وردت الأهداف التربوية بأشكال متنوّعة في القرآن الكريم ونهج البلاغة، وكذلك في
المصادر الإسلامية الموثوقة الأُخرى التي تكفّلت بنقل الأحاديث والأخبار عن النبيّ
(صلّىالله عليه وآله) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام).
عبادة الله هدف تربويّ أساس:
إنّ الهدف التربوي الأساس للرسالة الإسلامية هو عبادة الله وحده، قال تعالى: {وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنّ وَالْإِنسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ}(الذاريات: ٥٦).
وعبادة الله - كما نعلم - تعني التسليم له، وطاعته. ومن يعبد الله، فإنّه يخضع له
بكلّ وجوده، ويتحرَّك في خطّ معرفته، جاء في سورة الفاتحة قوله تعالى: {إيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِين}، فالقول بأنّ الله وحده يستحقّ العبادة، وما على
الإنسان إلاّ التسليم له، والاستعانة به فقط، يثير أشياء جوهرية أُخرى أيضاً...
من جهة أُخرى، فإنّ معرفة الله وعبادته كيان راسخ، لا يكفل تحرّك الإنسان المتواصل
صوب التنمية والكمال فحسب، بل ويحول دون انحراف الفرد والجماعة بنحو يبعث على
الاطمئنان.
إنّ من يرتبط بالله، فقد حرَّر نفسه من الخسّة والدّناءة، والظلم، والهوى والهوس،
أو النزوات الزائفة التافهة والأنانية. ويسلِّم لله، فيعتق نفسه من رِبقة الطّاغوت،
ومسّ القوى الشيطانية الشرّيرة...
التقوى:
التقوى هدف تربوي جوهري. قال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}. والتقوى تعني
الحفظ والوقاية. وعندما تستعمل هذه الكلمة بخصوص الإنسان في المجال الأخلاقي
والتربوي، فهي تعني: حفظه، والتحكّم بنفسه، وإدارة شؤونه، وجعل سلوكه وممارساته في
المسار العقلي.
إنّ الهدف الأساس للتربية والتعليم، هو تأهيل الإنسان ليكون مديراً لنفسه، ومسيطراً
على نزواته وأهوائه النفسانيّة، ومبعداً عن نفسه كلّ ما هو غير منطقي وغيرعقلي،
ومنجزاً ما يليق بإنسانيته...
والآن، يجب أن نلحظ أننا كيف يمكن أن نربّي الإنسان الذي يستطيع القيام بالأعمال
المارّ ذكرها، وأعمال أُخرى، ضروريّة، فهل هو ينجز أعماله شخصيّاً، أم يتدخل
الآخرون لإنجاز أعماله؟
متى يستطيع الإنسان أن يدير شؤونه شخصياً؟ هل يمكن أن يتمتّع بالاستقلال بكلّ ما
للكلمة من معنى؟ هل إنّ اضطلاعه بإدارة شؤونه شخصياً، يحظى بقبول والده ووالدته
المربّين؟
كما ذكرنا فيما سبق، فإنَّ الهدف الأساس للتربية والتعليم، هو تربية وإعداد مثل هذه
الشخصية، لكنْ يجب أن نلتفت إلى أنَّ كثيراً من الأشخاص، سواء كانوا من بين الآباء
والأُمّهات، أو من بين المربّين والقادة والمسؤولين في المجتمع، لا يتركون النّاس
أحراراً في إدارة شؤونهم على الصعيد العملي، إذ يعتقد بعض الأشخاص بأنّه يجب إدارة
شؤون الناس وتوجيههم في كلّ مرحلة من مراحل النموّ، وهم يرون بأنّ الناس أنفسهم غير
كفوئين في إدارة شؤونهم بأنفسهم. لا يعتقد بعض المربّين أيضاً بأنّه يجب إدارة شؤون
الطلاّب وتوجيههم.
