لماذا كتب الإمام هذه الرسالة العظيمة الخالدة؟ هل كان المجتمع بحاجة لمعرفة مثل
هذه الحقوق؟
للإجابة عن هذا التساؤل المهم، نقول إنّ نظرة الإمام للمجتمع وللعصر الذي كان
يعاصره، تختلف عن نظرة بقية الناس، فهو ينظر (بعين الله) بلا شكّ، ولهذا فقد نظر
الإمام الحكيم بعمق وشمول للإنسان، ودرس جميع أبعاد حياته وعلاقاته مع خالقه ونفسه
وأسرته ومجتمعه وحكومته ومعلّمه.
وفي عصر الطغيان والجبروت، وتفشّي الأوضاع المادّية، واستعلاء الانحراف والفساد،
ذلك العصر الّذي تميّز بقتل سيد شباب أهل الجنة، والتعدي بكلّ (وقاحة) على حرمة
رسول الله، وفي ذلك العصر الذي ضربت فيه الكعبة المشرّفة بالمنجنيق، في مثل هذا
العصر، كان لا بدّ من تذكير الناس بأيّام الله، وحملهم على قصد السّبيل المشرق،
وردِّهم إلى منابع الشّرف والكرامة.
فألّف الإمام زين العابدين دستوراً في السياسة، ومنهجاً عامّاً في الأخلاق
الاجتماعيّة سبق العلماء والقانونيّين جميعاً في دنيا الإسلام، بل في دنيا الإنسان
في هذا المضمار الّذي على أساسه ترتكز أصول الأخلاق والتّربية ونظم الاجتماع.
الحقوق العائليّة مثالاً...
وهنا أودّ أن أسلّط الضوء على بعض من هذه الحقوق، وأطلق عليها (الحقوق العائلية)،
ذلك لأنّ مجتمعنا يفتقر إلى مثل هذه الثقافة، أو ربما انشغالات الحياة أخذت منّا
مأخذاً جعلتنا ننسى مثل هذه الحقوق المهمّة، وما نراه من تهدّم أو وجود بعض الشروخ
في علاقاتنا الاجتماعيّة، إنما يعود سببه لعدم معرفتنا بهذه الحقوق، أو عدم تطبيقها
فيما بيننا.
أوّلاً: حقّ الأم:
يقول: "فحقّ أمّك أن تعلم أنها حملتك حيث لا يحمل أحد أحداً، وأطعمتك من ثمرة قلبها
ما لا يطعم أحد أحداً، وأنها وقتك بسمعها وبصرها، ويدها ورجلها وشعرها وبشرها،
وجميع جوارحها، مستبشرة بذلك، فرحة موبلة محتملة لما فيه مكروهها وألمها وثقلها
وغمّها، حتى دفعتها عنك يد القدرة، وأخرجتك إلى الأرض، فرضيت أن تشبع وتجوع هي،
وتكسوك وتعرى، وترويك وتظمأ، وتضحى وتنعمك ببؤسها، وتلذّذك بالنوم بأرقها، وكان
بطنها لك وعاءً، وحجرها لك حواءً، وثديها لك سقاءً، ونفسها لك وقاءً، تباشر حرّ
الدّنيا وبردها لك، ودونك، فتشكرها على قدر ذلك، ولا تقدر عليه إلا بعون الله
وتوفيقه...".
ما أعظمها من إنسانة تتحمّل كلّ هذه المشاقّ، وتضحي بحياتها لأجلك، فماذا تكون
مكافأتها؟
كثيراً ما تظلّ الأمّ ساهرة الليالي لأنّك مصاب بالحمَّى، وكثيراً ما تبكي ألماً
لمجرد حادثة بسيطة تعرّضت لها... ومع هذا، فإننا نقابل كلّ هذا العناء بجفاء في
الكلمة والنظرة.
إننا نبخل على هذه الإنسانة العظيمة ببسمة، وبكلمة جميلة تدخل السّرور على قلبها!!
الأمّ! وما أدراك ما الأمّ! فلها الحقّ العظيم الذي يعجز الإنسان عن أدائه، ويبقى
مقصّراً طيلة عمره عن أداء بعض ما عانته من أجلنا.
وإذا أردنا أن نتعلّم كيف نتعامل مع الأمّ، فلنرجع إلى سيرة هذا الإمام العظيم،
لنرى كيف تعامل مع من ربّته، فقد بلغ من جميل برّه بها، أنّه امتنع أن يؤاكلها،
فلامه الناس، وأخذوا يسألونه بإلحاح قائلين: أنت أبرّ النّاس وأوصلهم رحماً، فلماذا
لا تؤاكل أمَّك؟ فأجابهم جواب من لم تشهد الدّنيا مثل أدبه وكماله، قائلاً: "أخشى
أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون عاقّاً لها".
فحريّ بنا أن نقتدي بهذه السيرة العطرة، ونتعلم كيف نراعي حقوق أمهاتنا.
ثانياً: حقّ الأب:
"وأمّا حق أبيك، فتعلم أنّه أصلك، وأنّك فرعه، وأنّك لولاه لم تكن، فمهما رأيت في
نفسك ما يعجبك، فاعلم أنّ أباك أصل النّعمة عليك فيه، واحمد الله واشكره على قدر
ذلك، ولا قوّة إلا بالله...".
يكفي أن يعرف الإنسان هذه النّعمة (الأب هو أصلك...).
إن الوالدين يكونان بحاجة ماسّة إلى مثل هذه الحقوق في جميع المراحل العمريّة لهما،
ولكن تتأكّد الحاجة لهذه الحقوق في حالة بلوغهما الكبر (الشيخوخة)، ففي مثل هذا
العمر، يكونان قد أعطيا كلّ ما لديهما من طاقة لأبنائهما، ولهذا، لا بدّ من
رعايتهما أفضل رعاية، وتوفير سبل الرّاحة إليها، وجعلهما يعيشان حالة من الراحة
الرّغيدة والعيشة الهنيئة.
ويخطئ كلّ من يأخذ والديه في آخر حياتهما إلى دُور العجزة، ففي مثل هذه الحالة،
يكون قد ساهم في قتلهما، ذلك أنّ حياة الوالدين في نهاية عمرهما ترتبط بأبنائهما
أيّما ارتباط، ومجرّد الانفصال عنهم يعني موتهما.
لذلك، لا بدّ من الوفاء لهما لما قدّما لأجلنا، ولن نبلغ معشار حقّ من حقوقهما!!
ثالثاً: حقّ الولد:
"وأمّا حقّ ولدك، فتعلم أنّه منك، ومضاف إليك، في عاجل الدنيا بخيره وشرّه، وإنك
مسؤول عمّا وليته من حسن الأدب، والدلالة على ربّه، والمعونة على طاعته فيك وفي
نفسه، فمثاب على ذلك، ومعاقب، فاعمل في أمره عمل المتزيّن بحسن أثره عليه في عاجل
الدّنيا، المعذر إلى ربّه في ما بينه وبينه بحسن القيام عليه، والأخذ له منه، ولا
قوّة إلا بالله...".
إنّ البعض من الآباء يجهل هذا الحقّ، لهذا نرى الأبناء يتيهون في هذه الحياة. إنّ
المتّهم الأول في شقاء الأبناء هم الآباء بدرجة أولى "وإنّك مسؤول عمّا وليته من
حسن الأدب"، فهل يعمل الآباء بهذه الكلمة؟!
كما إنّ الكثير من الأبناء إنما يمارسون سلوكيّات وعادات سيّئة بسبب غياب الرّقابة
الأبويّة عنهم، ولأنّ فاصلاً وحاجزاً قد فصل بين الأبناء والآباء، ويعود السّبب في
ذلك إلى غياب هذه الثّقافة... "فمثاب على ذلك، ومعاقب...".
ولهذا، فإذا أردنا أن نبني عائلة تسودها أجواء المحبّة والسعادة، ترفرف بجناحيها
على كلّ زاوية من زوايا البيت، فما علينا إلا أن ننمّي ونشيع هذه الثقافة فيما
بيننا، وأن ندرس هذه الكلمات الرساليّة التي خطّها الإمام زين العابدين، ليرسم لنا
الخطّ الوحيد في بناء المجتمع الإسلاميّ القائم على مراعاة الحقوق، ليرسم لنا ملامح
المجتمع القائم على النظام والقانون.
وما أحوج مجتمعاتنا لتدارس هذه الرّسالة وتطبيقها، فهي اليوم في أمسّ الحاجة إلى
مثل هذا النّور الذي يبدّد سحب التخلّف والتيه الاجتماعي.
*منشور على شبكة مزن الثّقافيّة، بتاريخ 9/9/2005م.