إنَّ الذين يتصلون بالشريعة الإسلاميّة ويعرفون فقهها وأحكامها، يعلمون أنّ هذا
الفقه ينقسم إلى قسمين عظيمين:
العبادات والمعاملات: فأحكام الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحجّ وما إليها، هي
من مباحث القسم الأوّل. وأحكام البيع والشراء والإجارة والإعارة والتجارة والرهن
والمزارعة والوصايا والمواريث وما إليها، هي من مباحث القسم الثاني.
ومن هذا التقسيم، يتبين لأول وهلة أنّ الإسلام ينظر إلى (المعاملات) على أنها شطر
الشّريعة، ويراها أحد العنصرين الأساسيين في تكوين السعادة التي يبتغيها للنّاس،
ويهدي إلى سبيلها. وإنها لنظرة سديدة تعطي للمعاملات حقها وقداستها، وتربطها
بالمعاني الخلقية، وتجعلها ديناً يحاسب المرء عليه نفسه، كما يحاسبها على الصلاة
والصوم وسائر حقوق الله.
والمعاملات على هذا. والوضع أثبت في المجتمع مكاناً، وأوطد بنيانا، وأيسر على الناس
قبولاً، وأقرب إلى أن يركنوا إليها وينزلوا على أحكامها، ويسلموا بمبادئها.
هذا هو الفرق بين المعاملات المستندة إلى القوانين الوضعيّة، والمعاملات المستندة
إلى الشريعة. فالأولى ليس لها في نظر الإنسان تلك القداسة التي تتمتع بها الثانية.
والأولى عرضة للتعديل والتغيير والتخفف من أثقالها، والاحتيال على الخروج من قيودها،
على حين أن الثانية ثابتة مكينة، لها حارس من الضمائر ووازع من القلوب .والأولى
عرضة للشكّ في قيمتها وحكمتها وصلاحيّتها، على حين أن الثانية بمنجاة من الشكوك
والأوهام.
وقد نشط الفقهاء في شتى المذاهب الفقهية الإسلامية لدراسة أبواب المعاملات، وتتبع
مسائلها، واستنباط أحكامها من الكتاب والسنّة، والاعتبارات المصلحية المستندة
إليهما، نشطوا إلى ذلك في صبر عجيب، ومثابرة كانت ولم تزل مضرب الأمثال، حتى أوفوا
بالفقه الإسلامي العملي على الغاية، وأعجزوا من سواهم أهل الفكر والنظر عن ملاحقتهم،
فضلاً عن مسابقتهم، وأثبتوا لأرباب العقول وأصحاب المناهج والنظم، أن الإسلام هو
دين الخلود، وأن شريعته هي نظام الحياة.
وليس للشريعة الإسلامية من هدف تهدف إليه في تنظيمها لشؤون المعاملات إلا أن تسعد
المجتمع، وتوطّد في ربوعه دعائم السِّلم والأمن والاستقرار، وهي لذلك لا تجافي
الطبيعة، ولا تناهض الفطرة، ولا تنكر الحقائق، ولا تحاول الخروج على السنن، ولا
تضيق صدراً بالإصلاح، ولا تكلّف الناس ما ليس في استطاعتهم.
وفي هذا المعنى يقول ابن القيِّم: "إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح
العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلّها، ورحمة كلّها، ومصالح كلّها، وحكمة كلّها،
وكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة،
وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشّريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل. ولقد جنى على
الشريعة الإسلامية، أو تجنَّى عليها قوم جانبهم الإنصاف والتوفيق، فأظهروها للناس
بمظهر الشريعة القاصرة، التي لا تخرج عن دائرة العبادات والمسائل الروحيّة أو
الخلقيّة، ومنهم من زعم أنها شريعة جامدة في أحكامها، يضيق صدرها بما يحدث للنّاس
من نظم، أو يرون الأخذ به من أسباب، والله يعلم إنها لشريعة الصلاح والخير، ولكنّهم
قوم يجهلون.
* * *
بعد هذا التمهيد الذي أردنا به لفت أنظار المسلمين على وجه الإجمال إلى شريعتهم،
حتى يعتزّوا بها، ويشرئبّوا إلى آفاقها، ويبنوا صرح مدنيّتهم على أساسها، نعرج على
موضع من موضوعات الفقه الإسلامي، هو: (الكسب المشروع في الإسلام)، لنرى فيه مثلاً
واضحاً على متانة هذه الشريعة، وملاءمتها للحكمة والمصلحة، وتحقيقها لما ينبغي أن
يسود المجتمع من صلاح وسلام.