ويتصوّر البعض بأنَّ الإنسان في مرحلة الطفولة تدار شؤونه من قِبَل والديه، وفي
المرحلة الابتدائيّة، تدار من قِبَل المعلّم، وفي مرحلة البلوغ، يدير القانون
والمربّون شؤونه، وبعد التخرّج ومزاولة العمل الوظيفي، فإنَّ المقرّرات القانونية
لعمله هي التي تتولّى الإشراف عليه، لذلك فإنَّ قضيَّة الإشراف الذاتي، أو السيطرة
على النّفس، أو ضبطها، كلّ ذلك غير مطروح في حياة الإنسان.
هذا التصوّر الخاطئ ينعكس في علاقات الوالدين مع ولدهما، وعلاقات المربّي مع الطالب...
إنَّ التربية الأخلاقية للطفل في هذه المرحلة، تتحقّق من خلال الأمر والنهي، أو
اِفعلْ ولا تفعل. فالطفل ليس من حقّه أن يعرف علّة قيامه بالفعل الفلاني أو عدم
قيامه به، بل عليه أن يكون أداة طيِّعة فقط، فيأخذ بما يُؤمر به، وينتهي عمّا يُنهى
عنه.
هذا الطفل نفسه يدخل المدرسة، ويرى المعلّم أنَّ من واجبه تربيته وتعليمه، بيد أنّه
يفتقد إلى تصوّر واضح مشرق عن التربية والتعليم، حيث يعلم أشياء محدودة، يروم
تزريقها في ذهنه. وما على الطفل إلاّ أن يكون مستعدّاً، ويتقبّل من المعلّم ما يملي
عليه، ويحفظ ذلك. وعند الامتحان، إمّا أن ينسى معلوماته، أو يكتبها على ورقة
الامتحان. فدور الطفل في المدرسة، إذاً، هو دور المنفعل أو المتقبّل، وعمله - كما
قلنا - هو قبول ما يطرحه المعلّم دون نقاش، وليس له دور غير ذلك. والتربية
الأخلاقية تطبّق على نفس النسق أيضاً.
ينظر المعلّم إلى أشياء على أنّها جيّدة، فيطلب من الطالب القيام بها. وكذلك ينظر
إلى أشياء أُخرى على أنّها رديئة، فيمنع الطالب من القيام بها. وكما أنّ الافتراض
السائد يقتضي أن يكون الطفل تحت إشراف أبويه في البيت، وهما اللّذان يتولّيان شؤونه،
كذلك الطالب في المدرسة، فإنه تحت إشراف المعلّم دائماً، وهو الذي يتولّى شؤونه.
وممّا يؤسف له، هو أنّ هذا الوضع قد يستمرّ في الإعدادية، وكما قلنا، فإنّ الطالب
بعد تخرّجه، يكون تحت إشراف القانون.
فلا ذلك الضرب من التعليم مؤثّر في تحصيل المعلومات، ولا هذا الضرب من التربية
مؤثّر في التنمية الأخلاقية للطالب. والأشخاص الذين يتربّون على هذه الوتيرة،
يُحتمل أنّهم سوف يحرمون من الاستقلال حتى آخر عمرهم، إذ لا بدّ أن تدار شؤونهم من
قِبَل الآخرين.
لذا، يجب تأهيل الطفل وتربيته منذ بداية حياته بشكل يستطيع أن يقف على قدميه وحده،
وما يستطيع أن يفعله في البيت، يجب أن يقوم به بذاته، فلو استطاع - مثلاً - أن يقوم
ويملأ القدح ماءً، ويشرب ذلك الماء، فيجب تركه ليُنْجِز هذا العمل بنفسه. فالأُمّ
التي تتصوّر بأنّ منع الطفل من القيام بهذا العمل، وإعطاءها الماء له دليل على
حبّها له وتعلّقها به، هي أُمّ غير مصيبة في عملها، فهي لا تقدّم أيّ خدمة لولدها،
بل وتحول دون نموّه الأساس واستقلاله.
