كتابات
24/07/2019

مسؤوليَّة الإيمان

مسؤوليَّة الإيمان

ونبقى مع حديث الإيمان، لأنَّ قضيَّتنا دائماً هي كيف نحوِّل الإيمان من كلمةٍ إلى موقف، وكيف نحوِّل الموقف إلى عمقٍ في الوجدان وعمقٍ في الشخصيَّة، وحديث القرآن في ذلك، حديث يطوف بنا في أكثر من موقع في الدنيا والآخرة، ليشير إلى المؤمن كيف يمكن أن يستوحي من الخطاب القرآني ما يعمِّق إحساسه بمفهوم إيمانيّ هنا ومفهوم إيمانيّ هناك.

يوم القيامة: المسؤوليَّة فرديَّة!

في الآية التي نريد أن نبدأ بها الحديث، تأكيد على المسؤوليَّة الفرديَّة أمام الله، فالإنسان عندما يقف أمام الله، فإنَّ عليه أن يحسب أن لا أحد معه حتى الأقرب، وأيّ قربى أقرب من قربى الأب لولده والولد لأبيه؟! حتى يعرف الإنسان أنَّ مسألة القرابات والصّداقات هي مسألة قد يُلِمَّ بها الإنسان في حياته لتحكم حركة علاقاته، فيما يريد الله للإنسان أن يتحرَّك به في هذه العلاقات، ولكن عندما تكون أنت نفسك، في فكرك وهو يتبنّى الإيمان أو الكفر، أو الهدى أو الضَّلال،، وفي عملك - وكلامك من عملك - كيف يتحرَّك في خطّ الاستقامة أو الانحراف، فأنت وحدك في لقائك بالله يوم القيامة، وهو وحده.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ}، وهو يؤكّد هنا على خطّ التقوى الذي يختزن الإيمان {وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً}[1]، فإن هناك تقطّعاً في صلات القربى عندما تتعلق المسألة بالمسؤوليّة، ولقد عبّر القرآن عن هذا المعنى في أكثر من آية، ومنها قوله تعالى: {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ}[2]، وقوله تعالى {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ *وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[3]، {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً}[4]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}[5]، {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى}[6]، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[7].

إن حقيقة هذا المعنى أو هذه الفكرة، هي حقيقة إيمانيّة، ولكن ما هي إيحاءاتها في حركتنا في الواقع؟ إن إيحاءات هذه الفكرة الإيمانيّة هي أنّ عليك أن لا تجامل أحداً في الدّين، سواء كان هذا الإنسان أباك أو أخاك أو صديقك.

لا أنساب يومئذٍ

ولربما تفرض عليك هذه العلاقات أن تقدّم تنازلاً من مالك، أو تقدّم تنازلاً من مزاجك، أو تقدّم تنازلاً من بعض أوضاعك، ولكن أن تقدّم تنازلاً من دينك، فتشهد لمصلحة من لا حقّ له لأنه قريبك، أو تشهد على إنسان له الحقّ لمصلحة صديقك، أو تتّخذ موقفاً مؤيّداً لمشروع سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي، لأنّ صاحب المشروع يتّصل بك بصلة القربى أو بصلة الصّداقة، فإنّ هذه الآية تقول لك إنّك عندما تتحرّك في الحياة، فعليك دائماً أن تراقب في حركتك موقفك في ذلك اليوم، فلا تنظر إلى الواقع الاجتماعي من حولك كيف تراقبه وكيف تجامله، ولكن راقب موقفك وأنت في اللامجتمع، فحتى المجتمع في يوم القيامة ـ والله يحشر الناس كلّهم هناك ـ يفقد صفته الاجتماعيّة هناك، لأنَّ المسألة هي أنَّ كلَّ واحدٍ يعيشُ فرديّته في حساب المسؤوليَّة، وهذا ما عبّرت عنه الآيات {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ}.

وهكذا عندما يحدّثنا الله عن أجواء القيامة، فإننا نستوحي من ذلك، وجود مجتمع متضامن تبقى علاقاته التي كانت في الدنيا لتمتدّ إلى الآخرة، وهو مجتمع المتقين، لأنّ العلاقة في الدنيا قد انطلقت من خلال الآخرة، ولأنها ارتكزت على أساس العلاقة بالله {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}[8]، فالمتّقون يتلاقون ويعيشون في جوٍّ متضامنٍ، إذا صحّ التّعبير عن العلاقة آنذاك، لأنَّ الحبَّ كان في الله، ولأنَّ البغض كان في الله، ولـم تكن الصّداقة صداقة ذاتٍ تبحث عن علاقة مع ذات، ولكنَّها كانت علاقة إيمانٍ يبحث عن إيمان يتكامل معه ويقوى به ويقوّيه.

لا مجاملة في الإيمان

لذلك ـ أيّها الأحبّة ـ إنّ علينا أن نفكّر في هدي هذه الآية، ذلك أنّ قضيّة أن يجامل الوالد ولده في معصية الله، أو أن يجامل الولد والده في معصية الله، فهذه قضيّة ليست واردة في الحساب، وقضيّة إبراهيم (ع) بكلّ تلك العاطفة التي كان يعيشها إبراهيم، هي أنه عندما انطلق وجرّب وحاول أن يفجّر الإيمان في قلب أبيه، ورأى أن التجربة قد فشلت في ذلك {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}[9].

