كنا نتحدّث فيما مضى حول تعامل الإنسان المسلم مع الآخر، كيف ينظر إليه، وكيف يتعامل معه، لأنّ مسألة أن تكون مسلماً، هي أن تكون الإنسان الذي يعطي الإنسان الآخر ـ فرداً كان أو مجتمعاً ـ القيمة التي يحسّ فيها بإنـسانيّته عندما تنفتح عليه، من أجل أن تتكامل الإنسـانيّة مع بعضها البعض؛ تكامل الإنسان الذي يفكّر معك لتتعاون معه، وتكامل الإنـسان الذي يختلف معك لتتحاور معه، لأن الخط الإسلامي هو أن يجمع الله تعالى الناس عليه وعلى وحيه وعلى رسله، ما يفرض عليك - وأنت المؤمن به وبرسله - أن تعطي شيئاً من عقلك حتى تطوّر عقل الإنسان من موقع المــسؤوليّة، وأن تعطي شيئاً من قلبك حتى تنمّي الخير والمحبّة في قلب الإنسان الآخر، وأن تعطي شيئاً من حركتك، حتى تنفتح بكل هذه الطـاقات التي تنتج الحركة من واقع الإنسان الآخر، بأن تحترم إنسانيته ليحترم إنسانيّتك.
العلاقة مع الآخر: الجانب السّلبيّ
كنا نتحدث عن الجانب الإيجابي للمسألة، وفي تراث أهل البيت (ع) مما تحدثوا به عن رسول الله (ص)، ومما انفتحوا عليه من خلاله، لأن كل واحد منهم يجسّد رسول الله (ص) في علمه وأخلاقه وسيرته، وفي كلّ القيم التي ينطلق بها. فلا بدّ لنا من أن نقف عند هذه الكلمات المضيئة في تراثهم، لنتصوّر السلبيات التي يمكن أن تصدر عن الإنسـان ضدّ الإنسان المؤمن الآخر، مما يبعده عن الله، لأنه يبعد المجتمع عن التوحد وعن التكامل وعن التعاون وعن التقارب.
ونحن هنا ـ أيها الأحبّة ـ في هذا الخطّ الإسلامي الأصيل، وهو خطّ أهل البيت (ع)، من أجل أن نصوغ أوضاعنا وشخصياتنا صياغة إسلامية تنفتح على إيجابية الإسلام، وتبتعد عن سلبياته.
الاتهام في الدّين
فهناك حالة من الحالات التي تطغى - بكلّ أسف - على المجتمع المؤمن، وهي أن المؤمنين يتّهم بعضهم بعضاً في دينه، فيحاول أن ينتقص من دينه على أساس معطيات لا يملك فيها الحجّة، وعلى أسـاس ظنون لا ترتكز على أساس، وعلى أساس بعض الخواطر التي تخطر في ذهنه عندما يسـمع كلمة، أو عندما يرى شيئاً، فيسبق إلى ذهنه الاحتمال السيّئ، فيعمل على أساسه.
فما هو الموقف من اتهام المؤمنين لبعضهم البعض؟ وما هو الخطّ الإسلامي في ذلك كله؟
لنقرأ ما ورد عن الإمام الصادق (ع)، وقوله قول رسول الله (ص)، لأن حديثه، كحديث آبائه وأبنائه، هو حديث رسـول الله (ص)، لأنهم لا يخطئون في أية كلمة من كلماته، ولا في أية قيـمة من قيمه. يقول (ع) كما في الرواية عنه: "إذا اتهم المؤمن أخاه، انماث الإيمان من قلبه كما ينـماث الملح من الماء"(1). وانماث يعني ذاب، وهذا يعني أنّ اتهام المؤمن للمـؤمن في دينه وفي أيِّ جانب، سواء كانت هذه التّهمة في عقيدته بأن ينسـب إليه ضعف العقيدة، أو كانت هذه التّهمة في أعماله كأن يرميه بالمعـصية وبما لا يرضي الله، أو كانت التهمة في علاقاته ليحكم عليها بالسّوء، في حين ثمة إمكانية للحمل على الحسن... إن اتهام المؤمن بذلك، يعني ذوبان إيمان المتَّهِم.