وفي حقل التربية الأخلاقية أيضاً، يملك الطفل استعداداً لإدراك بعض المسائل، فهو
يستطيع أن يدرك، مثلاً، لماذا يضرب جارَه الصّغير مثله؟ ويستطيع أن يتوقّع ماذا
تكون نتيجة هذا العمل، فيمتنع من القيام به. وبمقدار ما تسمح به تجربته وإدراكه،
ينبغي مساعدته، حتى يتوقّع هو نفسه ماذا تكون نتيجة أعماله وممارساته، فما ينبغي
فعله، ينجزه، وما لا ينبغي، يتركه.
وينطبق هذا الأمر نفسه على المرحلة الابتدائية، فما يستطيع أن ينجزه الطفل أو
يتعلّمه، يجب عليه أن يبادر إلى ذلك شخصيّاً، فلو استطاع أن يرتّب بعض الأعداد
ويجمعها، فعلى المعلّم أن يتركه، ليقوم بهذا العمل وحده. ولو استطاع أن يستفيد من
تجاربه ويعرف مفهوم الجمع، فعلى المعلّم أيضاً أن يفسح له المجال ليقوم بهذا العمل
وحده. صحيح أنّ للمعلّم دوراً أساسياً في بداية المرحلة الدراسية، بيد أنّ هذا
الأمر لا يتطلّب أن نتصوّر بأنّ التعليم يتحقّق بواسطته. وما هو إلاّ الطالب حيث
يقوم بتعلّم الأمور، ويوسّع تجاربه، ذلك يجب أن يكون له دور فاعل في عملية التعلّم.
وفي مجال التربية الأخلاقية والاجتماعية، يجب أن يؤدّي المعلّم - أيضاً - دور
الدليل والمرشد، فيمكنه أن يُعين الطفل من خلال توفير الفرص له؛ ليدرك بنفسه جودة
بعض الأعمال أو رداءتها في الظروف المتنوّعة، ويرى نتائجها، وعن هذا الطريق، يعمل
في حقل تنميته الأخلاقية. وكلّما كبر الشخص، ودخل مراحل لاحقة من النمو، يستطيع أن
يتولّى إدارة شؤونه بنفسه. وللوالدين، والمعلّم، والقانون، دور الدليل والمرشد...
فالتقوى - كما مرّ بنا - تعني السيطرة على النفس وتولّي شؤونها ذاتياً، والإنسان
المتّقي يراقب سلوكه، لا خوفاً من الآخرين، ولا خوفاً من القانون، بل لأنّه يعرف أنّ
عليه أن يعمل بصورة منطقيّة معقولة. وهذا المعنى للتقوى وبُعدها التربوي، كان يدور
في خلدي، من هذا المنطلق، جمعت آيات من القرآن، ونصوصاً من نهج البلاغة حول التقوى،
لكي يتسنى لي أن أنقلها عند تأليف هذا الكتاب... وبالنظر إلى أنّ الأُسس الإسلامية
- كما ذكرنا فيما مضى أيضاً - في كلّ مجال، ولا سيّما في مجال التربية والأخلاق،
تدعم حكم العقل، لذلك يمكن القول بأنّ التقوى الدينيّة، أو بعبارة أصحّ: التقوى
الإسلامية، مؤيّدة للتقوى بصورة عامّة. من جهة أُخرى، فإنّ التقوى المنبثقة من
النظام التوحيدي أقوى من التقوى العاديّة.
وهنا يُثار هذا السؤال في حقل الأخلاق، وهو: هل إنّ المعايير الأخلاقية تستطيع أن
توجّه الناس وتحول دون انحرافهم بدون التوكؤ على الأُسس الدينية؟
يعتقد البعض أنّ للأخلاق أن توجّه الناس بدون التوكؤ على الدين أيضاً. وهذا صحيح
إلى حدّ ما، لأننا نلتقي بأشخاص غير متدينين يمتنعون من فعل ما هو قبيح، ويجدّون في
فعل ما هو حسن. في مقابل هؤلاء، نلتقي بأشخاص آخرين لهم ميول دينية كما يبدو عليهم،
بيد أنّ في عملهم شطحات وزلاّت كثيرة.
أمّا فيما يخصّ الفريق الأوّل، فينبغي أن نضع في الحسبان استعداد هؤلاء للانحراف.
فالإنسان يخضع لنزواته الشخصية إلى حدٍّ بعيد، ويمكن أن تجرّه الماديّات إلى
الانحراف. وفي واقعنا المعاصر، نرى بعض القادة الوطنيّين في ما يسمّى بالدول
الديمقراطية أو الاشتراكية، يبتلون بالانحراف من الناحية المالية والاقتصادية، مع
أنّهم في مناصب يقلّ معها احتمال انحرافهم، وهم موضع ثقة شعوبهم، إذ لولا هذه الثقة،
لما تمّ انتخابهم، مع ذلك، فإنّ طبيعة النفس الإنسانية في المجال العاطفي والنزوات
الشخصية، تجرّ هؤلاء إلى الانحراف. وفي المجتمعات التي لا تسود فيها سلطة المال،
فإنّ حبّ المنصب والتسلّط يسوق القادة والمسؤولين إلى حضيض الانحراف.
إنّ ما يمكن أن يحول دون الانحراف، هو ارتباط الإنسان بعالم الغَيْب الأبدي، أي:
ارتباطه بالله بوصفه مَظهر العلم، والقدرة، والعدالة، والرأفة. ففي رحاب هذا
الارتباط، يشعر الإنسان أنّه دائماً أمام القوّة الإلهيّة الدائمة، ولذلك قلّما
يُبتلى بالانحراف.
في ضوء ما تقدّم، يمكن القول بأنّ التّقوى الدينية كيان قوي يحول دون انحراف الناس،
ومن المفيد هنا الالتفات إلى هذه الآية الكريمة: {أَفَمَنْ أَسّسَ بُنْيَانَهُ
عَلَى تَقْوَىً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَنْ أَسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى
شَفا جُرُفٍ هَارٍ} (التوبة: ١٠٩).
وأمّا ما يخصّ الفريق الثاني، فينبغي القول: إنّ هؤلاء متديّنون في ظاهرهم، وغير
متدينين في صعيد الحقيقة والواقع، حيث لا يمتلكون رؤية واعية وإدراكاً صحيحاً للدين
وأُسسه، فهم يقومون ببعض الأعمال من وحي التقليد والمجاراة للوسط الاجتماعي الذي
يعيشون فيه، وليس لهم روح دينية. لقد ذُكرت التقوى في الآيات القرآنية بأشكال
متنوّعة، فقد جاءت في الآية التالية بوصفها معياراً للأخلاق ومقياساً للتفاضل بين
الناس: {يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ
أَتْقَاكُمْ إِنّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(الحجرات: ١٣).
وقال جلّ من قائل: {إِن تَتّقُوا اللهَ يَجْعَل لَكُمْ فُرْقَاناً}(الأنفال: ٢٩)،
ويقول الإمام عليّ (عليه السلام) في شأنها: "فإنّ تقوى الله مفتاحُ سَداد، وذخيرةُ
معاد، وعتْقٌ من كلّ مَلكَة، ونجاةٌ من كلِّ هَلَكة. بها يَنجَحُ الطّالب، وينجو
الهارب، وتُنالُ الرغائب". ووردت التقوى في سورة البقرة بوصفها خير زاد. قال تعالى:
{وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَىْ} (البقرة: ١٩٧)...
التقوى والحريّة:
للتقوى علاقة حميمة مع الحريّة، وربّما يمكننا القول بأنَّ التقوى ركيزة الحريّة
ودعامتها. ولقد تحدَّثت عن موضوع الحريّة في كتابي: (من هو المثقّف؟). وتوضيحاً
للعلاقة القائمة بين الحريّة والتقوى، من المناسب أن ننقل هنا شطراً من ذلك الحديث:
نحن نعلم أنَّ بعض الكتّاب يعرّف الحريّة بأنّها: تعني أنّ لكلّ أحد أن يفعل ما
يشاء بشرط أن لا يُزعج الآخرين.
ثمّة إشكالات على هذا التعريف: الأوّل: لا يستطيع الإنسان أن ينساق وراء نزواته
وميوله في حالات متنوّعة، إذ ليست جميع نزواته ذات قيمة، فقد يكون عرضة لرغبات
ونزوات متضاربة في ظروف متباينة.
بكلمة بديلة: إنَّ تنوّع الرغبات وعدم استقرارها، يمنع من أن يستسلم الإنسان لها.
ولو فرضنا أنّ الإنسان حيوان يمكن أن يعيش منفرداً، ففي مثل هذه الحالة أيضاً، لا
يمكن للإنسان السّير وراء الرغبات بسبب تغيّرها ووجود التّضارب فيما بينها..
مبدئيّاً، فإنَّ إشباع الرغبات لا يُسعد الإنسان دائماً.
سنرى فيما بعد أنّ الحريّة تعني - من جهة - إزالة العراقيل، والقضاء على
الديكتاتوريّين المستبدّين الذين يصادرون حريّات الآخرين، من خلال فرض آرائهم
وميولهم ومصالحهم عليهم. والآن، يجب أن نلحظ فيما لو أُزيلت العوائق أو انمحت
الحوائل، واستسلم المرء لنزواته ورغباته، فهل هو حرّ في مثل هذه الحالة؟ وهل يفيد
من الحريّة؟
لا ريب أنّه أنقذ نفسه من عامل خارجي، بيد أنّه - من جهة أُخرى - ارتمى في أحضان
عامل آخر لا تقلّ سلطته عن سلطة ذلك العامل، وفي الانجراف وراءه ضرر له، جاء في
القرآن الكريم بأنّ الذين يطيعون هوى أنفسهم (رغباتهم)، أو شهواتهم العابرة، فإنّ
صنعتهم خاسرة، وتجارتهم غير رابحة. لذلك يمكن القول بأنّه من غير الصّحيح أن ينجرف
الإنسان وراء رغباته ونزواته تحقيقاً للحريّة، فالانجراف وراء النزوات والرغبات
يعني - من جهة - التنكّر للحريّة.
الثاني: إنّ شرط عدم إزعاج الآخرين الوارد في التعريف هو شرط غامض. ومن أجل تبيان
هذا الغموض، وإثبات عدم جدواه، أُلفت أنظار القرّاء إلى المثال التالي:
افرضوا أنّ أربعة من الطلاّب الجامعيّين يعيشون في غرفة واحدة، وهم جميعهم من أنصار
الحريّة. لا ريب أنّ الحياة الجماعية لهؤلاء تحمل معها فوائد لهم، حيث يستعذبون
الحديث فيما بينهم، وأحدهم يفيد من معلومات الآخر، ويقسّمون الأعمال المنزليّة فيما
بينهم، ويدفعون إيجاراً أقلّ... وهكذا.
قلنا: إنّ هؤلاء من دعاة الحريّة وأنصارها. والآن لنرى هل إنَّ للحريّة، التي تعني:
إشباع الرغبات بشرط عدم إزعاج الآخرين، معنى في قاموسهم؟ وهل هي قابلة للتطبيق؟
في الليلة الأُولى، وبعد الاستقرار في الغرفة، ونظراً إلى أنّهم طلّاب جامعيّون،
فهم مصمّمون على مطالعة دروسهم، وهو أمر معقول ومستساغ، فلنر كيف تطبّق الحريّة -
التي تعني: إشباع الرغبات - في قضيّة قراءة الدروس؟
افرضوا أنّ أحدهم يقول: بأنّه يرغب أن يقرأ درسه ماشياً، والآخر يرغب أن يقرأ وهو
مضطجع على فراشه، والثالث متعوّد أن يقرأ وهو يستمع إلى المذياع، والرابع لا يستطيع
أن يقرأ إلّا في جوٍّ هادئ يسوده الصمت والسكوت.
فمع أنّ الموضوع هو قراءة الدروس، هل يا ترى يستطيع كلُّ واحد من هؤلاء أن يعمل وفق
رغبته؟ والنتيجة هي: بما أنّ رغبات هؤلاء الأربعة غير متماثلة، فلا محالة أنّه لا
يستطيع كلّ واحد منهم أن يعمل حسب رغبته.
والقضية الأُخرى هي: أيّ واحد منهم يكون سبباً لإزعاج رفيقه الآخر؟ فهل هو الشخص
الذي يقرأ ماشياً؟ أم الذي يقراً مضطجعاً؟ أم إنّ الثاني يزعج الأوّل؟ أم الثالث
الذي يرغب أن يقرأ وهو يستمع إلى المذياع يزعج الآخرين؟ أم إنّ الآخرين يزعجونه؟
فتلحظون، إذاً، أنّ مسألة إزعاج الآخرين غير واضحة، وليس لأيّ واحد من هؤلاء الحق
أن يعتبر الآخر مزعجاً له.
في ضوء ذلك، ترون أنّ الحريّة - بمعنى إشباع الرغبات، وعدم إزعاج الآخرين - ليس لها
معنى في قاموس هذه المجموعة، ولا المجموعة الأكبر منها، وهي: المجتمع.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «الهوى عدوّ العقل»، فاتّباع الهوى لا ينسجم مع
السلوك العقلي، فما معنى الحريّة، إذاً؟ للحريّة بُعدان: سلبي، وإيجابي.
ففي البُعد السلبي - كما مرّ بنا - تعني الحرية إزالة العراقيل أو عدم وجودها، حيث
يطمح الشخص أن ينقذ نفسه من شرّ شخص آخر يحول دون حريّته. وعندما يقال بأنّ تاريخ
الإنسان كفاح في سبيل الحريّة، فإنّ هذا يعني: قطع يد المستبدّين والديكتاتوريّين
من التحكّم في رقاب الناس.
والآن علينا أن ننظر، هل تتحقّق الحريّة عندما يُقضى على الشخص الذي يحدّ من حريّة
الآخرين، أو على الدكتاتور؟ كما نرى، أنّ القضاء على مثل هذا الشخص لا يفضي إلى
الحريّة بذاته. وهنا يأتي دور البُعد الإيجابي للحرية، فعندما يتخلّص الشخص من شرّ
عامل خارجي، ويُحكم سيطرته على نزواته ورغباته، فعند ذلك، تعني الحريّة بالنسبة
إليه اتّباع العقل أو العمل بتعقّل.
في الحقل الاجتماعي أيضاً، عندما يسقط الدكتاتور، فلا تعني الحريّة أن يَعمل كلُّ
شخص ما يشاء، أو أن يكتب كلُّ أحد ما يشتهي، بل الحرية تعني أن تسلك الجماعة منهجاً
عقلياً أو علمياً في تعاملها مع كل قضيّة، وذلك لأنّه لا وجود لأحد أفضل من الآخرين
من الناحية العلمية والفكرية في إدارة الشؤون الاجتماعية وعلاج المشاكل الجماعية.
لذلك، يجب أن يكون الناس سادة على مصائرهم، وينبغي أن تتحقّق الحريّة على أيديهم.
بيد أنّهم لا بدّ لهم من سلوك المنهج العقلي أو العلمي في المسائل المتنوّعة، حتى
يتسنّى لهم علاجها بأنفسهم. وهم أنفسهم يعيّنون حدود الحريّة عن طريق وضع
القوانين...
في ضوء ما تقدّم، يظهر لنا أنّ الحريّة تتحقّق في المجتمع من خلال سيادة الناس
وحكمهم، وسلوك المنهج العقلي. من هذا المنطق، يقال بأنّ الحريّة تعني: اتّباع العقل
أو انتهاج رؤية عقلية في شؤون الحياة.
لقد تحدّثنا سابقاً حول رأي الإسلام في العقل، لذلك نُعرض عن تكرار ذلك في هذا
الفصل، يقول رسول الله (صلّىالله عليه وآله): "صديق كلِّ امرئ عقله".
ويقول الإمام عليّ (عليه السلام): "إنّ أغنى الغنى العقل". لقد رأينا في مناقشة
معنى التقوى بأنّها تعني - من جهة - السيطرة على النزوات والرغبات، واتّباع العقل.
من هذا المنطلق، يمكن القول بأنّ التقوى - من جهة - هي نفسها الحريّة.
*من كتاب "التربية والتعليم في الإسلام".