وهكذا رأينا مثلاً آخر في قصَّة إبراهيم (ع) مع ولده، فإنَّ ما أوحى الله إليه كان يهزّ عاطفته في الأعماق، وأيّ جرحٍ للعاطفة وأيّ شكل للعاطفة أعظم وأقسى من أن يكلّف الأب لا بأن يقدّم ولده للحرب، ولكن بأن يذبح ولده، وأن يكلف الولد لا بأن يدخل في معركة قد يقتل فيها أو قد ينجو منها، ولكن بأن يقدّم نفسه للذّبح؟! ولذلك لم تكن هناك علاقة أب وابن، لـم يكن هناك للعاطفة دور في هذا المجال، ولكن المسألة كانت أنّ هناك مؤمناً رسولاً أوحى الله إليه بالذّبح، وأنّ هناك مؤمناً عرف وحي الله فيما يتعلّق بحياته واستسلما لله.

عصبيّة مرفوضة

وهذه مسألة ـ أيّها الأحبّة ـ قد نحتاجها في حياتنا السياسية وفي حياتنا الاجتماعية، وفي أكثر من لون من ألوان الحياة، عندما نلتقي بالعصبيّة الكامنة في أعماقنا، فنحن، ولا سيّما في شرق المنطقة العربيّة، عاطفيّون، والعاطفة ليست شيئاً طارئاً في حياتنا، والعاطفة أمرٌ مقدَّس، فليس سلبيّاً أن تكون لك عاطفة، بل السلبيّة أن لا تكون لك عاطفة، لأنَّ الله يذمّ قسوة القلب، ولكنّ المسألة أن العاطفة عندما تتحوّل إلى عصبيّة، وعندما تتحجّر، فلا تكون مجرّد نبضة قلب وخفقة إحساس، وعندما تتحوَّل إلى موقف ضدّ مبادئك، وعندما تتحوَّل إلى حركة في طريقك، وعندما تسيء إلى الهدف، فإنها عاطفة مرفوضة.

إنّ الكثير من الناس متعصّبون عاطفياً، لأنّ الإنسان المفكّر لا يمكن أن يكون متعصّباً، ذلك أنّ العصبيّة لا تقترب من الفكر، بل هي أن تغمض عينيك وتتحرّك، أما الفكر، فهو أن تلتزم بفكرك، ولكنك تظلّ مفتوح العينين تتأمّل في فكرك دائماً، فلعلّك تكتشف فيه بعض الخطأ، وتتأمّل في فكر الآخر، فلعلّك تجد فيه بعض الضّوء الذي يثير لك بعض الظّلمات التي تواجهها في فكرك. إنّنا متعصّبون، نتعصّب للشخص، ونتعصّب للطائفة، ونتعصّب للحزب، ونتعصب للعشيرة، ونتعصب للذات.

أيّها الأحبّة، إنّ هذه حالة صنميّة، لأنك تحوِّل من تتعصّب له إلى وثن تعبده، وقد لا يكون هو وثناً، ولكنّ إحساسك بعلاقتك به تشبه الوثنيّة، ولقد كان المشركون يتعبّدون للملائكة، والملائكة براء من ذلك، لكنّ هذا الاستغراق نفسه في الذّات، يمثّل نوعاً من أنواع الصنميّة، لأنّك لا تفكّر في الشخص الذي تتعصَّب له من خلال ما يمثِّل من قيمة، ولكنَّك تتعصَّب له من خلال ما يمثِّل من جانب الذّات، وهكذا بالنّسبة إلى الطائفة التي تنطلق من خلال قيم ومبادئ ومفاهيم، ولكنَّك قد تبدأ من هذه القيم، ثم تتحوَّل بعد ذلك إلى أن تبتعد عن كلّ ما في الطائفة من قيم، ليكون موقفك أنّك تتعصّب لمجموعة بشريّة ولمجتمع بشريّ بعيداً من خطّ الاستقامة والانحراف، كما يروى عن الإمام عليّ بن الحسين (ع): «إنّ العصبيّة التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرّجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبيّة أن يحبّ الرّجل قومه، ولكن من العصبيّة أن يعين قومه على الظّلم»[10].

إنَّك عندما تتعصّب لقومك حتى لو كانوا منحرفين، وحتى لو كانوا مبتعدين عن العنوان الّذي أعطاهم معنى القيمة، فإنك تأثم، لذلك، فإن أول ما ينبغي للمؤمن إذا كان يخاف الله، ويخشى ذلك اليوم، أن يستوحي أنَّ من يتعصَّب له لن ينفعه يوم القيامة، وأنّ عليه أن يخفِّف تعصّبه.

