إن النظرة الإنسانية للحياة وللمفاهيم وللتشريع، تختلف حسب اختلاف المقياس الذي
يقيس به الإنسان الأشياء في ضوء مفهومه عن الكون والحياة الذي يتكوّن لديه من
الجذور العميقة للمعرفة، فتتحدّد من خلال ذلك خطوطه التي يتحرّك فيها أو يسير عليها،
وعلاقته بالقضايا الإنسانية العامّة والخاصّة.
وعلى هذا الأساس، ربما ينبغي لنا أن نتبع قراءتها بحذر ونواجهها بوعي، لأننا قد
نستسلم إلى بعض أفكارها، فنألفه ونستسيغه ونتبنّاه، من دون التفات إلى ارتباطه
بالإسلام أو ابتعاده عنه، لغفلتنا عن العلاقات التي تحدث بين الأفكار سلباً أو
إيجاباً، ما يجعلنا نأخذ كل فكرة بشكل مستقلّ عن الأخرى، فنصطدم في نهاية المطاف
بالحقيقة الصّارخة التي تشعرنا بأننا نرفض حكم الإسلام باسم الفكر الإسلامي، أو
نتبنى مفهوماً مضاداً للمفهوم الإسلامي باسم القيم الإسلاميّة.
وقد حدثت بعض هذه الممارسات في التاريخ الإسلامي، حيث أدّت الانطباعات الذاتية
الحاصلة من قراءة معينة أو ثقافة خاصّة، إلى أن يرفض الإنسان حكماً شرعياً ينسجم مع
الخطّ العريض الذي يؤمن به، ويتبنّى حكماً آخر يختلف من منطلقات مذهبه الشّرعي،
وذلك في قضية اجتهادية اختلف فيها مذهب أهل البيت مع مذهب غيرهم من مذهب أهل السنّة،
وهي قضيّة القياس، من حيث هو دليل اجتهاديّ على الحكم الشرعيّ، إضافةً إلى الأدلة
المعروفة لدى المسلمين، العقل والإجماع والسنّة والكتاب، أو أنه لا يصلح حجّة على
الحكم الشّرعي، فقد عارضه أئمة أهل البيت (ع) وقالوا: "إنّ السنّة إذا قيست محق
الدين"، وذهب أبو حنيفة وأتباعه إلى حجيّته واعتباره.
ولما كان القياس أمراً مألوفاً لدى الناس في حياتهم العادية، فقد انسجموا مع الرأي
الذي يقرّه كدليل من أدلة الأحكام، وساعدهم في ذلك الضّغط الذي مارسه الحكام
المسلمون من خلفاء بني العباس، لابتعادهم عن خطّ أهل البيت (ع)، ومحاولتهم إبعادهم
عن الساحة الفكرية الاجتماعية، كأسلوب من أساليب إبعادهم عن الساحة السياسية، فأدّى
ذلك إلى أن يشيع هذا الاتجاه في حياة الناس وأفكارهم ويتقبّلوه بشكل عفوي وطبيعيّ.
وقد كان من هؤلاء الناس الذين تأثّروا به وانطبعوا بطابعه، أحد الأشخاص الذين
يتبعون أهل البيت (ع) في فهمهم للإسلام، وفي شرحهم لشريعته، فقد سمع ببعض الأحكام
الشرعيّة المرويّة عن الأئمّة (ع)، فاستنكره "تلقائياً"، واعتبره غريباً عن القاعدة
الفكريّة التي ارتضاها لنفسه، لغفلته عن طبيعة الجذور التي يرتبط بها وتنطلق منها
الفكرة.
ولنستمع إلى الحوار الذي دار بين هذا الرّجل، وهو أبان بن تغلب، وبين الإمام جعفر
الصّادق (ع)، قال أبان بن تغلب "فيما روي عنه"، قلت: رجل قطع إصبعاً من أصابع
المرأة، كم فيها من الدية؟ قال (ع): "عشر من الإبل"، قال: قلت قطع إصبعين، قال (ع):
"عشرون"، قلت: قطع ثلاثاً، قال (ع): "ثلاثون"، قلت: قطع أربعاً، قال (ع): "عشرون"،
قلت: سبحان الله، يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون،
كان يبلغنا هذا ونحن بالعراق، فنبرأ ممن قاله ونقول: الذي جاء به شيطان. قال الإمام
(ع): "مهلاً يا أبان، هذا حكم رسول الله (ص)، إنّ المرأة تعاقل الرّجل إلى ثلث
الدّية، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النّصف، يا أبان، إنك أخذتني بالقياس، والسنّة
إذا قيست محق الدّين".
فقد رأينا كيف انطلق هذا الرجل بطريقة عفوية في رفض الحكم الشرعي الذي جاء به أئمّة
أهل البيت عن رسول الله (ص) بكلّ قوّة، لأنه كان يختلف عما ارتكز عليه في فهمه
للشّريعة، وهو مبدأ القياس، وقد غاب عن ذهنه أن القياس مرفوض عند أهل البيت (ع)
الذين يدين الله بحبّهم وإمامتهم، لأنهم يرون أنّ دين الله لا يُصاب بالعقول،
ويعتقدون أن "لا شيء أبعد عن دين الله من عقول الناس"، لأن مناطات الأحكام أو
حيثياتها التشريعيّة ليست في متناول الناس، ولم يبيّنها لهم صاحب الشريعة ليرتكزوا
في ذلك على أساس من حجّة أو دليل، فلم يعد أمامهم إلا الظنّ والحدس والتّخمين،
يخوضون فيها خوض الحائرين، فيجمعون بين الأمور المتشابهة في جهة من الجهات، في حكم
واحد، ظناً منهم أن الحكم المتعلق بالأصل هو الأساس في تشريع الحكم، فيعتبرونه
للفرع، نظراً لاتحاد الصلة.
ولكن أهل البيت (ع) يرون أنّ الظنّ لا يغني من الحق شيئاً كقاعدة عامّة لا بدّ لنا
من الخروج عنها من دليل خاصّ، ولا دليل، ويرون أعملية إلحاق شيء بشيء في حكمه،
تتوقف على إحراز الصلة بشكل قطعي، فإذا لم يحصل القطع، فلا بدّ لنا من التوقف، لأن
متشابهة شيء لشيء لا تقتضي اتحادهما في الحكم في أيّة حالة من الحالات، إلا إذا
كانت المشابهة من جميع الجهات، وعرفنا أنّ حيثية التّشريع هي جهة الاشتراك.
ومهما كان الموضوع، فلسنا هنا من أجل بحث قضيّة حجيّة القياس سلباً أو إيجاباً،
فلذلك محلّ آخر في علم أصول الفقه، ولكنّنا نهدف في حديثنا هذا إلى الإشارة إلى
المبدأ العام الذي نحاول تركيزه في دعوتنا إلى الله، وهو أنّ الانحراف في تركيز
القاعدة الفكرية الإسلامية على أساس ثابت مستقيم، يدعو إلى الانحراف عن الخطّ في
حركة الفكرة المنطلقة أبداً نحو الهدف السليم، ما يدعونا إلى الحذر فيما نقرأه
وفيما نسمعه وفيما نتبنّاه من أفكار، فنوازن بينها وبين ما نملكه من أسس فكريّة
صحيحة، ومفاهيم عامّة شاملة، ليخلص لنا الحقّ من الباطل، والخيط الأبيض من الخيط
الأسود، والخطّ المستقيم من الخطّ المنحرف.
وهناك مثل آخر يسبق في تاريخه المثل المتقدّم، فقد حدث في عهد خلافة الإمام عليّ
(ع) أن جاءه أحد الأشخاص ليحاوره في موضوع حربه لأهل الجمل في البصرة، فطرح عليه
هذا السؤال الإنكاري: "أتراني أظنّ أنّ أصحاب الجمل كانوا على باطل؟"، فأجابه
الإمام ـ وقد عرف نقطة الضّعف في فهمه للأشياء ـ "يا هذا، إنّك نظرت إلى فوقك ولم
تنظر إلى تحتك، فحِرت أنّك لم تعرف الحقّ فتعرف من أتاه، ولم تعرف الباطل فتعرف من
أتاه".
فقد كان هذا الرجل خاضعاً لفكرة خاطئة تلحّ على فكره بقوّة، وهي استبعاد ضلال الناس
بمثل هذا العدد الكبير، فخيّل إليه أنّ مجرّد الكثرة كافٍ في فكرة الحكم بالضلال
وبالباطل عليهم.. ولكنّ الإمام أجابه بالتّركيز على القياس الحقيقيّ للتّمييز بين
الحقّ والباطل في حياة الناس، وذلك بمعرفة طبيعة الحقّ في ملامحه الفكريّة، وطبيعة
الباطل في خصائصه الذاتيّة، بعيداً من عنصر الكثرة والقلّة، وبذلك يستقيم له الحكم،
فترتكز القناعات الفكريّة على أساس الرؤية الواضحة المحدَّدة للمبادئ التي تحكم
الأشياء، لتكون أساساً للتقييم في جانب القلّة والكثرة، لا على أساس النظر إلى
طبيعة الحكم لنأخذ منها المبادئ التي تحكم الحياة.
*من كتاب "خطوات على طريق الإسلام".