كتابات
26/07/2019

الأصالة أو ذاتيّة الإسلام

الأصالة أو ذاتيّة الإسلام

تحت هذا العنوان، نناقش ما ملأ كتب المستشرقين والكثيرين من الباحثين الجدد، حيث أكدوا أن الإسلام أخذ الكثير الكثير من عقائد الأديان السماوية الأخرى التي كانت شائعة في أوساط العالم العربي، حين كانت معبرًا لرحلات النبي محمد التجارية قبل ظهور الإسلام. وتأثر الإسلام كذلك بالأفكار والعادات الوثنية السائدة في الجزيرة وعند الفرس والروم، الذين كانوا على اتصال تجاري وسياسي مع العرب في مكّة، والعادات السومرية أو الصابئية أثّرت في العبادات والسير الإسلامية. وأفضّل ألّا أنقل نصوص ما قالوا، حذرًا من إطالة الكلام.

رأي الإسلام في الأديان

وقبل أن ندرس مدى صحة هذا الكلام، يجب أن نلاحظ منطق الإسلام حول الأديان السماوية. فالقرآن يعلن أن رسالة محمد هي العقد الأخير من سلسلة الأديان الإلهيّة، وأن محمدًا هو خاتم الأنبياء، مؤمن بهم ومصدّق بأنهم رسل ربه.

﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ﴾[الأحقاف: 9]، ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾[البقرة: 285].

والقرآن يؤكّد أيضًا أن دين الله واحد ويسمّيه الإسلام، ويعتبر أنّ جميع الأنبياء كانوا يبشّرون به، وقد جعل الله لكلّ منهم شرعة ومنهاجًا.

﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾[الشّورى: 13].

وفي كثير من الآيات القرآنيّة، نجد القرآن ينقل عقائد وأحكامًا وقصصًا تربويّة عن الرسالات السماوية ويعتمد عليها. إذا لاحظنا هذا المنطق، فلا نجد أيّة غرابة أو أيّ مانع من بعض التشابه في العقائد والأحكام والأخلاق الإسلامية مع الأديان السماوية الأخرى.

الطابع المميَّز للإسلام

ولكننا نقول، إن الإسلام مع ذلك له طابع خاصّ في جميع حقوله وتعاليمه، يعطيه ذاتية خاصة، ويميّزه عما عداه من الأديان ومن العقائد الأخرى.

والباحث في مختلف حقول الإسلام، يمكنه أن يكتشف هذا الطابع بوضوح، هذا الطابع الذي يعبّر عنه بالتّوحيد، فيسمّي الإسلام بـ "دين التوحيد".

فكلمة الإسلام، حسب المصطلح القرآنيّ، هو التسليم لله رب العالمين الذي ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾[آل عمران: 83].

فالإسلام إذًا هو الانضمام والانخراط في سلك جميع من في السماوات والأرض، والاتحاد معهم في المبدأ والسّير والمرجع أزليًّا أبديًّا.

والإسلام أيضًا حسب التّفسير القرآنيّ، هو السجود الإرادي من الإنسان، وتسبيحه وصلاته والتحاقه بذلك بركب الكائنات الواحد، الذي هو بمجموع أجزائه ساجد ومسبّح ومصلّ لله الواحد في محراب الكون الواحد.

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ...﴾[الحجّ: 18].

﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[التّغابن: 1].

﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ...﴾[الرّعد: 13]، ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ...﴾[الإسراء: 44].

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ...﴾[النّور: 41].

والمجتمع كالجسد الواحد، في رأي الإسلام، "إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالسّهر والحمّى" (حديث شريف). والإنسان، أيضًا في رأي الإسلام، موجود واحد بجسمه وروحه وحدة متكاملة متفاعلة.

وفي حقل العقيدة والإيمان، أن الله ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾[الحديد: 3] والمبدأ والمنتهى ﴿إِنَّا للهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾[البقرة: 156].

والغاية في السّير والعبادة والجهاد هو الله الواحد ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ...﴾[البيّنة: 5]، ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله﴾[الأنفال: 39].

وفي الأنظمة الاجتماعيّة والماليّة والمدنيّة والأخلاقيّة، نجد محاولات واضحة لجعلها على قاعدة واحدة تقرّب بين الأفراد، حتى تجعل من كلّ واحد بعضًا من الكلّ، لا فردًا من الكليّ، على حدّ التعبير المنطقي.

وقد عبَّر القرآن عن الأموال والتعهّدات والقوى المادية والمعنوية للأفراد المختلفة أنها "لكم"، فأضافها إلى المجموع، تكريسًا لهذه التّربية، وتأكيدًا لهذه القاعدة.

وتأثّر الفنّ الإسلامي بهذا الطابع المميَّز، فأصبح طابعه الانحناء الذي يشكّل خطًّا واحدًا على اختلاف أشكاله وأنواعه (Arabesque).