إن الكسب في نظر الشريعة الإسلامية، لا يكون سائغاً ولا مقبولاً إلا إذا كان (طيّباً)
فإنّ الله لا يقبل إلا الطيّب، ولن يكون الكسب طيباً إلا إذا كان من طريق مشروع.
والطرق المشروعة للكسب كثيرة، وكلّها تقوم في التشريع الإسلامي على أسس ثلاثة:
أ التعاون بين أفراد المجتمع.
ب قطع أسباب الخلاف والمنازعات.
ج رعاية الجانب الخلقي.
ولنعرض لهذه الأسس الثلاثة بشيء من البيان والتفصيل:
أ) التعاون بين أفراد المجتمع: الإنسان مدني بالطبع، ولا بدّ له من أن يعيش في
مجتمع، وقد جعله الله خليفةً في الأرض، وأودعها جميع ما يصلح به أمر، ويستقيم عليه
شأنه من مادة ظاهرة وباطنة، فعليه أن يستغلّ ذلك استغلالاً صالحاً، وأن يوزّع جهود
أفراده في سبيل تحقيق هذه الغاية توزيعاً يعين على الوصول إليها، وييسّر صعابها،
ويذلّل عقابها، فإذا اختلّ الميزان في هذا التوزيع، فإنّ الحياة في المجتمع تتعقّد
بمقدار اختلاله، ويشعر أفراده بالهبوط في مستوى سعادتهم واطمئنانهم.
ومثل ذلك، كمثل جماعة من العمال في مصنع من المصانع، لكلّ منهم عمل مقسوم، عليه أن
يقوم به، فإذا أدّى كلّ منهم عمله على الوجه الأكمل، سارت أمورهم عي ما يحبون من
الاستقامة والهدوء، وإذا فرّط أحد فيما وكل إليه، تعرّض الجميع للخطر على قدر هذا
التفريط قوّةً وضعفاً، قلّة وكثرة. فالمجتمع ما هو إلا مصنع كبير والناس عماله،
والتعاون بينهم روحه، وملاك أمره، وقوام صلاحه وبقائه.
ولذلك، انبنى التشريع الإسلامي للمجتمع على أساس طبيعي، هو وجوب أن يبذل الفرد من
ذات نفسه لمجتمعه، في سبيل أن يعيش عضواً من أعضائه، فلا بدّ لكلّ فرد من أن يكون
عاملاً، إمّا صانعاً، أو زارعاً، أو تاجراً، أو معلّماً، أو موجّهاً يبذل للناس
بذلاً في مقابل انتفاعه بما يبذلون له. ولهذا حرّم الرّبا في الشريعة الإسلامية،
لأنه اكتساب للمال لا يقابله عمل، فهو تعطيل لصاحب المال، وتحويل له إلى عضو أشلّ،
لا فائدة للمجتمع منه. ولهذا أيضاً، حرّم القمار، لأنه استلابٌ للمال دون مقابل من
العمل واحتمال للأعباء، كما حرِّم التسوّل والغصب والاختلاس... إلخ.
ولهذا أيضاً حرم الاكتساب من الأعمال التي لم يعترف الشّرع بها، وذلك كالاكتساب من
التجارة في الخمر أو الخنزير، أو إدارة محالّ الفجور، أو الرّقص أو صناعة الأصنام،
أو نحو ذلك من كلّ ما حرَّمه الله، فإنّ ذلك ليس نفعاً للأمّة، ولا إفادة للمجتمع،
بل هو ضرر وفساد، وهو أشدّ على الأمّة من تعطّل المتعطّل، وكسل الكسلان.
وخلاصة القول في هذا، أن نرجعه إلى المبادئ الآتية:
1 الإنسان خليفة الله في الأرض.
2 ولا حياة له إلا بالاجتماع.
3 وفي الأرض كلّ ما يحتاج إليه.
4 والأرض والمال لله، خوّلهما عباده بمقتضى الخلافة.
5 ولكلّ من الناس حظّ في هذه الثروة المملوكة عن الله، ولكن بشرط أن يؤدّي للمجتمع
مقابل هذا الحظّ من ذات نفسه، حتى لا يكون كلًّا عليه.
6 ولا حقّ في هذه الثّروة الإلهيّة إلا عن الطريق الذي شرّعه واهبها ومستخلف
الإنسان فيها.
وبهذا يتبيّن أنّ الإسلام لا يريد مجتمعاً ضعيفاً يعيش فيه الكسالى والمتبطّلون، أو
عناصر الترويج للفساد والضّرر، وإنما يريد مجتمعاً عاملاً ناصباً متعاوناً على البرّ
والتقوى، لا على الإثم والعدوان.
وقد يسأل سائل عن نظام الإتجار بالمال دون أداء عمل، وذلك كما في الشّركات التي
تسمَّى في بعض المذاهب الفقهية (بالمضاربة)، والتي أساسها أن يبذل أحد الشّريكين
مالاً والآخر عملاً، ويأخذ كلّ منهما نصيباً معيّناً مقابل ما بذل، وهذا النظام
شبيه بنظام الشركات المساهمة في بعض نواحيه، وقد أباحت الشّريعة الإسلاميّة هذا
النوع من الكسب، مع أنّ بعض الشّريكين فيه لا عمل له، كما في الرّبا والقمار.
والجواب: أن هناك فرقاً بين الأمرين، فإن صاحب المال هنا يتجر به فيساهم في الترفيه
عن المجتمع، ولا يحبس عنه ماله، ويأخذ ما يأخذ من الكسب عن تجارة يروّجها وينفع
الناس بها، أمّا آكل الرّبا أو الميسر، فإنّه لا يفيد المجتمع بشيء، ولا يقدّم له
بعض ما هو في حاجة إليه.
ب) قطع أسباب الخلاف والمنازعات: لكلّ معاملة من المعاملات أركان طبيعيّة هي:
1 العاقدان.
2 والشّيء المعقود عليه.
3 والصيغة التي يكون بها العقد.
ونرى الشريعة الإسلامية تشترط في كلّ ركن من هذه الأركان الطبيعيّة ما يقطع النزاع،
ويسدّ أبواب الخصومة والضّغائن.
فالعاقدان لا بدّ أن يكونا راشدين عاقلين عاملين لما يتعاقدان عليه، ولا يجوز
التعامل مع السّفيه ولا مع الصّغير الذي لا يميّز، ولا مع المجنون، ولا مع الغافل،
وذلك لأنّ التعاقد ما لم يكن على بصيرة وفهم وقدرة على الموازنة بين البذل والأخذ،
فإنه كثيراً ما يكون مثاراً للخلاف المؤدي إلى النزاع والخصام، أو الحقد والاضطغان،
وكلاهما يكدّر صفو المجتمع، ويزلزل أمنه واستقراره .والشيء المعقود عليه يحب أن
يكون مملوكاً لصاحبه، وإلا كان تصرفه فيه باطلاً، لأنه تصرف في ملك غيره.
ويجب أن يكون ذا فائدة معتدّ بها شرعاً، وإلا كان التصرف فيه ترويجاً للفساد أو
عبثاً. وبهذا وذاك يصان المجتمع مما يؤدّي إلى الخلاف أو يثير النزاع أو يروّج
للفساد. والصيغة التي يكون بها التعاقد، لا بد أن تكون واضحة في إفادة معنى الرّضا
والقبول عادةً، دون تأثير أو ضغط بإرهاب أو تخجيل أو استغلال للفظ على سبيل التلاعب؛
أو نحو ذلك.
وقد اعتدّ الشارع بكل أمارة يتبين بها أن التعاقد صوري أو مشوب بنوع من أنواع
الإكراه، ورتب على ذلك فساد التعاقد، وعدم استتباعه لآثاره.
تلك هي الشروط التي تشترط في أركان العقد، ولهذا نهى الشارع عن كل معاملة تثير
نزاعاً من أية ناحية، ونهى عن بيع الخمر والنجس والأصنام وسائر ما حرَّم، ونهى عن
بيع ما في بيعه غرر: كالمجهول والآبق، ونهى عن الغشّ والغبن الفاحش.
وقد كان للنّاس معاملات قبل الإسلام، فأقرّ منها ما لا يؤدي إلى ضرر، أو يجرّ إلى
محرَّم، وأبطل منها أو عدل ما يؤدّي إلى ذلك. وهذا هو أحد الأصول القاطعة في تحليل
ما أحلّ، وتحريم ما حرَّم.
ج) رعاية الجانب الخلقي :
بعد أن يتحقّق في الكسب ما ذكرناه من التعاون، ووقوعه على صفة من شأنها أن تقطع
أسباب الخلاف والنزاع، نرى الشريعة الإسلامية تسمو فوق هذا المستوى، فتنحو بالأمر
نحواً خلقيّاً كريماً، وترسم للمتعاملين سبيلاً مهذّباً من شأنه أن يجعل مجتمعهم
راقياً فاضلاً، وأن يديم بينهم مع التعاون معنى الحبّ والمودّة والاحترام. هذا
السبيل هو رعاية الجانب الخلقي، والنظر إلى ما تقضى به الفضيلة، حتى لا يكون
التعامل جافّاً غليظاً، أو يكون غرض كلّ من المتعاملين استعمال مواهبة في استلاب ما
يمكنه استلابه من صاحبه.
ويظهر ذلك من الأحكام الآتية:
1 - تستحبّ الإقالة إذا طلبها أحد المتبايعين، وذلك أن يندم أحد المتعاقدين على ما
التزم، ويتبيَّن له أن التزامه ليس من مصلحته، فيطلب من صاحبه أن يقيله، وقد ورد في
بعض المأثور: "من أقال نادماً، أقاله الله يوم القيامة".
2 - يكره أن ينفلت الرّجل من مجلس البيع متخفياً قصداً إلى تفويت حقّ صاحبه في خيار
المجلس.
ومعنى ذلك، أن المتبايعين بالخيار ما لم يتفرّقا، فقد يشعر أحدهما بأنّه الفائز،
فإذا استمرّ في المجلس، تبيَّن صاحبه الأمر فرجع في العقد، فهو لذلك يغافله، ويهرب
من المجلس ليَثبت العقد تثبيتاً نهائيّاً بالتفرق، فالشارع ينهى عن ذلك، وهو معنى
خلقيّ كريم يلتفت إليه الإسلام هذا الالتفات العجيب.
3 - نهى رسول الله (ص) عن تلقّي الركبان، وذلك أن يخرج طالب السّلعة إلى طريق
جالبيها، فيلقاهم قبل أن يصلوا بها إلى السّوق العامّة فيستأثر بها دون الناس. ولا
شكّ أنّ من يفعل لك أنانيّ يحب نفسه، وفي النهي عن ذلك تأديب وتهذيب.
4- نهى رسول الله (ص) عن أن يبيع حاضر لباد، وقال: "دعوا الناس في غفلاتهم، يرزق
الله بعضهم من بعض".
ولا شكّ أنّ أهل البادية إذا اعتمدوا في بيعهم على أهل الحاضرة غلا السعر، وبطل
جانب من المساهلة والمسامحة.
5 - يستحبّ السماحة في البيع والشّراء، والأخذ والعطاء، وفي الحديث: "رحم الله
رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى".
6 - يحرم الاكتساب وابتغاء عرض الدّنيا بما هو محرَّم، أو بما ينافي الخلق
والفضيلة، كالرّبا، والقمار، واتخاذ النساء وسيلة، واحتكار الطعام، وما يضرّ
احتكاره من الضروريّات.
7 - يحرم البيع ساعة النّداء للجمعة، لأنّ فيه إيثاراً لعرض الدنيا على الآخرة،
وفيه إلى جانب ذلك ظهور بمظهر الجشع والتلهّف، وهو مظهر ينافي الخلق الكريم.
8 - نهى رسول الله (ص) عن الحلف على السّلعة لترويجها، لأنه نزول باسم الله العظيم
إلى موطن المساومة.
* * *
هذه هي الأسس الثلاثة التي ينبني عليها الأمر في (الكسب المشروع)، ولم تقصد بما
أوردناه من الأمثلة استيعاباً ولا إفاضةً في البيان، وإنما أردنا لفت الأنظار إلى
أنواعها بقدر المستطاع.
إن الفقه الإسلامي هو فكرتنا ومنهاجنا في الحياة، ولكلّ أمّة نظام ونهج وفكرة تدعو
إليها، وتحاول جمع النّاس عيها.
فليجمع المسلمون أمرهم على هذا التّراث المجيد، وليجعلوه منهاجهم الذي عليه يسيرون،
وإليه يدعون، والله المستعان، والحمد لله ربّ العالمين.
*مجلة رسالة الإسلام، العدد 9.