فإذا اتهمته (المؤمن)، ولم تكن لك حجة في ذلك، بل كان الشكّ أو الظنّ أو ما إلى ذلك وراء اتّهامك له، فإنّك تفقد إيمانك، و"إنماث الإيمان كما ينماث الملح في الماء".
وهذه الكـلمة ـ أيها الأحبة ـ تعطينا فكرة أنّ الإيمان ليس كلمة، وأنه ليس صلاة فقط، وإنما هو كيف تتمثّل مسؤوليّتك فيما يحبّه الله وفيما يبغضه.
فالصلاة إيمان لأنها موضع محبّة الله، والكلمة الحقّة إيمان لأنها موضع رضا الله، وكذلك فإنّ الموقف والشعور والإحـساس والفكرة تجاه الآخر هي إيمان، عندما تنسجم مع ما يريده الله سبحانه وتعالى، فإذا ابتعدت عن الله الّذي لا يريد لك أن تتـّهم أخاك المؤمن، فإن مـعنى ذلك هو أن يبتعد الإيمان عن قلبك، وبهذا تصبح المسألة في خطورتها من أساسيّات الإيمان في جذوره العميقة في النّفس.
ماذا يعني اتّهام المؤمن؟!
وفي الحديث الآخر، يقول بعض أصحاب الإمام الصّادق (ع): سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: "من اتهم أخاه في دينه"، بأن نسـب إليه في دينه شيئاً يشـوِّه إسلامه في عمله، أو يشوِّه إسـلامه في عقيدته، بحيث تنسب إليه التشويه في عقيدته أو في أعماله، "فلا حرمة بينـهما"(2). فأية حرمة هذه؟ فللإيمان حـرمة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(3)، وهي أن تكون مع المؤمن الآخر كمثل الجسد الواحد، فإذا اتهمته في دينه، ولم تكن لديك حجّة على ذلك، ولم تحمل كلـمته إذا تكلَّم، وعمله إذا عمل، على خير، مما يمكن أن يتمـثّل من الخير فيه، انقطعت العلاقة بينكما، فلم تعد علاقة إيمان، لأنَّ من علاقة الإيمان، أن لا يتّهم المؤمن أخاه، ومن حرمات الإيمان، أن لا يتّهم أخاه.
ثم يتابع الإمام جعفر الصّادق (ع) المسألة ليقول لك: عليك أن لا تعامل المؤمن كما تعامل بقيّة النّاس، بل ليكن للإيمان دور في مستوى علاقتك به، وليكن للإيمان دور في زيادة احترامك له، لأنّ حق الإيمان يزيد في حقّ الإنسان، فللإنسان حقّ على الإنسان في معنى إنسانيّته، وللإيمان حقّ في علاقة المؤمن بالمؤمن.
ثم يقول (ع): "ومن عامل أخاه بمثل ما عامل به النّاس (غير المؤمنين)، فهو بريء مما ينتـحل"(4)! فأن تكون مسلماً، وتعامل أخاك بما تعامل به غير المسلم، أو تكون سائراً على منهج الحقّ في خطّ أهل البيت (ع)، ولا تعامل أخاك بهذا المستوى، فأنت بريء من انتمائك على أساس الإسلام، وعلى أساس الخطّ، لأنّ معنى الانتماء هو أن تشعر بالرابطة الإيمانيّة التي تحكم عقلك في نظرتك إلى الإنسان المؤمن، وتحكم قلبك في نظرتك إلى الإنسان المؤمن، وتحكم علاقتك مع الإنسان المؤمن.
الحمل على الأحسن
والحديث الثالث، هو حديث جدّ الإمام الصادق (ع)، إمامنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، حيث يقول في كلام له: "ضع أمر أخيك على أحسنه، حتى يأتيك منه ما يغلبك"، فإذا تكلّم المؤمن بكلمة، أو قام بعمل، أو أنشأ علاقة، أو وقف موقفاً ما، أو كان في موقع من المواقع، وكانت هناك احتمالات للخير في عمله يمكن أن يكون قد قصـدها من خلاله، واحتمالات للـشرّ في عمله، بحيث يمكن أن يكون قد قصد الشرّ في ذلك، ففي هذه الحال، اختر الجانب المشرق من الصّورة، ولا تختر الجانب المظلم منها، فأن تحمله على الأحسن، يعني أن لا تحمله على الأسوأ، فليس من الضّـروريّ أن تحكم بالأحسن، لأنّ الحكم بالأحسن يحتاج إلى حجّة، فمعنى أن تحمله على الأحسن، أن تغلب احتمال الأحسن على الاحتمال الأسوأ، وعلى الأقلّ، لا تحمله على الأسـوأ حتى تأتيك الحجّة التي تؤكّد لك الاحتمال الأسوأ، وعندها يكون الحمل على الأسوأ محمَّلاً على ما قامت الحجّة عليه، "ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً"(5). فلو فرضنا أنّ كلمة صدرت عن أخيك، وكان احتمال الشرّ فيها 99 %، واحتمال الخير 1 %، ففي هذه الحال، أفسح المجال لاحتمال الخير وابحث في الأمر جيّداً. وفي ذلك، نلتقي بالفكرة الحضاريّة الإنسانيّة العالميّة: "المتّهم بريء حتى تثبت إدانته"، فمادام هناك احتمال واحد للبراءة، فلا تحـكم بها، ولكن لاحق هذا الاحتمال، ولا تنفتح على الاحتمال الآخر، فذلك هو منطق العدالة.
النّتيجة المستخلصة
كيف نخرج بالنتيجة من خلال هذه الكلمات النّورانية المضيئة المشرقة؟ إنّك إذا وجدت من أخيك وثيقة من دين، فتثبَّت قبل أن تتَّهمه، وتثبَّت قبل أن تحكم عليه، ولا ســيَّما إذا كانت عناصر التّهمة تنطلق من خلال "قال الناس".. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(6) .
وهناك نقطة أخرى في السلبيّات، وهي تتّصل بالحديث عن أخيك المؤمن بسوء بقصد إسقاط إنسانيّته، وإضعاف موقعه، وتحطيم صورته الإيمانيّة، ففي الحديث عن الإمام الصـّادق (ع)، فيما يرويه أحد أصحابه، قال: قال لي أبو عبد الله جعفر الصّادق (ع): "من روى على مؤمن رواية ـ أي نقل حديثاً ـ يريد بها شينه ـ أي عيبه ـ وهدم مروءته ـ أي إنسانيّته ـ ليسقط من أعين، أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشّيطان"(7)، والسّبب، كما يذكره بعض شرّاح "الكافي، "هو أنَّ الشّيطان سرّ الشرّ، لأنه عندما رفض السـّجود لآدم، وخالف ربَّه في أمره له بالسّجود، لم ينطلق من انتقاصه الشخصي لآدم، فلم يقل إن آدم ليس مؤمناً وليس صالحاً، وإنما انطلق من خلال تفـضيل عنصره على عنصر آدم {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}(8)، فقد كانت معصـيته منطلقة من مسألة العنصر، لا من خلال الإيقاع بآدم وتشويه صورته وإسقاطه.
إذاً ، فالمتَّهِم أخاه شرٌ من إبليس، لأنه انطلق من المسألة العنصريّة، وأنت تقول لنفسك بأنّك مؤمن، وأنّ هذا هو أخـوك المؤمن، ومع ذلك، تحاول أن تسقطه! ولذا، فإن إبليس يرفضك، لأنّه لا يقبل أن ينسب إليه مثل هذا.
الحفاظ على حرمة المؤمن
وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع)، فيما جاء من الحديث عن رسول الله (ص): "عورة المؤمن على المؤمن حرام". وقد سئل الإمام عن معنى ذلك، فقال: "ما هو أن ينكشف فترى منه شيئاً ـ فليس معناه أن ترى عورته الجسديّة ـ إنما هو أن تروي عليه أو تعيبه"(9)، أي عوراته الأخلاقية والعملية وغيرها.
والنتيجة الإيمانيّة التي نستخلصها، هي أنّ على المؤمن أن يحفظ حرمة المؤمن، فلا يعمل على إسقاطه اجتماعيّاً، ولا على إسقاطه دينيّاً، بل يحاول أن يستر عليه وأن ينصحه، فإنّ "من وعظ أخاه سـراً فقد زانه، ومن وعظـه علانيةً فقد شانه"(10). فكيف إذا لم تكن المسألة مسألة وعظ بل مـسألة تشهير؟! ولا سيّما إذا كان هذا الأخ المؤمن الذي تعمل على إسقاط مكانته، ممن يملك موقعاً قد تستفيد الأمّة منه، فإنك بذلك إذا أسقطت سمعته ومكانته، فإنّك تسقط البرنامج الذي يحمل مما يمكن أن يصلح أمر الأمّة وأن يرفع مستواها.
جريمة إذلال المؤمن
النقطة الأخيرة، هي مسألة إذلال الإنسان المؤمن واحتقاره والإساءة إليه، هنا يأتي الحديث الصادقي عن رسول الله (ص)، ورسول الله لا يتحدث عن نفسه وبصفته، ولكنه ينقل عن الله سبحانه وتعالى، فيما أوحى الله تعالى إليه مما ليس في كتابه.
فعن الصادق (ع) قال: "قال رسول الله (ص): قال الله عزّ وجلّ: قد نابذني ـ أي خـالفني وحاربني ـ من أذلّ عبدي المؤمن"(11). ثم يريد الله سبحانه وتعالى من خلال هذا الحـديث، أن يبيِّن قيمة المؤمن عنده، وبلـحاظ هذه القيمة، نعرف كم هي الجـريمة في إذلال هذا المؤمن الّذي يحبّه الله: "من أهان لي وليّاً، فقد أرصـد لمحاربتي"(12)[حديث قدسيّ].
وقد وردت أحاديث كثيرة عن أئمّة أهل البيت (ع) في ذلك، ومنها: "من حقّر مؤمناً مسكيناً، لم يزل الله له حاقراً ماقتاً، حتى يرجع عن محقرته إيّاه"(13).
العلاقة الإيمانيّة
أيّها الأحبّة، إنّ العلاقة الإيمانيّة هي فوق كلّ العلاقات؛ فوق علاقة النسب، وفوق علاقة الجغرافيا، وفوق علاقة القوميّة، إنها العلاقة التي تربطك بالآخر من خلال الله، وما يجـمعه الله لا يمكن أن يفرّقه شيء. ففكّروا في ذلك كلّه، لأنّ هذه العناوين تقتحم عمق إيمانكم، فبها ترتفـعون إلى الدَّرجات العليا من الإيمان، وبالانحراف عنها، تسقطون إلى أحطّ دركات الضَّلال.
"أيّها النّاس، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وزنوها قبل أن توزَنوا"(14)، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}(15)، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله}(16)، {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}(17).
والحمد لله ربِّ العالمين.
* فكر وثقافة، السنة الثّانية ـ 26 ربيع الآخر 1418هـ/ الموافق: 30/ 8/ 1997م العدد: 55.
(1) الكافي، ج 2، ص 361، رواية 1.
(2)الكافي، ج 2، ص 361، رواية 2.
(3) الحجرات: آية 10.
(4) الكافي، ج 2، ص 361، رواية 2.
(5)الكافي، ج 2، ص 361، رواية 3.
(6) الحجرات، آية 6.
(7) الكافي، ج 2، ص 358، رواية 1.
(8) الأعراف، آية 12.
(9) الكافي، ج 2، ص 359، رواية 3.
(10) بحار الأنوار، ج 74، ص 165، رواية 29، باب 10.
(11) الكافي، ج 2، ص351، رواية 6.
(12)الكافي، ج 2، ص351، رواية 3.
(13)المستدرك، ج 9، باب 127، ص 103، رواية 10353.
(14)وسائل الشيعة، ج 16، باب 96، ص 96، رواية 21082 .
(15) النحل: آية 111.
(16) الانفطار: آية 19.
(17) الشعراء: آية 88 -89.