الفرق بين العصبيّة والالتزام

وكرّرنا كلامنا في هذه النّدوة وفي غيرها، أنَّ هناك فرقاً بين التعصّب والالتزام؛ التعصّب أعمى والالتزام مبصر، التعصّب يغلق عقلك وقلبك عن الآخر، والالتزام ينفتح على الآخر حتى لو اختلف معه، التعصّب ينطلق من خلال عبوديّة لمن تتعصّب له، وحقد ضدّ من تتعصّب عليه، والالتزام يبقى مع الفكر، ويلتزم مع من التزم به في خطّ الفكر، ويختلف مع الآخر وهو يدرس فكره من خلال حوار الفكر. وربما كانت مشكلتنا في الوسط الديني وفي الوسط السياسي وفي الوسط الاجتماعي، هي هذه العصبية التي تغلق عقلك عن عقول الآخرين، وتغلق قلبك عن قلوب الآخرين، وتجعلك إنساناً تتحرّك كما لو كنت وحدك.

اتّقوا الله وتجنّبوا الشّيطان

هذه نقطة لا بدّ أن نعيشها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} راقبوه واحسبوا حسابه، عيشوا حضوره، لأنّ حضوره هو أعمق من كلّ حضور، ولأنّ حضوره أوضح من كلّ حضور، هو الحاضر أبداً بكلّ عمق، والحاضرون غائبون، ولذلك «خف الله كأنّك تراه، وإن كنت لا تراه، فإنه يراك»[11]، راقب ربّك، واحسب حسابه، وخف ذلك اليوم العصيب، لأنه اليوم الذي تواجه فيه نتائج المسؤوليّة، {وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ} بالرّغم من عمق العلاقة بين الولد والوالد، وبالرّغم من كلّ التضحية التي يقدِّمها الوالد تجاه ولده {وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً}، ولا تهتزّ ثقتكم بيوم القيامة {إِنَّوَعْدَ اللهِ حَقٌّ}، فسيأتي إن عاجلاً أو آجلاً، وكلّ من سبقك من أهلك وأصدقائك هم رسل الله إليك، ولقد انطلقوا نحو هذا الوعد، وعليك أن تنطلق نحوه {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، بكلِّ شهواتها وبكلِّ أطماعها وبكلِّ أشغالها، لا تخدعنَّكم، فيخيَّل إليكم أنها السّعادة وأنها الخلود، لأنَّ الحياة الدّنيا تمثِّل مرحلة، وهذه المرحلة تمثِّل فرصة لكم بأن تراقبوا مسؤوليَّاتكم في كلّ طاقاتكم التي تملكونها.

{وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الْغَرُورُ}[12]، وهو الشّيطان الذي يزيّن لكم ويحسّن لكم القبيح ويقبِّح لكم الحسن، لأنّه يريد أن يجرَّكم إلى عذاب السَّعير. وقد حدَّثنا الله في أكثر من آية، عن شيطان الإنس وعن شيطان الجنّ {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}[13]، {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً}[14]، وهذه تجربة عاشها النّاس من قبلنا {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}[15]، فعلينا أن نواجهها.

علم الغيب عند الله

{إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}، فهو الّذي يعلمها، لأنّه هو الذي قدّرها، وهو الذي يعلم الذين يحشرون إلى الساعة، لأنه هو الذي خلقهم {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ}، فالله هو الذي يعطينا الحياة {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}[16]، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ}، لأنّه هو الذي أودع ما في الأرحام. وقد يتساءل البعض أنَّ بعض النّاس قد يعلم السّاعة إذا فسَّرنا السّاعة بالموت، وقد يخلق بعض الظّروف التي تنزل الغيث ويعلم ما في الأرحام، وقد يخبر عمَّا في الأرحام، ولكنّه يعلمه من خلال ما ألهمه الله من العلم، إنَّه يعلمه بالوسائل التي وضعها الله تعالى، والتي ألهمهم إيّاها، أمَّا ربّ العزّة، فإنه يعلمه من خلال أنّه خلقه وهو صنعه، أمَّا نحن، فعلمنا بما في الأرحام من خلال الوسائل التي هّيأها الله لنا، أمّا إنزالنا الغيث كما في الغيث الصناعيّ، فهو ليس إنزالاً للغيث، ولكنه يحصل في بعض الحالات من خلال بعض الأجهزة أو بعض الأشياء التي هي خلق الله، ومن خلال خلق الله يتحرّك هذا الواقع.

 ونحن نعرف ـ أيّها الأحبّة ـ أنّ الله أطلع الإنسان على بعض القوانين التي أودعها في عالـم السببيّة، فإذا اكتشف الإنسان هذه القوانين، واستطاع أن يصنّعها بما مكَّنه من فكر، فإنه يكون منسجماً مع ما أودعه فيه من القوانين ولا يكون خالقاً لها.

استحضار المـوت

{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً}، فلا بدّ للإنسان من أن يعيش الهاجس بأنّ الموت يمكن أن يأتيه في كلّ لحظة، وقد يفكّر بعض الناس أننا عندما نستحضر الموت أمامنا، فقد تتعطّل الحياة، لأنّ من يفكّر في الموت كيف يعمر الحياة؟! ولكنّ الله أراد لك أن تفكّر في الموت لتعرف كيف تواجه الحياة بمسؤوليّة، ولتعرف كيف تتحرّك مسؤوليّاتك بدقّة وحذر، وقد قال الإمام عليّ (ع) - وهو العارف بالقرآن الّذي لـم يعرفه أحدٌ مثله إلا رسول الله (ص)، لأنّه هو الذي علّمه، فهو أستاذه -:  «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً»ـ إنّ الله كلّفك أن تعمر الدّنيا، وجعلك خليفته بكلّ ما لكلمة الخلافة من سعة تتّسع لعمران الدّنيا وعمران أهلها، وأراد لك أن تبقى بهذا الاتجاه، ولكن إذا فكرت في المسؤوليّة وفي حركة الدنيا في خطّ الآخرة، على أساس {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}[17]، فلا تستغرق في الدنيا استغراق الذي يعتبرها نهاية المطاف، خذ منها حاجتك، وإذا كانت حاجتك أن تعمّر، فهذا نصيبك من الدنيا، وإذا كانت حاجتك من الدنيا أن تتحرَّك وأن تجاهد، فهذا نصيبك من الدّنيا، ولكن عندما تحرك نصيبك من الدّنيا، أعط الدنيا معنى الآخرة في معنى المسؤوليّة وفي معنى تقوى الله.

«واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً»[18]، وهذا هو الذي يتحرّك في خطّ التوازن في المفاهيم الإسلامية، بين أن تعيش الأمل من خلال حركتك في الحياة، وأن تعيش التقوى ومراقبة الله في كلّ مفردات هذا الأمر، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ} بكلّ ما في الكون، عليم بسرّكم وعلانيتكم، و{خَبِيرٌ}[19] بما يحدث لكم.

وإذا انطلقتم في هذا الاتجاه، فهناك الوعي الذي لا بدّ لكم أن تعيشوه في كلّ مسؤوليّتكم، وهناك ذكر الله الذي لا بدّ أن لا يفارقكم، وهناك أن يصبح كلّ إنسان وتوبته معه، وأن يمسي وتوبته معه، لأنه لا يدري مع الصباح هل يمسي عليه المساء، ولا يدري مع المساء هل يصبح عليه الصّباح، كم من أهلنا وأصدقائنا ومعارفنا من عاشوا في المساء ولـم يصبحوا، ومن عاشوا في الصّباح ولـم يمسوا!

رضوان الله هو السّعادة

أيّها الأحبّة، بعض من الوعي، بعض من التّقوى، بعض من الإحساس بمعنى هذه الإنسانيّة التي لا تكبر إلا عندما تمتلئ بالله وبدين الله، ولا تعيشوا السّعادة إلا من خلال الإحساس برضوان الله تعالى، ورضوان الله في الآخرة هو السَّعادة، فالله حدّثنا عن الجنّة، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ به الأعين، {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ}، وهذا هو ما عبَّر الله عنه في سورة الفجر، حيث إنّه قدّم الرّضا على الجنّة {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً}، عند الله {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}[20].

أيّها الأحبة، قال رسول الله (ص) فيما روي عنه: «إنّ القلوب تصدأ كما يصـدأ الحديد - وقلوبنا صدئة بكلّ هذا الصّدأ الذي نجمعه من هنا وهناك، ومما نخوض فيه، ومما نلمّ به ومما نعيشه - قيل: يا رسول الله، وما جلاؤها؟ قال: قراءة القرآن - روحيّاً ومعنويّاً لا لفظيّاً {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[21] - وذكر الموت»[22] إيجابيّاً لا سلبياً.

والحمد لله ربّ العالمين.

*فكر وثقافة، السنة الثانية ـ 20 شعبان 1418 هـ/20/12/1997م، العدد: (71).

***

ع: مسؤوليَّة الإيمان.

التَّاريخ: 22 ذو القعدة 1440هـ/ الموافق: 25 تموز 2019م.

ت: ونبقى مع حديث الإيمان، لأنَّ قضيَّتنا دائماً هي كيف نحوّل الإيمان من كلمة إلى موقف، وكيف نحوِّل الموقف إلى عمقٍ في الوجدان وعمقٍ في الشخصيَّة، وحديث القرآن في ذلك، حديث يطوف بنا في أكثر من موقع في الدّنيا والآخرة، ليشير إلى المؤمن كيف يمكن أن...


[1] لقمان: 33.

[2] المؤمنون: 101.

[3] عبس: 34-37.

[4] مريم: 95.

[5] النّحل: 111.

[6] النجم: 39- 40.

[7] فاطر: 18.

[8] الزّخرف: 67,

[9] التوبة: 114.

[10] الكافي، ج2، ص308.

[11] الكافي، ج2، ص 68.

[12] لقمان: 33.

[13] الحشر: 16.

[14] الفرقان: 27- 29.

[15] يس: 62.

[16] الأنبياء: 30.

[17] القصص: 77.

[18] مستدرك الوسائل: ج1، ص 146.

[19] لقمان: 34.

[20] الفجر: 27.

[21] محمد: 24.

[22] مستدرك الوسائل، ج2، ص: 104.

ونبقى مع حديث الإيمان، لأنَّ قضيَّتنا دائماً هي كيف نحوِّل الإيمان من كلمةٍ إلى موقف، وكيف نحوِّل الموقف إلى عمقٍ في الوجدان وعمقٍ في الشخصيَّة، وحديث القرآن في ذلك، حديث يطوف بنا في أكثر من موقع في الدنيا والآخرة، ليشير إلى المؤمن كيف يمكن أن يستوحي من الخطاب القرآني ما يعمِّق إحساسه بمفهوم إيمانيّ هنا ومفهوم إيمانيّ هناك.

يوم القيامة: المسؤوليَّة فرديَّة!

في الآية التي نريد أن نبدأ بها الحديث، تأكيد على المسؤوليَّة الفرديَّة أمام الله، فالإنسان عندما يقف أمام الله، فإنَّ عليه أن يحسب أن لا أحد معه حتى الأقرب، وأيّ قربى أقرب من قربى الأب لولده والولد لأبيه؟! حتى يعرف الإنسان أنَّ مسألة القرابات والصّداقات هي مسألة قد يُلِمَّ بها الإنسان في حياته لتحكم حركة علاقاته، فيما يريد الله للإنسان أن يتحرَّك به في هذه العلاقات، ولكن عندما تكون أنت نفسك، في فكرك وهو يتبنّى الإيمان أو الكفر، أو الهدى أو الضَّلال،، وفي عملك - وكلامك من عملك - كيف يتحرَّك في خطّ الاستقامة أو الانحراف، فأنت وحدك في لقائك بالله يوم القيامة، وهو وحده.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ}، وهو يؤكّد هنا على خطّ التقوى الذي يختزن الإيمان {وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً}[1]، فإن هناك تقطّعاً في صلات القربى عندما تتعلق المسألة بالمسؤوليّة، ولقد عبّر القرآن عن هذا المعنى في أكثر من آية، ومنها قوله تعالى: {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ}[2]، وقوله تعالى {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ *وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[3]، {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً}[4]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}[5]، {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى}[6]، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[7].

إن حقيقة هذا المعنى أو هذه الفكرة، هي حقيقة إيمانيّة، ولكن ما هي إيحاءاتها في حركتنا في الواقع؟ إن إيحاءات هذه الفكرة الإيمانيّة هي أنّ عليك أن لا تجامل أحداً في الدّين، سواء كان هذا الإنسان أباك أو أخاك أو صديقك.

لا أنساب يومئذٍ

ولربما تفرض عليك هذه العلاقات أن تقدّم تنازلاً من مالك، أو تقدّم تنازلاً من مزاجك، أو تقدّم تنازلاً من بعض أوضاعك، ولكن أن تقدّم تنازلاً من دينك، فتشهد لمصلحة من لا حقّ له لأنه قريبك، أو تشهد على إنسان له الحقّ لمصلحة صديقك، أو تتّخذ موقفاً مؤيّداً لمشروع سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي، لأنّ صاحب المشروع يتّصل بك بصلة القربى أو بصلة الصّداقة، فإنّ هذه الآية تقول لك إنّك عندما تتحرّك في الحياة، فعليك دائماً أن تراقب في حركتك موقفك في ذلك اليوم، فلا تنظر إلى الواقع الاجتماعي من حولك كيف تراقبه وكيف تجامله، ولكن راقب موقفك وأنت في اللامجتمع، فحتى المجتمع في يوم القيامة ـ والله يحشر الناس كلّهم هناك ـ يفقد صفته الاجتماعيّة هناك، لأنَّ المسألة هي أنَّ كلَّ واحدٍ يعيشُ فرديّته في حساب المسؤوليَّة، وهذا ما عبّرت عنه الآيات {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ}.

وهكذا عندما يحدّثنا الله عن أجواء القيامة، فإننا نستوحي من ذلك، وجود مجتمع متضامن تبقى علاقاته التي كانت في الدنيا لتمتدّ إلى الآخرة، وهو مجتمع المتقين، لأنّ العلاقة في الدنيا قد انطلقت من خلال الآخرة، ولأنها ارتكزت على أساس العلاقة بالله {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}[8]، فالمتّقون يتلاقون ويعيشون في جوٍّ متضامنٍ، إذا صحّ التّعبير عن العلاقة آنذاك، لأنَّ الحبَّ كان في الله، ولأنَّ البغض كان في الله، ولـم تكن الصّداقة صداقة ذاتٍ تبحث عن علاقة مع ذات، ولكنَّها كانت علاقة إيمانٍ يبحث عن إيمان يتكامل معه ويقوى به ويقوّيه.

لا مجاملة في الإيمان

لذلك ـ أيّها الأحبّة ـ إنّ علينا أن نفكّر في هدي هذه الآية، ذلك أنّ قضيّة أن يجامل الوالد ولده في معصية الله، أو أن يجامل الولد والده في معصية الله، فهذه قضيّة ليست واردة في الحساب، وقضيّة إبراهيم (ع) بكلّ تلك العاطفة التي كان يعيشها إبراهيم، هي أنه عندما انطلق وجرّب وحاول أن يفجّر الإيمان في قلب أبيه، ورأى أن التجربة قد فشلت في ذلك {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}[9].

وهكذا رأينا مثلاً آخر في قصَّة إبراهيم (ع) مع ولده، فإنَّ ما أوحى الله إليه كان يهزّ عاطفته في الأعماق، وأيّ جرحٍ للعاطفة وأيّ شكل للعاطفة أعظم وأقسى من أن يكلّف الأب لا بأن يقدّم ولده للحرب، ولكن بأن يذبح ولده، وأن يكلف الولد لا بأن يدخل في معركة قد يقتل فيها أو قد ينجو منها، ولكن بأن يقدّم نفسه للذّبح؟! ولذلك لم تكن هناك علاقة أب وابن، لـم يكن هناك للعاطفة دور في هذا المجال، ولكن المسألة كانت أنّ هناك مؤمناً رسولاً أوحى الله إليه بالذّبح، وأنّ هناك مؤمناً عرف وحي الله فيما يتعلّق بحياته واستسلما لله.

عصبيّة مرفوضة

وهذه مسألة ـ أيّها الأحبّة ـ قد نحتاجها في حياتنا السياسية وفي حياتنا الاجتماعية، وفي أكثر من لون من ألوان الحياة، عندما نلتقي بالعصبيّة الكامنة في أعماقنا، فنحن، ولا سيّما في شرق المنطقة العربيّة، عاطفيّون، والعاطفة ليست شيئاً طارئاً في حياتنا، والعاطفة أمرٌ مقدَّس، فليس سلبيّاً أن تكون لك عاطفة، بل السلبيّة أن لا تكون لك عاطفة، لأنَّ الله يذمّ قسوة القلب، ولكنّ المسألة أن العاطفة عندما تتحوّل إلى عصبيّة، وعندما تتحجّر، فلا تكون مجرّد نبضة قلب وخفقة إحساس، وعندما تتحوَّل إلى موقف ضدّ مبادئك، وعندما تتحوَّل إلى حركة في طريقك، وعندما تسيء إلى الهدف، فإنها عاطفة مرفوضة.

إنّ الكثير من الناس متعصّبون عاطفياً، لأنّ الإنسان المفكّر لا يمكن أن يكون متعصّباً، ذلك أنّ العصبيّة لا تقترب من الفكر، بل هي أن تغمض عينيك وتتحرّك، أما الفكر، فهو أن تلتزم بفكرك، ولكنك تظلّ مفتوح العينين تتأمّل في فكرك دائماً، فلعلّك تكتشف فيه بعض الخطأ، وتتأمّل في فكر الآخر، فلعلّك تجد فيه بعض الضّوء الذي يثير لك بعض الظّلمات التي تواجهها في فكرك. إنّنا متعصّبون، نتعصّب للشخص، ونتعصّب للطائفة، ونتعصّب للحزب، ونتعصب للعشيرة، ونتعصب للذات.

أيّها الأحبّة، إنّ هذه حالة صنميّة، لأنك تحوِّل من تتعصّب له إلى وثن تعبده، وقد لا يكون هو وثناً، ولكنّ إحساسك بعلاقتك به تشبه الوثنيّة، ولقد كان المشركون يتعبّدون للملائكة، والملائكة براء من ذلك، لكنّ هذا الاستغراق نفسه في الذّات، يمثّل نوعاً من أنواع الصنميّة، لأنّك لا تفكّر في الشخص الذي تتعصَّب له من خلال ما يمثِّل من قيمة، ولكنَّك تتعصَّب له من خلال ما يمثِّل من جانب الذّات، وهكذا بالنّسبة إلى الطائفة التي تنطلق من خلال قيم ومبادئ ومفاهيم، ولكنَّك قد تبدأ من هذه القيم، ثم تتحوَّل بعد ذلك إلى أن تبتعد عن كلّ ما في الطائفة من قيم، ليكون موقفك أنّك تتعصّب لمجموعة بشريّة ولمجتمع بشريّ بعيداً من خطّ الاستقامة والانحراف، كما يروى عن الإمام عليّ بن الحسين (ع): «إنّ العصبيّة التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرّجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبيّة أن يحبّ الرّجل قومه، ولكن من العصبيّة أن يعين قومه على الظّلم»[10].

إنَّك عندما تتعصّب لقومك حتى لو كانوا منحرفين، وحتى لو كانوا مبتعدين عن العنوان الّذي أعطاهم معنى القيمة، فإنك تأثم، لذلك، فإن أول ما ينبغي للمؤمن إذا كان يخاف الله، ويخشى ذلك اليوم، أن يستوحي أنَّ من يتعصَّب له لن ينفعه يوم القيامة، وأنّ عليه أن يخفِّف تعصّبه.

الفرق بين العصبيّة والالتزام

وكرّرنا كلامنا في هذه النّدوة وفي غيرها، أنَّ هناك فرقاً بين التعصّب والالتزام؛ التعصّب أعمى والالتزام مبصر، التعصّب يغلق عقلك وقلبك عن الآخر، والالتزام ينفتح على الآخر حتى لو اختلف معه، التعصّب ينطلق من خلال عبوديّة لمن تتعصّب له، وحقد ضدّ من تتعصّب عليه، والالتزام يبقى مع الفكر، ويلتزم مع من التزم به في خطّ الفكر، ويختلف مع الآخر وهو يدرس فكره من خلال حوار الفكر. وربما كانت مشكلتنا في الوسط الديني وفي الوسط السياسي وفي الوسط الاجتماعي، هي هذه العصبية التي تغلق عقلك عن عقول الآخرين، وتغلق قلبك عن قلوب الآخرين، وتجعلك إنساناً تتحرّك كما لو كنت وحدك.

اتّقوا الله وتجنّبوا الشّيطان

هذه نقطة لا بدّ أن نعيشها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} راقبوه واحسبوا حسابه، عيشوا حضوره، لأنّ حضوره هو أعمق من كلّ حضور، ولأنّ حضوره أوضح من كلّ حضور، هو الحاضر أبداً بكلّ عمق، والحاضرون غائبون، ولذلك «خف الله كأنّك تراه، وإن كنت لا تراه، فإنه يراك»[11]، راقب ربّك، واحسب حسابه، وخف ذلك اليوم العصيب، لأنه اليوم الذي تواجه فيه نتائج المسؤوليّة، {وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ} بالرّغم من عمق العلاقة بين الولد والوالد، وبالرّغم من كلّ التضحية التي يقدِّمها الوالد تجاه ولده {وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً}، ولا تهتزّ ثقتكم بيوم القيامة {إِنَّوَعْدَ اللهِ حَقٌّ}، فسيأتي إن عاجلاً أو آجلاً، وكلّ من سبقك من أهلك وأصدقائك هم رسل الله إليك، ولقد انطلقوا نحو هذا الوعد، وعليك أن تنطلق نحوه {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، بكلِّ شهواتها وبكلِّ أطماعها وبكلِّ أشغالها، لا تخدعنَّكم، فيخيَّل إليكم أنها السّعادة وأنها الخلود، لأنَّ الحياة الدّنيا تمثِّل مرحلة، وهذه المرحلة تمثِّل فرصة لكم بأن تراقبوا مسؤوليَّاتكم في كلّ طاقاتكم التي تملكونها.

{وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الْغَرُورُ}[12]، وهو الشّيطان الذي يزيّن لكم ويحسّن لكم القبيح ويقبِّح لكم الحسن، لأنّه يريد أن يجرَّكم إلى عذاب السَّعير. وقد حدَّثنا الله في أكثر من آية، عن شيطان الإنس وعن شيطان الجنّ {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}[13]، {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً}[14]، وهذه تجربة عاشها النّاس من قبلنا {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}[15]، فعلينا أن نواجهها.

علم الغيب عند الله

{إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}، فهو الّذي يعلمها، لأنّه هو الذي قدّرها، وهو الذي يعلم الذين يحشرون إلى الساعة، لأنه هو الذي خلقهم {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ}، فالله هو الذي يعطينا الحياة {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}[16]، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ}، لأنّه هو الذي أودع ما في الأرحام. وقد يتساءل البعض أنَّ بعض النّاس قد يعلم السّاعة إذا فسَّرنا السّاعة بالموت، وقد يخلق بعض الظّروف التي تنزل الغيث ويعلم ما في الأرحام، وقد يخبر عمَّا في الأرحام، ولكنّه يعلمه من خلال ما ألهمه الله من العلم، إنَّه يعلمه بالوسائل التي وضعها الله تعالى، والتي ألهمهم إيّاها، أمَّا ربّ العزّة، فإنه يعلمه من خلال أنّه خلقه وهو صنعه، أمَّا نحن، فعلمنا بما في الأرحام من خلال الوسائل التي هّيأها الله لنا، أمّا إنزالنا الغيث كما في الغيث الصناعيّ، فهو ليس إنزالاً للغيث، ولكنه يحصل في بعض الحالات من خلال بعض الأجهزة أو بعض الأشياء التي هي خلق الله، ومن خلال خلق الله يتحرّك هذا الواقع.

 ونحن نعرف ـ أيّها الأحبّة ـ أنّ الله أطلع الإنسان على بعض القوانين التي أودعها في عالـم السببيّة، فإذا اكتشف الإنسان هذه القوانين، واستطاع أن يصنّعها بما مكَّنه من فكر، فإنه يكون منسجماً مع ما أودعه فيه من القوانين ولا يكون خالقاً لها.

استحضار المـوت

{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً}، فلا بدّ للإنسان من أن يعيش الهاجس بأنّ الموت يمكن أن يأتيه في كلّ لحظة، وقد يفكّر بعض الناس أننا عندما نستحضر الموت أمامنا، فقد تتعطّل الحياة، لأنّ من يفكّر في الموت كيف يعمر الحياة؟! ولكنّ الله أراد لك أن تفكّر في الموت لتعرف كيف تواجه الحياة بمسؤوليّة، ولتعرف كيف تتحرّك مسؤوليّاتك بدقّة وحذر، وقد قال الإمام عليّ (ع) - وهو العارف بالقرآن الّذي لـم يعرفه أحدٌ مثله إلا رسول الله (ص)، لأنّه هو الذي علّمه، فهو أستاذه -:  «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً»ـ إنّ الله كلّفك أن تعمر الدّنيا، وجعلك خليفته بكلّ ما لكلمة الخلافة من سعة تتّسع لعمران الدّنيا وعمران أهلها، وأراد لك أن تبقى بهذا الاتجاه، ولكن إذا فكرت في المسؤوليّة وفي حركة الدنيا في خطّ الآخرة، على أساس {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}[17]، فلا تستغرق في الدنيا استغراق الذي يعتبرها نهاية المطاف، خذ منها حاجتك، وإذا كانت حاجتك أن تعمّر، فهذا نصيبك من الدنيا، وإذا كانت حاجتك من الدنيا أن تتحرَّك وأن تجاهد، فهذا نصيبك من الدّنيا، ولكن عندما تحرك نصيبك من الدّنيا، أعط الدنيا معنى الآخرة في معنى المسؤوليّة وفي معنى تقوى الله.

«واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً»[18]، وهذا هو الذي يتحرّك في خطّ التوازن في المفاهيم الإسلامية، بين أن تعيش الأمل من خلال حركتك في الحياة، وأن تعيش التقوى ومراقبة الله في كلّ مفردات هذا الأمر، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ} بكلّ ما في الكون، عليم بسرّكم وعلانيتكم، و{خَبِيرٌ}[19] بما يحدث لكم.

وإذا انطلقتم في هذا الاتجاه، فهناك الوعي الذي لا بدّ لكم أن تعيشوه في كلّ مسؤوليّتكم، وهناك ذكر الله الذي لا بدّ أن لا يفارقكم، وهناك أن يصبح كلّ إنسان وتوبته معه، وأن يمسي وتوبته معه، لأنه لا يدري مع الصباح هل يمسي عليه المساء، ولا يدري مع المساء هل يصبح عليه الصّباح، كم من أهلنا وأصدقائنا ومعارفنا من عاشوا في المساء ولـم يصبحوا، ومن عاشوا في الصّباح ولـم يمسوا!

رضوان الله هو السّعادة

أيّها الأحبّة، بعض من الوعي، بعض من التّقوى، بعض من الإحساس بمعنى هذه الإنسانيّة التي لا تكبر إلا عندما تمتلئ بالله وبدين الله، ولا تعيشوا السّعادة إلا من خلال الإحساس برضوان الله تعالى، ورضوان الله في الآخرة هو السَّعادة، فالله حدّثنا عن الجنّة، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ به الأعين، {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ}، وهذا هو ما عبَّر الله عنه في سورة الفجر، حيث إنّه قدّم الرّضا على الجنّة {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً}، عند الله {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}[20].

أيّها الأحبة، قال رسول الله (ص) فيما روي عنه: «إنّ القلوب تصدأ كما يصـدأ الحديد - وقلوبنا صدئة بكلّ هذا الصّدأ الذي نجمعه من هنا وهناك، ومما نخوض فيه، ومما نلمّ به ومما نعيشه - قيل: يا رسول الله، وما جلاؤها؟ قال: قراءة القرآن - روحيّاً ومعنويّاً لا لفظيّاً {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[21] - وذكر الموت»[22] إيجابيّاً لا سلبياً.

والحمد لله ربّ العالمين.

*فكر وثقافة، السنة الثانية ـ 20 شعبان 1418 هـ/20/12/1997م، العدد: (71).

***

ع: مسؤوليَّة الإيمان.

التَّاريخ: 22 ذو القعدة 1440هـ/ الموافق: 25 تموز 2019م.

ت: ونبقى مع حديث الإيمان، لأنَّ قضيَّتنا دائماً هي كيف نحوّل الإيمان من كلمة إلى موقف، وكيف نحوِّل الموقف إلى عمقٍ في الوجدان وعمقٍ في الشخصيَّة، وحديث القرآن في ذلك، حديث يطوف بنا في أكثر من موقع في الدّنيا والآخرة، ليشير إلى المؤمن كيف يمكن أن...


[1] لقمان: 33.

[2] المؤمنون: 101.

[3] عبس: 34-37.

[4] مريم: 95.

[5] النّحل: 111.

[6] النجم: 39- 40.

[7] فاطر: 18.

[8] الزّخرف: 67,

[9] التوبة: 114.

[10] الكافي، ج2، ص308.

[11] الكافي، ج2، ص 68.

[12] لقمان: 33.

[13] الحشر: 16.

[14] الفرقان: 27- 29.

[15] يس: 62.

[16] الأنبياء: 30.

[17] القصص: 77.

[18] مستدرك الوسائل: ج1، ص 146.

[19] لقمان: 34.

[20] الفجر: 27.

[21] محمد: 24.

[22] مستدرك الوسائل، ج2، ص: 104.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية