لعلَّ المطّلعين على المبادئ العامّة للإعلام العالمي لحقوق الإنسان، يلاحظون عندما يدرسون الإسلام، تلك الصّلة الوثيقة بين هذه المبادئ وبين الأسس والمفاهيم الإسلامية في الكثير من تجلّيات هذا الإعلام، بل إنّ الذين ساهموا في ولادة هذه الوثيقة، أشاروا إلى حضور القيم والمفاهيم الإسلاميّة وقيم الرسالات السماوية فيها، على أساس أنّ الدّين، وخصوصاً الدّين الإسلامي، يحتوي على المخزون الأبرز في مجالات احترام حقوق الإنسان والتشريع لحمايتها وصونها على جميع المستويات، لأنّ الإسلام أساساً نزل من أجل حياة الإنسان، وذلك هو قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}، وقد أكّد الإسلام حريّة الإنسان أمام العالم، وفق قاعدة: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً"، أو "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً؟".
وأشار الإسلام إلى أنَّ الإبداعات الكبرى للبشريّة، إنما تنطلق على أساس احترام حريّة الإنسان في المعتقد والتّفكير والاقتناعات، لأنّ الإنسان الذي يملك الحرية في ما يفكّر وفيما يقتنع، فإنّه يستطيع أن يكتشف حقائق الأشياء بطريقة وبأخرى، وكذلك في إعطاء الإنسان حقّه وفرصته في التعلّم وفي الحياة الحرّة الكريمة، وفي احترام حقوق المرأة، وفي رفض استعباد البشر، والعمل على إنهاء مسألة الرقّ الّذي كان سائداً، واستطاع الإسلام بتشريعه أن يلغيه، من دون حاجة إلى ثورة لتحرير العبيد، وكذلك في رفض التَّضييق على البشر وتعذيبيهم وسجنهم دونما وجه حقّ: {وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ}، وفي إفساح المجال للأفراد والجماعات لكي يعبّروا عن اقتناعاتهم ومواقفهم بالأساليب الحضاريّة، بعيداً من ضغط الضاغطين وتعسّف المتعسّفين. فللإنسان أن يدخل في حوار مع كلّ الأديان ومع كلّ الأفكار، والله ركّز على أن {لا إكراهَ في الدِّينِ قَدْ تبيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ}، {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}.
ولكنَّ مشكلة البشريّة، وخصوصاً في هذه المرحلة، لا تكمن في قلّة التَّشريعات والمفاهيم التي تتحدَّث عن ضرورة احترام حقوق الإنسان وحمايتها، بل في السلطة الراعية لهذه الحقوق على مستوى الدّول، وكذلك على المستوى العالميّ، ولأنّ السلطات المهيمنة في العالم، وخصوصاً الدّول الكبرى، كالولايات المتحدة الأمريكيَّة، عملت على مصادرة حقوق الإنسان تحت عنوان صون هذه الحقوق، فهم يطالبون بحقوق الإنسان، وهم الذين يضطهدونها، وهم يسيطرون على مقدّرات الشعوب المستضعفة في العالم الثالث، سواء في السيطرة على اقتصادها وعلى ثرواتها وأمنها وسياستها، وسعت لاسترقاق الشعوب واستعبادها، تحت عنوان رفض التَّمييز ومحاربة الذين يميِّزون بين البشر على أساس عرقيّ أو دينيّ، وأطلقوا شعارات هم أوّل من تنكَّر لها، إلى المستوى الذي صادرت فيه حقوق أمم وشعوب بأكملها تحت هذا العنوان؛ عنوان حقوق الإنسان، وهي تتحرّك في هذه الأيّام لمصادرة البقيّة الباقية من حقوق الإنسان العربي والمسلم تحت عنوان رفض معاداة الساميّة، وقد يصل بها الأمر إلى مستوى مصادرة ساميّة العرب والمسلمين لحساب الساميّة اليهوديّة الّتي يراد لها أن تختصر الساميّة في مسألة حماية إسرائيل – مع أنَّ اليهود ليسوا كلّهم ساميّين، ولكنّ العرب ساميّون أكثر من اليهود وأصفى من اليهود - في الوقت الّذي يمتنع الغربيّون والأمريكيّون بالذّات عن تشريع قانون ضدّ معاداة الإسلام والمسلمين. قلنا لهم، وحتى إنّ بعض مسؤوليهم، بعدما لاحظ هذا العداء للإسلام والمسلمين، طلب من إدارته بأن يشرّعوا قانوناً ضدّ معاداة الإسلام والمسلمين، ولكنّهم لم يوافقوا على ذلك.
لقد تنبّه الإسلام منذ البداية إلى أنّ مفهوم حقوق الإنسان لا يمكن اختصاره بجملة من التشريعات والمفاهيم التي تقدَّم كنموذج قيمي في ساحة القيم العالميّة، ولذلك، مزج بين مفهوم حقوق الإنسان وحقوق الأمّة، على أساس أنّ القيم تحتاج إلى نظام يحميها - أي إلى قانون يحكم الأمّة كلّها، حتى لا ترتكز حقوق الإنسان على الجانب الفردي فقط - وإلى قوّة العدل، لكي تدافع عن حقوق الإنسان، وأكّد أنّ الدين جاء لخدمة الإنسان وليس العكس، وأفسح في المجال أمام الأمم والشّعوب لكي تتعارف وتتواصل لحفظ هذه القيم {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}، وصونها، ورفض التعاون والتحالف على أساس من الإثم والعدوان {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
ولقد كنّا نؤكِّد دائماً أهميّة احترام القواعد الدوليَّة المعاصرة لحقوق الإنسان، والتي لا تتناقض مع المفاهيم الإسلاميَّة، سواء فيما يتعلَّق باحترام حقوق الشّعوب في تقرير مصيرها، واحترام حقّ الجيرة، واحترام المعاهدات والمواثيق التي تحمي حقوق هذه الشّعوب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}، {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ}، وتصون مستقبلها وتضمن رخاءها. ولكنّنا كنا، ولانزال نحذِّر من أنّ معظم هذه القواعد جرت مصادرتها لكي لا تأخذ طريقها إلى التّطبيق في واقعنا العربي والإسلامي، أو في العالم النامي، وخصوصا في الواقع الفلسطيني، وبخاصّة فيما يتعلّق بحقوق التربية وتقارير المصير.
إنّ الدول التي تقدِّم نفسها على أساس أنها السَّاهرة على حقوق الإنسان في العالم، هي الّتي تمارس أكثر الأدوار وحشيّةً لقهر حقوق الإنسان، وهذا ما يحصل على صعيد الحركة السياسيّة والأمنيّة الّتي تقودها الإدارة الأمريكيَّة في احتلالها للعراق، وما فعلته قبل ذلك في أفغانستان، وما تقدِّمه من رسائل ضمانات، ومن دعمٍ أمنيّ وعسكريّ وسياسيّ لإسرائيل لكي تصادر حقوق الإنسان الفلسطيني، بما يتناقض كليّاً مع قرارات الأمم المتَّحدة التي كانت هي وراء صوغها وصناعتها فيما يقارب الخمسين سنة.
فمنذ العام 67 قرار 242، وقبل ذلك قرار التقسيم، لم يطبّق أيّ قرار يدين إسرائيل ويطالبها بحقوق الإنسان، ولكنهم عندما يطلقون قراراً يتعلّق بالعرب، كما في قرار 1559 المتصل بسوريا ولبنان، يلحّون على تطبيقه اليوم قبل الغد، بينما تمرّ السنون، ولا تطبَّق القرارات الّتي تريد من إسرائيل أن تراعي حقوق الشَّعب الفلسطيني.
إنّ الإدارة الأمريكيّة هي من أكثر الإدارات في العالم اعتداءً على الخصوصيات الدينية والوطنية والحضارية للشعوب والأمم، من خلال سعيها المستمرّ لإخضاع هذه الخصوصيّات لحساباتها السياسيّة ومشاريعها للهيمنة الإمبراطوريّة على العالم.
ولذلك، بدأت الآن تضع بتشريعات لاضطهاد الإنسان العربي أو المسلم الأمريكي، في الوقت الّذي تعتبر أنّ قوانينها تحمي حرية هذا الإنسان وحقوق هذا الإنسان، وهي التي منعت مجلس الأمن من أن يتحوّل إلى قوّة رادعة لحساب السّلام العالمي، وحوَّلته إلى سلطة لقهر الشعوب ومصادرة حقوقها باعتبار سيطرتها على مجلس الأمن، وعملت من خلاله للضّغط على الدّول الصغرى، واستخدمت قوّته القانونية والسياسية للإفساح في المجال أمام جيوشها للاستيلاء على ثروات الدّول، وخصوصاً الثّروات العربيّة والإسلاميّة، ثم تركت الأبواب مشرعة أمام إسرائيل، كي تعبث بهذا الواقع من خلال هذا الاستغلال الوحشيّ، وهذه الهيمنة العدوانيّة الأمريكيّة على الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
إنّ أمريكا هذه هي نفسها التي تغاضت عن كلّ الانتهاكات لحقوق الإنسان التي قامت وتقوم بها إسرائيل، والتي قام بها الطاغية صدّام حسين في السابق ضدّ شعبه وضدّ إيران والكويت، لأنّ هذه الانتهاكات كانت من سنخ الانتهاكات الأمريكيّة، وبمباركة من الإدارات الأمريكيّة المتعاقبة، ولأنها كانت السبيل الذي مهّد الأرض أمامها للدّخول المباشر إلى السّاحة، والسّيطرة المباشرة على الثّروات النفطيّة في العراق وغيره لتستولي على النفط كله.
إنّ أمريكا التي ترفع شعارات حقوق الإنسان، لا تتعرّف على حقوق الإنسان المستضعف، وخصوصاً الإنسان العربي والمسلم، ولا تأخذ بالحسبان إلّا حقوق إنسانها، وإلا ما تدَّعيه من حقوق للإسرائيليّين، وهي العقبة الكبرى أمام شرعة حقوق الإنسان، لأنها المنتهك الأكثر والمحرّض الأكبر على انتهاكها ومصاديقها.
إننا، ومع ذلك كلّه، انطلاقاً من القواعد الإسلاميّة والإنسانيّة لحقوق الإنسان، ندعو إنساننا العربي والمسلم إلى احترام حقوق الإنسان الغربي أو الإنسان غير العربي وغير المسلم، أي إنسان الدول الكبرى، لأننا نرى أنّ الظلم الذي ينطلق من الآخرين لا يبرّر لنا سلوك طرق وأساليب لانحراف لظلم الشعوب وقهرها.
ولكنّنا في الوقت عينه، نرفض كل سعي لسحق حقوقنا تحت رحمة مصالح الدول الكبرى، وندعو شعوبنا إلى التأسيس لقوّة الحقّ والعدل التي تنطلق من وحدتها الداخليّة لحماية إنسانها، وكذلك احترام حقوق الإنسان الآخر، لأننا في عالم لا يصان الحقّ فيه إلا من خلال القوَّة التي تحميه، فلا حياة لهذا الحقّ إلا من خلال القوَّة؛ القوَّة العاقلة، والقوَّة الرادعة.
*من درس تفسير القرآن لسماحته، بتاريخ: 11-1-2005.