة، وعند استتباب الأوضاع ورجوعها إلى‏ حالتها الطبيعيّة، وعند سقوط الجبار المضلّ، وارتفاع حجب الإعلام، يستيقظ بعض الناس وينتبهون لماضيهم، فيتأسفون ويندمون كثيراً.

وفي العصر الحاضر، اكتسب الإعلام قدرة عظيمة، بدرجة أنَّ في بعض الدّول المتقدّمة- اصطلاحاً- تأخذ وسائل الإعلام بأيدي الشخصيّات العلميّة والمفكّرين الواعين نسبياً إلى صناديق الاقتراع، ليصوّتوا للشخصيّات التي تدعو إليها وسائل الإعلام تلك، وقد يتصوَّر أنّهم أحرار على‏ الإطلاق، بينما لا خيار لهم من جرّاء وسائل الإعلام تلك.

إنّ اتساع وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، واستعانتها بفنون علم النفس، يزيد في تأثير الإعلام على‏ النفوس، بدرجة يَحارُ فيها الخارجون عن دائرة الإعلام والمتمكّنون من متابعة الأمور من دون رأي مسبق فيها.
إنَّ هذا الأمر لم ينحصر في الأمور السياسيّة فحسب، بل في الأمور الاقتصاديّة كذلك، فإنَّ وسائل الإعلام يمكنها بحملة إعلاميّة أن تسوِّق المجتمع نحو استهلاك سلعة قد تكون اعتباطيّة أو مضرّة أحياناً، وبهذا يُفرض على‏ المجتمع اقتصادٌ سقيم.

إنّ الاستعانة بعناوين وقيم كاذبة، مثل الاستعانة بعنوان «موديل»، أحد أوسع وأعقد الطّرق للوصول إلى‏ هذه الأهداف غير المشروعة.
كما أنّه يستعان بالإعلام الثقافي الغامض لفرض المذاهب الفكريّة المختلفة على‏ الشعوب، فتارةً يُفرض مذهب باطل وعارٍ من الأسس المنطقيّة، وكأنّه مذهب فلسفيّ منطقي إنساني.
وعلى‏ أيّة حال، فممّا لا شكّ فيه، أنّه ينبغي رفع هذه الحجب عن المجتمع وتصحيح اتّجاه المعرفة فيه، كما ينبغي عدم ترك وسائل الإعلام أن تفكر وتقرّر بدلًا من المجتمع، بل يحدّد عملها في توعية الناس، وتهيئة الأرضيَّة لهم لاتخاذ القرارات الصّحيحة.

ينبغي أن لا يكون هدف وسائل الإعلام الجماعيَّة هو وضع الحجب على‏ عقول النّاس والتّعتيم عليهم، بل ينبغي أن يكون الهدف هو رفع حجب التعصّب والجهل والغفلة والتّقليد العشوائي عن العقول، وهذا هو البرنامج الراقي لوسائل الإعلام في مجتمع رشيد ونموذجي، والمؤسف في عصرنا الحاضر هو قلّة مثل هذه المجتمعات.

إنَّ النقص في وسائل الإعلام هو أنّها بيد الساسة، والأسوأ من ذلك، أنّها بيد العمالقة الاقتصاديّين الذين يوجّهون الناس أين ما شاؤوا.

*نفحات القرآن، ج1.

إنَّ هذه القضيّة في عصرنا الحاضر أوضح من أن تبحث أو تُناقش، كما أنّها لم تخفَ على النّاس في العهود الغابرة.

إنّ الجبابرة الذين أرادوا فرض إرادتهم وحاكميّتهم على‏ الناس، توسلوا بوسائل إعلاميّة مختلفة لغسل أدمغة الناس، بدءاً بالمكاتيب القديمة، وانتهاءً بالمحاريب والمنابر، وأخذاً برواة القصص والأساطير في المقاهي، وانتهاءً بالكتب العلميّة.

والخلاصة: إنّهم استعانوا بجميع الوسائل المضلِّلة للوصول إلى‏ مآربهم؛ من تحريف التاريخ، وأشعار الشعراء، وثناء المداحين، ومراكز التقديس والاحترام عند الناس، واختلاق الأساطير والكرامات والقيم غير الواقعية، وغيرها من الوسائل، فانّهم يستطيعون بوسائل الإعلام هذه أن يصوّروا الشيطان ملكاً أو إنساناً محترماً، وذلك كلّه من أجل الوصول إلى‏ مآربهم.
وقد جاء في بعض التواريخ الإسلامية المعروفة، أن طاعة أهل الشام لمعاوية بلغت درجة عجيبة، وننقل هنا عبارة المسعودي في هذا المجال :"لقد بلغ من أمرهم في إطاعتهم له، أنَّه صلَّى‏ بهم عند مسيرهم إلى‏ صفّين الجمعة في يوم الأربعاء".

والقصّة التالية قصّة معروفة (وَلَوْ لَمْ تكن مرويّةً في كتب التاريخ، لكان قبولها صعباً)، حيث إنّ رجلًا من أهل الكوفة قدم دمشق راكباً جملًا، في وقت كان أهل الشّام يرجعون من صفّين، فرآه رجل دمشقيّ، فقال له: إنّ هذه الناقة لي وأنت أخذتها مني في صفّين، فتنازعا، فاشتكى‏ الشاميّ عند معاوية (وكأنّها اتخذت صبغة سياسيّة)، وجاء بخمسين شاهداً على‏ أنّ هذه النّاقة له، فقضى‏ له معاوية على‏ أساس الشّهود.

فصرخ الكوفي قائلًا لمعاوية: إنَّ هذا جمل وليس ناقة (أنثى‏ الجمل)، وطلب منه أن‏ يلاحظها بنفسه، فأدرك معاوية صدق الكوفي فيما يقوله، لكن رغم ذلك قال له: إنَّ الحكم صدر وانقضى‏، وبعد ما تفرَّق الناس، أرسل معاوية رجلًا إلى‏ الكوفي، فأتاه وأعطاه ضعف قيمة جمله، وقال له: «أبلغ عليّاً أنّي أقابله بِمِائةِ ألفٍ ما فيهم من يُفرّق بين النّاقة والجمل».

وخلاصة القول: إنّ في التّاريخ شواهد ونماذج كثيرة تكشف عن كيفيّة إغواء الطغاة والساسة لأُمم عظيمة وغسل أدمغتهم بحيث ضلّوا حَيارى‏ في متاهات الدّروب، وابتلوا بمصائب كثيرة، وعند استتباب الأوضاع ورجوعها إلى‏ حالتها الطبيعيّة، وعند سقوط الجبار المضلّ، وارتفاع حجب الإعلام، يستيقظ بعض الناس وينتبهون لماضيهم، فيتأسفون ويندمون كثيراً.

وفي العصر الحاضر، اكتسب الإعلام قدرة عظيمة، بدرجة أنَّ في بعض الدّول المتقدّمة- اصطلاحاً- تأخذ وسائل الإعلام بأيدي الشخصيّات العلميّة والمفكّرين الواعين نسبياً إلى صناديق الاقتراع، ليصوّتوا للشخصيّات التي تدعو إليها وسائل الإعلام تلك، وقد يتصوَّر أنّهم أحرار على‏ الإطلاق، بينما لا خيار لهم من جرّاء وسائل الإعلام تلك.

إنّ اتساع وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، واستعانتها بفنون علم النفس، يزيد في تأثير الإعلام على‏ النفوس، بدرجة يَحارُ فيها الخارجون عن دائرة الإعلام والمتمكّنون من متابعة الأمور من دون رأي مسبق فيها.
إنَّ هذا الأمر لم ينحصر في الأمور السياسيّة فحسب، بل في الأمور الاقتصاديّة كذلك، فإنَّ وسائل الإعلام يمكنها بحملة إعلاميّة أن تسوِّق المجتمع نحو استهلاك سلعة قد تكون اعتباطيّة أو مضرّة أحياناً، وبهذا يُفرض على‏ المجتمع اقتصادٌ سقيم.

إنّ الاستعانة بعناوين وقيم كاذبة، مثل الاستعانة بعنوان «موديل»، أحد أوسع وأعقد الطّرق للوصول إلى‏ هذه الأهداف غير المشروعة.
كما أنّه يستعان بالإعلام الثقافي الغامض لفرض المذاهب الفكريّة المختلفة على‏ الشعوب، فتارةً يُفرض مذهب باطل وعارٍ من الأسس المنطقيّة، وكأنّه مذهب فلسفيّ منطقي إنساني.
وعلى‏ أيّة حال، فممّا لا شكّ فيه، أنّه ينبغي رفع هذه الحجب عن المجتمع وتصحيح اتّجاه المعرفة فيه، كما ينبغي عدم ترك وسائل الإعلام أن تفكر وتقرّر بدلًا من المجتمع، بل يحدّد عملها في توعية الناس، وتهيئة الأرضيَّة لهم لاتخاذ القرارات الصّحيحة.

ينبغي أن لا يكون هدف وسائل الإعلام الجماعيَّة هو وضع الحجب على‏ عقول النّاس والتّعتيم عليهم، بل ينبغي أن يكون الهدف هو رفع حجب التعصّب والجهل والغفلة والتّقليد العشوائي عن العقول، وهذا هو البرنامج الراقي لوسائل الإعلام في مجتمع رشيد ونموذجي، والمؤسف في عصرنا الحاضر هو قلّة مثل هذه المجتمعات.

إنَّ النقص في وسائل الإعلام هو أنّها بيد الساسة، والأسوأ من ذلك، أنّها بيد العمالقة الاقتصاديّين الذين يوجّهون الناس أين ما شاؤوا.

*نفحات القرآن، ج1.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية