هؤلاء المجاهدون الذين كانوا يجاهدون وهم يبتهلون إلى الله ويثقون بنصره،
ويقيمون الصّلاة ويؤتون الزكاة، ويعيشون في الليل معه، حتى وهم ينتقلون من موقع إلى
موقع، لقد نصرهم الله تعالى لأنّه رأى فيهم الصدق؛ صدق النيّة والعزيمة وصلابة
الإرادة والموقف.
لأنّ الكثيرين منهم كانوا ممن لا يعوزهم مال، فالمال كان بين أيديهم، ولا يعوزهم
مركز أو جاه، ولكنّهم انطلقوا عندما رأوا العدوّ يحتلّ أرضهم ويذلّ أمّتهم، فتحركوا
في مواجهته.
خوّفوهم بأمريكا وإسرائيل وبـ"الجيش الّذي لا يُقهر"، فزادهم الله إيماناً وقالوا
حسبنا الله ونعم الوكيل، هؤلاء الذين كانوا يمثّلون ربيع الأمّة، الّذين تطفح
وجوههم بكلّ جمال ومحبة، هؤلاء كلّهم – وهم من شبابنا المؤمن الطيّب، من الفتية
الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى – هم أنصار رسول الله وعليّ والحسن والحسين (ع)،
هؤلاء هم الأصحاب بعد الأصحاب، وهم الأنصار بعد الأنصار، وهم الشّهداء في كلّ مسيرة
الشهادة.. هؤلاء هم الذين نصروا الله فنصرهم، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من
قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا.. هؤلاء هم الذين صنعوا النصر والحريّة.
إننا، ونحن نعيش كلّ هذه الفرحة الغامرة من خلال خروج العدوّ مهزوماً من أرضنا شرّ
هزيمة لم يعرفها في تاريخه، حيث خرج من هذا البلد في حالة من الإرباك والفوضى التي
أسقطت كلّ مخطّطاته.
ولذلك، أمام هذا الإنجاز التّاريخيّ، نقول لهؤلاء الشباب الذين هم أحياء عند ربهم
يرزقون: يا أحبّتنا وأبناءنا، أيّها الذين عاشوا الإيمان روحاً وفكراً وجهاداً
وحركة، يا من أعطوا كلّ شبابهم لأمّتهم، فتحركت الأمّة في شباب الحرية، يا من أعطوا
كلّ دمائهم لأمّتهم ودينهم، فازدهرت أمّتهم بكلّ هذا الدم الطاهر.. إنكم أدّيتم
واجبكم، وأصبحتم مثلاً وقدوةً، وقد صنعتم تاريخاً، فجزاكم الله عن أمّتكم خير
الجزاء، وحشركم الله مع النبيّين والصدّيقين والشّهداء وحسن أولئك رفيقاً، فنعم
المجاهدون الصّابرون السّائرون في درب الاستقامة أنتم، فرحمكم الله برحمته، وجزاكم
خير الجزاء.
لقد كان الجميع يعرف أنّ العدوّ قد اتخذ قراراً بالهروب، وبات لا يستطيع الاحتفاظ
بأرضنا كثيراً، بعد أن جرَّب كلّ وسائل القتل والدَّمار والتهديد، ولكنَّ حرب
الاستنـزاف التي شنّتها المقاومة ضدّه أنهكته وجعلته يستعجل الانسحاب. ومع ذلك،
فليس هناك من كان يعتقد أنّ الأمر سيبلغ به هذا المبلغ، وهو يترك عشرات الآليّات
وراءه، وكلّ همّه أن يصل جنوده إلى ما وراء الشّريط الشّائك، ولو مات كلّ العملاء
أو قُتلوا أو اعتقلوا.
إنّ صورة الهروب الكبير الذي نفّذه العدوّ بهذه السرعة، تشير إلى أنّ الهزيمة التي
مُني بها هي أعظم وأضخم من هزيمة أمريكا في "فيتنام"، لأنّ مشهد هذه الهزيمة هو
مشهد فريد من نوعه، حيث إنّ زحف الجموع من أهلنا إلى مواقعه وإلى أرضهم، جعله يضاعف
من هرولته، فأصبح الانسحاب رهن السّاعات، بعد أن كانت الخطة تقتضي أيّاماً وأسابيع.
إنّ هذا المشهد المذلّ ينبغي أن يظلّ محفوراً في ذاكرة العدوّ، ليتذكّر دائماً أنّ
هناك فئة قارعته فلم تكن الندّ له فحسب، بل انتصرت عليه، وفي ذلك درس للجندي
الصهيوني الذي ينبغي أن يتعلّم أنّه هو الذي يُقهر مع كلّ آلياته وعتاده.. كما أن
في هذا المشهد درساً لكل العرب المتهالكين وراء الصلح مع العدوّ، والمتحركين على
هذا المسار، وذلك بهدف إعادة وصل ما انقطع، أو حثّ هذا الموقع العربي وذاك على
التّسليم له تحت عنوان "اغتنام الفرصة قبل ضياع الوقت".
إننا نقول لهؤلاء: إن الفرصة هي فرصة التحرّر من ذهنية التبعية والضعف، وخصوصاً أنّ
النّموذج اللّبناني قد أعطى الدرس للعالم، فلا بأس أن يتعلّم بعض العرب.. ونحن ندرك
أنّ هذا الصّوت الذي انطلق من لبنان، سيلقى الصّدى داخل فلسطين المحتلّة.
إننا مع كلّ ذلك نقول بأنّه لا بدّ أن نشكر الله تعالى، وأن نتواضع أمامه على نعمة
الانتصار هذه، ونحن في الوقت الّذي نُكبر هذه الرّوح السمحة المتواضعة من مجاهدينا
الّذين نصروا الله فنصرهم، حيث لم ينطلقوا إلى العملاء بروح ثأريّة، نطلب من الدولة
أن تخلّد هؤلاء في سجلّ البطولات، لأنهم انتصروا مرّتين: في الأولى على العدوّ، وفي
الثانية على هوى النفس وما قد تثيره من حبّ الثّأر والاقتصاص السّريع، وذلك يرتّب
على الدّولة أعباء كبرى، لكي تكون حركتها بحجم حركة المجاهدين، وأن تحفظ لهؤلاء
حقّهم ليكونوا مفخرة لبنان، ليس في الحاضر فقط، بل في المستقبل.
لقد قدّم المجاهدون للدولة جنوباً محرَّراً، ومن حقهم أن يطالبوا برعاية هذا
التحرير، ولا بدّ للدولة من رعاية هذا التحرير وحمايته وتحصينه على عدة مستويات،
ولا سيما على مستوى تعزيز الوحدة الداخلية.. لقد كنّا نقول سابقاً: لا بدّ من
الوحدة الداخلية كضرورة أساسية من ضرورات مواجهة المحتلّ، واليوم نقول: لا بدّ من
ترسيخ هذه الوحدة لمنع العدوّ من التسلّل مجدّداً إلى النسيج اللبناني في الداخل..
ويكون ذلك من خلال معرفة الجميع بأنّ هذا الانتصار الذي حصل ليس لفئة معينة من
اللبنانيّين، بل هو للّبنانيّين جميعاً.
ثم، لا بدّ من تحصين هذا الإنجاز التّاريخيّ بخطوات إنمائية سريعة تفتقد لها
المنطقة التي تحرّرت، ولا سيّما على صعيد البنى التحتية الأساسية.. إننا نطلب من
الدولة أن تزحف إلى هذه المنطقة إنمائياً، إن لم تزحف أمنيّاً لدواعٍ وأسباب
يحترمها الجميع، وان يكون زحفها بالوتيرة نفسها التي اندفع بها أهل هذه المناطق في
مسيرتهم التحريريّة المباشرة.. إننا نقول: لقد سمعنا كلاماً جميلاً عن دعم هذه
المناطق، ونريد لهذا الكلام أن يتحوَّل إلى أفعال، وأن لا يسقط تحت عناوين الظروف
السياسيّة والأوضاع الاقتصادية الصّعبة.
وفي نهاية المطاف، إنّ علينا أن لا نسمح للّصوص والسرّاق الدوليّين والإقليميّين أن
يسرقوا منا نصرنا الذي دفعنا لأجله أثماناً غالية، والذي سالت الدماء انهاراً
لتحقيقه، وذلك بأن لا نسمح بأن يكون لبنان ممرّاً ولا مقرّاً لهؤلاء المستكبرين
الذين كانوا دائماً مع العدوّ وضدّ لبنان، وأن لا نسمح لأحد بتضخيم شخصيّاتنا،
لأننا نعرف حجم قوّتنا ومدى التزامنا. إنّ اللّبنانيّين يفتحون قلوبهم لكلِّ من
يريد أن يتعاطى معهم بالاحترام المتبادل، ولكنّهم لن يُلدَغوا من الجحر الأمريكي
والدّولي مجدَّداً، حتى يبقى لهم نصرهم وتحريرهم وقرارهم.
*من خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 26-5-2000.