وبكلمة موجزة، إنّ الطابع المميَّز للإسلام هو الوحدة في الإيمان والتشريع والفن والتفسيرات. فلنعد الآن إلى ذكر بعض التفاصيل، وخصوصاً حول ما ورد في عبارات الأستاذ "ماسيه"، لكي نرى الأصالة الذاتيّة بوضوح أكثر.

الله:

فالله هو الذّات الواحد الأحد، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[الشورى: 11]، ﴿لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى﴾[طه: 8]، والأمثال العليا والصفات الكمالية كلّها، يتعالى عن كلّ نقص وحاجة، فهو الصمد ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾[الإخلاص: 3]، مجرّد من الانتساب الخاصّ إلى كلّ شيء أو إلى كلّ فرد أو إلى كلّ ظاهرة. فالعالم بأجمعه، والبشر بجميع أفراده، والأحداث كلّها أمامه سواء، هو الخالق والمستمرّ في خلقه، ولا وجود ولا بقاء للموجودات دون إرادته ودون تصرّفه، وهو عالم الغيب والشّهادة، لا يغرب عنه مثقال ذرّة.

ويرى الباحث أنّ هذا الكمال المطلق الذي يتجلّى في تفسير الله، يعكس على الخلق جوانب تربوية عديدة، ويبعده عن مجرّد فكرة تجريدية وصورة قلبية أو طقوس مذهبية.

فالتعمق في التجرّد، والابتعاد عن الشبه، والتعالي عن أيّ ربط خاصّ بشيء، ينزع صفة القداسة الذاتيّة عن كلّ شيء، ويحرّر الإنسان من أيّ قيد عقلي أو عملي أو عاطفي أو اجتماعي، فيجعل منه، وهو عبد لله، الحرّ المنطلق في جميع شؤون الحياة، لا يقف أمامه مانع، وينعكس الكمال الإلهيّ على الكون كلّه، وعلى الإنسان بالذّات، فيرى الكون والإنسان في أحسن صورة وأكمل تقويم وأدقّ تنظيم.

والإحاطة القيومية، على حدّ التعبير القرآني، تربط بين التجرّد المطلق الإلهي، وبين أن يكون الله أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، وأن تكون ﴿وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ﴾[الزّمر: 67] ﴿وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر: 67]. فالأبصار لا تدركه، ولكنّه يدرك الأبصار.

إنّ الله بعيد عن إدراك العقول "كلّما ميزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه، فهو مخلوق لكم، مردود إليكم" (حديث شريف). ومع ذلك ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾[الحديد: 4]، حيث إنه "مع كلّ شيء لا بالمقارنة، وغير كلّ شيء لا بالمزايلة"[نهج البلاغة].

وهذه الإحاطة، تشعر الإنسان بالاطمئنان بالقوّة، وتزيل عنه الوحشة، وتوحي إليه بالمسؤولية. وهكذا نرى تأثير الفكرة العميقة في الحياة الإنسانيّة وابتعادها عن التجريد. ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾[البقرة: 115] "وقلب المؤمن عرش الرّحمن"[حديث شريف]، و"أنا عند المنكسرة قلوبهم"[حديث شريف]، و"من عاد مريضًا فقد عادني في عرشي"[حديث شريف]، و"المحسن يلمس يد الله حال إحسانه"[حديث شريف].

هكذا يرى الباحث صورة جديدة لله في الإسلام تختلف عن جميع الصّور الأخرى، وإذا كان يمكننا تلخيص الإيمان المسيحي بالله بكلمة موجزة، هي أن "الله هو المحبّة"، يمكن تلخيص الإيمان الإسلامي بالله بأنّ ﴿الله هُوَ الْحَقُّ﴾ بما لكلمة الحقّ من معنى.

ولقد أجاد مترجمو القرآن المتأخّرون، حيث احتفظوا بكلمة الله من دون تعبير آخر مشابه في سائر اللّغات.

الملائكة:

وهي فكرة قديمة قِدَم الأديان، لكنها بصورة عامّة، في الإسلام وفي الأديان كلّها، تختلف عمّا ورد في آراء الفلاسفة باسم أرباب الأنواع، وباسم المثل الأفلاطونية أو الأنوار الأسفهبدية.

نوقش موضوع الملائكة في الإسلام في كتب الباحثين من الشرق والغرب مناقشات مفصّلة، وساعدهم على هذه المناقشات كلمات علماء الكلام والسّير من الأساطير والتخرّصات حول الملائكة وحول المقرّبين منهم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل بالذات؛ ورأى بعض المستشرقين الكبار خلال مقارناتهم، أن هذه الفكرة في الإسلام دخيلة، واعتمدوا لذلك صيغ هذه الأسماء وغير ذلك.

ونحن حينما نحاول البحث في ذاتية الفكرة الإسلامية عن الملائكة، نعيد إلى ذاكرة المستمعين ما ورد في أول المحاضرة حول تصديق الإسلام بالأديان السماوية السابقة وبما جاء فيها، ثم نقول:

إنّ ما ورد في كلمات علماء المسلمين في الكلام والسّيرة والفقه أيضًا، كلّه يحمّل قائليها المسؤوليّات. أما مصادر الشريعة الإسلاميّة، فخالية من هذه التفاصيل، ولا تهتمّ إلّا بالإيمان بالملائكة وبالجانب التربوي منه الّذي سوف نبحث فيه؛ أمّا حقيقة الملائكة وتفاصيلها وتجرّدها وماديتها، فلا تجدها في المصادر الأصليّة. ولهذا، فالاعتقاد بهذه التفاصيل وبغيرها، لا يعدّ من الإيمان الإسلامي الذي يدين به المسلم، بل كلّ ما يجب أن يؤمن به المسلم، هو وجود ملائكة الله فقط، كما يجب أن يؤمن بالله وبكتبه وبرسله، وأنّ الله جعل من الملائكة رسلًا، وأنهم يسبّحون بحمد ربهم ويقدّسونه في الليل والنهار ﴿لَا يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾[التّحريم: 6]. يؤمن المسلم بهذا كلّه، لأنّ القرآن نصّ عليه وأخبر عنه. أمّا الجانب العلمي في فكرة الملائكة، فلا أعرف أيّ مبدأ أو دين غير الإسلام تعرض له، ماعدا الذي ورد في إنجيل متّى في الإصحاح الأوّل، وفي أعمال الرسل بصورة موجزة.

هذا الجانب تشير إليه بعض الآيات القرآنية التي تعبِّر عن الملائكة بـ ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً﴾[النازعات: 5]، والتي تسند كثيرًا من الأحداث الكبار في الدنيا والآخرة إلى الملائكة، ومن هذه الآيات: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ...﴾[فصّلت: 30-31]

تتلخّص الفكرة في أنّ الملائكة هم الذين يدبّرون القوى الكونية الظاهرة والخفية بأمر من الله، وأنهم يطيعون الله ولا يتخلفون عن أمره. فمن يسلك سبيل الحقّ، تواكبه الملائكة قائلين له ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ...﴾. فالسالك ليس منفردًا في طريق الحقّ، بل القوى الكونيّة التي هي طوع يد الملائكة، تسانده وتقوّيه وترفع وحشته.

إنّ المؤمن السالك في سبيل الحقّ والعدل، لا يشعر بالوحدة والوحشة، بل يشعر بمواكبة الكون وتأييده لقواه، فيطمئنّ بأنّه المنتصر، حيث ﴿فَإِنَّ الله هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾[التحريم: 4].

وهذا الشعور هو ضروري بالنّسبة إلى حملة الرسالات وأصحاب المبادئ الذين يحاولون التأسيس وإعادة بناء الإنسان ومجتمعه.

الشيطان:

والحديث عن الشيطان، مَلَك الشّرور، يرتبط بالحديث عن الملائكة، حيث إنّه كان مخلوقًا معهم، حسب وصف القرآن، قبل خلق آدم، مطيعًا ساجدًا مسبّحًا لله، ثم عصاه حينما أمره بالسجود لآدم، فرفض استكبارًا واعتزازًا بعنصره، ثم أُمْهِلَ إلى يوم الدّين، وهو يقود حملة الإغواء وتضليل البشر بالتعاون مع جنوده قوى الشرّ.

ويختلف هذا التفسير اختلافًا كليًّا عن معنى أهريمان عند الفرس القدامى، حيث إنه خالق الشرور، وهو في صراع دائم على رأيهم، مع آهورمزدا إله الخير.

يختلف تفسير الشيطان المخلوق عن أهريمان الخلق تمامًا مبدأً وأثرًا؛ حيث إنّ مشكلة الصراع النفسي التي يعانيها الإنسان المؤمن بإلهي الخير والشرّ هي مشكلة كبيرة، حيث إنه يرى الكون كلّه والمجتمع والإنسان كلّ منهما يتبعض. وهذا الإنسان الذي يشعر بالازدواجية في وجوده وفي مجتمعه وفي مبدئه ومصيره، ويعيش في صراع أبديّ ذاتًا وسلوكًا وزمانًا، لهو إنسان محطَّم ضعيف حقًّا.

ويختلف معنى الشيطان في الإسلام عن معنى ملاك جهنّم ورئيس هذا العالم وإله الدنيا في سائر التفسيرات. وأخيرًا، يتفاوت مفهومنا عن الشيطان عن رأي البعض من أنّه الموحّد الأكبر الذي امتنع عن السجود لغير الله ،وصار عندهم رأس القدّيسين وقائد الموحّدين.

أما أصالة الفكر الديني حول الشّيطان، فإنها تبلغ القمة في القرآن من الناحية التربويّة، فإن الشيطان اسمه الأصلي إبليس الذي كان من المقربين عند الله، فطُرِدَ من مقام القرب لأجل معصية صدرت عنه استكبارًا فسُمّي الشيطان. فانحرافه وطرده وشقاؤه لعصيانه أوامر ربّه، لا لذاتية الشقاء فيه، ولا لعفوية الطرد وإبعاده عن مقام القرب.

ومن جهة ثانية، فإن الشيطان كذات يمثّل وحدة قوى الشرّ وتكتّلها أمام قوى الخير، في صراع أزليّ أبديّ بين الحقّ والباطل، مهما كان نوعهما أو وصفهما أو قدرهما.

وأهمّ النواحي التربوية في إعطاء فكرة الشيطان واستلامه مهمّة الإغواء والتضليل مع جنوده التي منها النفس الأمّارة بالسوء، أهمّ هذه النواحي، هي تكريس اختيار الإنسان، والتأكيد أنه مخيَّر بين الخير والشرّ، لا مسيَّر لا يهتدي إلّا إلى دوره الكوني المقرَّر له.

وقد أوضح القرآن الكريم هذه الناحية في لوحة تاريخيّة رائعة، أوضح فيها كيفية الخلق في سورة البقرة الآيات 30 إلى 38، وبموجب هذه الآيات، أراد الله أن يجعل في الأرض خليفة، لا آلة مسيَّرة ولا شبه آلة، بل أراد خلق موجود يتصرّف حسب إرادته، ويمارس حريته، حيث إنّ حرية التصرّف لا تتم إلّا مع وجود نزعتي الخير والشرّ في الإنسان، وإلّا مع وجود طريقي الخير والشرّ في الأرض.

خلق الله الإنسان بهذه الخصائص، ثمّ علّمه الأسماء، وجعله مستعدًا لمعرفة حقائق الكون والقوى الكونية، متمكّنًا من الإحاطة بها عن طريق معرفتها، ثمّ أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم، فخضعوا وسجدوا له بأمر الله، وخضوعهم للإنسان يستلزم مطاوعة القوى الكونيّة التي هي بيد الملائكة له، فأصبح آدم سيّد الكون، خليفة الله في الأرض، وامتنع إبليس من السجود لآدم، وطُرِدَ من مقام المقرَّبين، وأُمْهِلَ حسب طلبه إلى يوم القيامة، وبدأ هو وجنوده بإغواء البشر، وأصبحوا من الدعاة إلى طريق الشرّ، يساندون النزعة الشرّيرة في الإنسان.

فالكون ميدان للسّير في الخطّ المستقيم وللانحراف والضّلال. والإنسان أمام مفترق الطريقين، يسمع صوت الله بلسان عقله وبلسان ضميره وبلسان أنبياء الله وبالطّرق الأخرى للهداية، وصوت الشيطان بلسان نفسه الأمّارة بالسوء، وبلسان عناصر السوء والفساد من البشر وغيرهم. يستمع الإنسان في حياته إلى النّداءَين، فيجيب بملء إرادته لنداء الخير أو لنداء الشرّ. وهكذا نرى أنّ الشيطان في مفهومه الإسلاميّ، يقوم بدور بارز في تعميق التخير الإنساني ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ﴾[الأنفال: 42].

النبي:

والنبي عبد من عباد الله، له ما لهم من الحالات والرغبات، ويشعر بما يشعرون من الصراع النفسي بين الخير والشرّ، لكنّه يتبع في القول والفعل ومعاشرة الناس ما يُوحى إليه، وإن لم يكن مطابقًا لمراضيهم، لا ينحرف ولا ينطق عن الهوى، ولا يساير ولا يجامل رغبات النّاس، ولا يزن الأمور بالموازين الشايعة.

إنّ النبيّ عبد من عباد الله، لا ملاك ولا نصف إله، يعيش ويهرم ويموت ويحشر ويحاسب يوم القيامة، وبذلك يصبح قدوةً صالحة للناس، إمامًا لهم، سندًا حيًّا لواقعية رسالته، مثبتًا إمكانيّة تطبيق تعاليمه الدينيّة.

وقد ورد في القرآن الكريم في سيرة الأنبياء عامّة، وفي سيرة النبيّ محمّد خاصّة، دلائل كثيرة على ذلك، حيث وجّه إليهم النقد والتّشجيع والتأييد والتهديد والنصيحة والعتاب على بعض التصرّفات. والنبي مع ذلك، يتمتع بعناية الله ووحيه وتسديده، وبذلك يصبح قوله وعمله ورضاه عن عمل الآخرين هي سيرة وأسوة حسنة للأمّة.

فالصفة المميزة للنبيّ في رأي الإسلام، كونه عبدًا ورسولًا في الوقت نفسه، وبذلك تبدو بوضوح أصالة الفكرة، وعدم انفعالها بالعاطفة الطبقيّة، كما يقول "برتراند راسل"، حيث يتّهم الإسلام بذلك، نظرًا إلى موقفه من السيد المسيح، وتأكيده أنّه ما قُتِل وما صُلِب. إنّ الإسلام المنكر لصلب المسيح يؤكّد أنّ كثيرًا من الأنبياء قُتِلوا في سبيل رسالتهم ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ﴾[البقرة: 87].

فلا ينكر صلب المسيح لعاطفة الزّمالة، ولا للتأثر بآراء النوستيسيزم، بدليل موقفه أيضًا من المسيح بالذات، بل للرّسالة مقام إنساني كبير، لا ينزع صفات البشر عن حاملها، وهو مع ذلك مقام الاتصال بالله، ونقل تعاليمه بكلّ أمانة ودون خطأ وتحريف.

المعاد:

إنّ المعاد من المبادئ العامة لجميع الأديان، ولأكثر المدارس الفلسفية، ولكنه عند الإسلام، يتميّز بخصائص مهمة تجعله فكرة ذات أصالة.

هذه الميزات هي أولًا أن الجزاء في يوم المعاد بالأفعال نفسها الصادرة عن الإنسان: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً﴾[آل عمران: 30]. ويختلف هذا التفسير عن المجازاة في الحقوق الجزائيّة، وعن تفاسير المعاد في غير الإسلام، حيث إن الجزاء نوع من ردّ الفعل الحسن أو القبيح للانتقام أو للتأديب أو الإصلاح. فالعمل يختلف عن الجزاء عادة، ولكن الجزاء في المعاد الإسلامي هو الأعمال نفسها التي تتمثل بالصورة المتناسبة لعالم الخلود. والمعاد، من جهة ثانية، يوم بروز النتائج ووقت اكتشاف حقيقة الأعمال، وإلّا فالجزاء حسب تحديد القرآن، هو مقترن بالعمل وقت صدوره، ولكنّه خفيّ عن الأبصار، ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ﴾[ق: 20]. ﴿لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾[ق: 22].

ومن جهة ثالثة، فالمعاد عند الإسلام هو تمثّل الإنسان بجسمه وروحه للحساب، وليتلقى حصاد عمره. أما النقاش المعروف بين فلاسفة الإسلام الملتزمين، إنما هو حول تحديد معنى الجسم الذي يحشر، لا في أصل المعاد الجسماني.

والباحث يعرف بعد هذه الملاحظات مدى الفرق الواضح بين المعاد الإسلامي وبين معنى السّماء، أو معنى عودة الروح عند المصريّين القدامى، أو الوثنيّين في الجزيرة، أو انتصار النّور على الظلمة عند المجوس.

وأخيرًا، تبلغ الذاتيّة في الإسلام قمّتها في قسم الأمثال وقسم التّاريخ، حيث إنّنا نعرف اليوم مدى ثقافة الإنسان في أقطار العالم، ومقدار معرفته في العلوم والتّاريخ حال ظهور النبي محمد وحال نزول القرآن. إنّنا نعرف ذلك، ولكنّنا نجد أنّ القرآن لم يتأثر أصلًا بالآراء العلميّة السائدة في عصره، وبالمعلومات التاريخية المعروفة عند البشر في ذلك الوقت.

فالآيات الواردة في الاستشهاد بحركات الشّمس والقمر والنجوم والأرض وغيرها، لم تتأثر إطلاقًا بالهيئة البطليموسيّة وآرائها.

والآيات التي تشير إلى مبدأ الخلق، وتكوين الأرض، واتّساع الكون وغيرها، تكاد أن تنطبق على أحدث النظريات العلمية من دون تأثر بثقافة عصر نزول القرآن.

والآيات التي تنقل تاريخ الفراعنة، وخصوصاً فيما يعود إلى فرعون يوسف وتسميته بالعزيز، وفيما يعود إلى غرق فرعون المعاصر للنبيّ موسى ونجاته ببدنه، هذه الآيات لم تتأثّر أصلًا بالروايات الشائعة في عصر ظهور النبيّ محمّد، بل إن بعض هذه المعلومات كانت خفيّة عن معرفة البشر إلى زمن اكتشاف تاريخ الفراعنة بواسطة شامبليون.

*من محاضرة للإمام السيّد موسى الصدر، ألقاها في كلية بيروت للبنات في صيف 1966، وأعاد إلقاءها في مقرّ المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين في القاهرة بتاريخ 19 آذار 1970. ونُشرت في كتاب "مصادر الثقافة في لبنان"، مكتبة لبنان، وفي كتيب "الأصالة الروحية - التطوّر"، جمعيات الشبان المسلمين 1970.

تحت هذا العنوان، نناقش ما ملأ كتب المستشرقين والكثيرين من الباحثين الجدد، حيث أكدوا أن الإسلام أخذ الكثير الكثير من عقائد الأديان السماوية الأخرى التي كانت شائعة في أوساط العالم العربي، حين كانت معبرًا لرحلات النبي محمد التجارية قبل ظهور الإسلام. وتأثر الإسلام كذلك بالأفكار والعادات الوثنية السائدة في الجزيرة وعند الفرس والروم، الذين كانوا على اتصال تجاري وسياسي مع العرب في مكّة، والعادات السومرية أو الصابئية أثّرت في العبادات والسير الإسلامية. وأفضّل ألّا أنقل نصوص ما قالوا، حذرًا من إطالة الكلام.

رأي الإسلام في الأديان

وقبل أن ندرس مدى صحة هذا الكلام، يجب أن نلاحظ منطق الإسلام حول الأديان السماوية. فالقرآن يعلن أن رسالة محمد هي العقد الأخير من سلسلة الأديان الإلهيّة، وأن محمدًا هو خاتم الأنبياء، مؤمن بهم ومصدّق بأنهم رسل ربه.

﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ﴾[الأحقاف: 9]، ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾[البقرة: 285].

والقرآن يؤكّد أيضًا أن دين الله واحد ويسمّيه الإسلام، ويعتبر أنّ جميع الأنبياء كانوا يبشّرون به، وقد جعل الله لكلّ منهم شرعة ومنهاجًا.

﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾[الشّورى: 13].

وفي كثير من الآيات القرآنيّة، نجد القرآن ينقل عقائد وأحكامًا وقصصًا تربويّة عن الرسالات السماوية ويعتمد عليها. إذا لاحظنا هذا المنطق، فلا نجد أيّة غرابة أو أيّ مانع من بعض التشابه في العقائد والأحكام والأخلاق الإسلامية مع الأديان السماوية الأخرى.

الطابع المميَّز للإسلام

ولكننا نقول، إن الإسلام مع ذلك له طابع خاصّ في جميع حقوله وتعاليمه، يعطيه ذاتية خاصة، ويميّزه عما عداه من الأديان ومن العقائد الأخرى.

والباحث في مختلف حقول الإسلام، يمكنه أن يكتشف هذا الطابع بوضوح، هذا الطابع الذي يعبّر عنه بالتّوحيد، فيسمّي الإسلام بـ "دين التوحيد".

فكلمة الإسلام، حسب المصطلح القرآنيّ، هو التسليم لله رب العالمين الذي ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾[آل عمران: 83].

فالإسلام إذًا هو الانضمام والانخراط في سلك جميع من في السماوات والأرض، والاتحاد معهم في المبدأ والسّير والمرجع أزليًّا أبديًّا.

والإسلام أيضًا حسب التّفسير القرآنيّ، هو السجود الإرادي من الإنسان، وتسبيحه وصلاته والتحاقه بذلك بركب الكائنات الواحد، الذي هو بمجموع أجزائه ساجد ومسبّح ومصلّ لله الواحد في محراب الكون الواحد.

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ...﴾[الحجّ: 18].

﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[التّغابن: 1].

﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ...﴾[الرّعد: 13]، ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ...﴾[الإسراء: 44].

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ...﴾[النّور: 41].

والمجتمع كالجسد الواحد، في رأي الإسلام، "إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالسّهر والحمّى" (حديث شريف). والإنسان، أيضًا في رأي الإسلام، موجود واحد بجسمه وروحه وحدة متكاملة متفاعلة.

وفي حقل العقيدة والإيمان، أن الله ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾[الحديد: 3] والمبدأ والمنتهى ﴿إِنَّا للهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾[البقرة: 156].

والغاية في السّير والعبادة والجهاد هو الله الواحد ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ...﴾[البيّنة: 5]، ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله﴾[الأنفال: 39].

وفي الأنظمة الاجتماعيّة والماليّة والمدنيّة والأخلاقيّة، نجد محاولات واضحة لجعلها على قاعدة واحدة تقرّب بين الأفراد، حتى تجعل من كلّ واحد بعضًا من الكلّ، لا فردًا من الكليّ، على حدّ التعبير المنطقي.

وقد عبَّر القرآن عن الأموال والتعهّدات والقوى المادية والمعنوية للأفراد المختلفة أنها "لكم"، فأضافها إلى المجموع، تكريسًا لهذه التّربية، وتأكيدًا لهذه القاعدة.

وتأثّر الفنّ الإسلامي بهذا الطابع المميَّز، فأصبح طابعه الانحناء الذي يشكّل خطًّا واحدًا على اختلاف أشكاله وأنواعه (Arabesque).

وبكلمة موجزة، إنّ الطابع المميَّز للإسلام هو الوحدة في الإيمان والتشريع والفن والتفسيرات. فلنعد الآن إلى ذكر بعض التفاصيل، وخصوصاً حول ما ورد في عبارات الأستاذ "ماسيه"، لكي نرى الأصالة الذاتيّة بوضوح أكثر.

الله:

فالله هو الذّات الواحد الأحد، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[الشورى: 11]، ﴿لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى﴾[طه: 8]، والأمثال العليا والصفات الكمالية كلّها، يتعالى عن كلّ نقص وحاجة، فهو الصمد ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾[الإخلاص: 3]، مجرّد من الانتساب الخاصّ إلى كلّ شيء أو إلى كلّ فرد أو إلى كلّ ظاهرة. فالعالم بأجمعه، والبشر بجميع أفراده، والأحداث كلّها أمامه سواء، هو الخالق والمستمرّ في خلقه، ولا وجود ولا بقاء للموجودات دون إرادته ودون تصرّفه، وهو عالم الغيب والشّهادة، لا يغرب عنه مثقال ذرّة.

ويرى الباحث أنّ هذا الكمال المطلق الذي يتجلّى في تفسير الله، يعكس على الخلق جوانب تربوية عديدة، ويبعده عن مجرّد فكرة تجريدية وصورة قلبية أو طقوس مذهبية.

فالتعمق في التجرّد، والابتعاد عن الشبه، والتعالي عن أيّ ربط خاصّ بشيء، ينزع صفة القداسة الذاتيّة عن كلّ شيء، ويحرّر الإنسان من أيّ قيد عقلي أو عملي أو عاطفي أو اجتماعي، فيجعل منه، وهو عبد لله، الحرّ المنطلق في جميع شؤون الحياة، لا يقف أمامه مانع، وينعكس الكمال الإلهيّ على الكون كلّه، وعلى الإنسان بالذّات، فيرى الكون والإنسان في أحسن صورة وأكمل تقويم وأدقّ تنظيم.

والإحاطة القيومية، على حدّ التعبير القرآني، تربط بين التجرّد المطلق الإلهي، وبين أن يكون الله أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، وأن تكون ﴿وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ﴾[الزّمر: 67] ﴿وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر: 67]. فالأبصار لا تدركه، ولكنّه يدرك الأبصار.

إنّ الله بعيد عن إدراك العقول "كلّما ميزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه، فهو مخلوق لكم، مردود إليكم" (حديث شريف). ومع ذلك ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾[الحديد: 4]، حيث إنه "مع كلّ شيء لا بالمقارنة، وغير كلّ شيء لا بالمزايلة"[نهج البلاغة].

وهذه الإحاطة، تشعر الإنسان بالاطمئنان بالقوّة، وتزيل عنه الوحشة، وتوحي إليه بالمسؤولية. وهكذا نرى تأثير الفكرة العميقة في الحياة الإنسانيّة وابتعادها عن التجريد. ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾[البقرة: 115] "وقلب المؤمن عرش الرّحمن"[حديث شريف]، و"أنا عند المنكسرة قلوبهم"[حديث شريف]، و"من عاد مريضًا فقد عادني في عرشي"[حديث شريف]، و"المحسن يلمس يد الله حال إحسانه"[حديث شريف].

هكذا يرى الباحث صورة جديدة لله في الإسلام تختلف عن جميع الصّور الأخرى، وإذا كان يمكننا تلخيص الإيمان المسيحي بالله بكلمة موجزة، هي أن "الله هو المحبّة"، يمكن تلخيص الإيمان الإسلامي بالله بأنّ ﴿الله هُوَ الْحَقُّ﴾ بما لكلمة الحقّ من معنى.

ولقد أجاد مترجمو القرآن المتأخّرون، حيث احتفظوا بكلمة الله من دون تعبير آخر مشابه في سائر اللّغات.

الملائكة:

وهي فكرة قديمة قِدَم الأديان، لكنها بصورة عامّة، في الإسلام وفي الأديان كلّها، تختلف عمّا ورد في آراء الفلاسفة باسم أرباب الأنواع، وباسم المثل الأفلاطونية أو الأنوار الأسفهبدية.

نوقش موضوع الملائكة في الإسلام في كتب الباحثين من الشرق والغرب مناقشات مفصّلة، وساعدهم على هذه المناقشات كلمات علماء الكلام والسّير من الأساطير والتخرّصات حول الملائكة وحول المقرّبين منهم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل بالذات؛ ورأى بعض المستشرقين الكبار خلال مقارناتهم، أن هذه الفكرة في الإسلام دخيلة، واعتمدوا لذلك صيغ هذه الأسماء وغير ذلك.

ونحن حينما نحاول البحث في ذاتية الفكرة الإسلامية عن الملائكة، نعيد إلى ذاكرة المستمعين ما ورد في أول المحاضرة حول تصديق الإسلام بالأديان السماوية السابقة وبما جاء فيها، ثم نقول:

إنّ ما ورد في كلمات علماء المسلمين في الكلام والسّيرة والفقه أيضًا، كلّه يحمّل قائليها المسؤوليّات. أما مصادر الشريعة الإسلاميّة، فخالية من هذه التفاصيل، ولا تهتمّ إلّا بالإيمان بالملائكة وبالجانب التربوي منه الّذي سوف نبحث فيه؛ أمّا حقيقة الملائكة وتفاصيلها وتجرّدها وماديتها، فلا تجدها في المصادر الأصليّة. ولهذا، فالاعتقاد بهذه التفاصيل وبغيرها، لا يعدّ من الإيمان الإسلامي الذي يدين به المسلم، بل كلّ ما يجب أن يؤمن به المسلم، هو وجود ملائكة الله فقط، كما يجب أن يؤمن بالله وبكتبه وبرسله، وأنّ الله جعل من الملائكة رسلًا، وأنهم يسبّحون بحمد ربهم ويقدّسونه في الليل والنهار ﴿لَا يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾[التّحريم: 6]. يؤمن المسلم بهذا كلّه، لأنّ القرآن نصّ عليه وأخبر عنه. أمّا الجانب العلمي في فكرة الملائكة، فلا أعرف أيّ مبدأ أو دين غير الإسلام تعرض له، ماعدا الذي ورد في إنجيل متّى في الإصحاح الأوّل، وفي أعمال الرسل بصورة موجزة.

هذا الجانب تشير إليه بعض الآيات القرآنية التي تعبِّر عن الملائكة بـ ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً﴾[النازعات: 5]، والتي تسند كثيرًا من الأحداث الكبار في الدنيا والآخرة إلى الملائكة، ومن هذه الآيات: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ...﴾[فصّلت: 30-31]

تتلخّص الفكرة في أنّ الملائكة هم الذين يدبّرون القوى الكونية الظاهرة والخفية بأمر من الله، وأنهم يطيعون الله ولا يتخلفون عن أمره. فمن يسلك سبيل الحقّ، تواكبه الملائكة قائلين له ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ...﴾. فالسالك ليس منفردًا في طريق الحقّ، بل القوى الكونيّة التي هي طوع يد الملائكة، تسانده وتقوّيه وترفع وحشته.

إنّ المؤمن السالك في سبيل الحقّ والعدل، لا يشعر بالوحدة والوحشة، بل يشعر بمواكبة الكون وتأييده لقواه، فيطمئنّ بأنّه المنتصر، حيث ﴿فَإِنَّ الله هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾[التحريم: 4].

وهذا الشعور هو ضروري بالنّسبة إلى حملة الرسالات وأصحاب المبادئ الذين يحاولون التأسيس وإعادة بناء الإنسان ومجتمعه.

الشيطان:

والحديث عن الشيطان، مَلَك الشّرور، يرتبط بالحديث عن الملائكة، حيث إنّه كان مخلوقًا معهم، حسب وصف القرآن، قبل خلق آدم، مطيعًا ساجدًا مسبّحًا لله، ثم عصاه حينما أمره بالسجود لآدم، فرفض استكبارًا واعتزازًا بعنصره، ثم أُمْهِلَ إلى يوم الدّين، وهو يقود حملة الإغواء وتضليل البشر بالتعاون مع جنوده قوى الشرّ.

ويختلف هذا التفسير اختلافًا كليًّا عن معنى أهريمان عند الفرس القدامى، حيث إنه خالق الشرور، وهو في صراع دائم على رأيهم، مع آهورمزدا إله الخير.

يختلف تفسير الشيطان المخلوق عن أهريمان الخلق تمامًا مبدأً وأثرًا؛ حيث إنّ مشكلة الصراع النفسي التي يعانيها الإنسان المؤمن بإلهي الخير والشرّ هي مشكلة كبيرة، حيث إنه يرى الكون كلّه والمجتمع والإنسان كلّ منهما يتبعض. وهذا الإنسان الذي يشعر بالازدواجية في وجوده وفي مجتمعه وفي مبدئه ومصيره، ويعيش في صراع أبديّ ذاتًا وسلوكًا وزمانًا، لهو إنسان محطَّم ضعيف حقًّا.

ويختلف معنى الشيطان في الإسلام عن معنى ملاك جهنّم ورئيس هذا العالم وإله الدنيا في سائر التفسيرات. وأخيرًا، يتفاوت مفهومنا عن الشيطان عن رأي البعض من أنّه الموحّد الأكبر الذي امتنع عن السجود لغير الله ،وصار عندهم رأس القدّيسين وقائد الموحّدين.

أما أصالة الفكر الديني حول الشّيطان، فإنها تبلغ القمة في القرآن من الناحية التربويّة، فإن الشيطان اسمه الأصلي إبليس الذي كان من المقربين عند الله، فطُرِدَ من مقام القرب لأجل معصية صدرت عنه استكبارًا فسُمّي الشيطان. فانحرافه وطرده وشقاؤه لعصيانه أوامر ربّه، لا لذاتية الشقاء فيه، ولا لعفوية الطرد وإبعاده عن مقام القرب.

ومن جهة ثانية، فإن الشيطان كذات يمثّل وحدة قوى الشرّ وتكتّلها أمام قوى الخير، في صراع أزليّ أبديّ بين الحقّ والباطل، مهما كان نوعهما أو وصفهما أو قدرهما.

وأهمّ النواحي التربوية في إعطاء فكرة الشيطان واستلامه مهمّة الإغواء والتضليل مع جنوده التي منها النفس الأمّارة بالسوء، أهمّ هذه النواحي، هي تكريس اختيار الإنسان، والتأكيد أنه مخيَّر بين الخير والشرّ، لا مسيَّر لا يهتدي إلّا إلى دوره الكوني المقرَّر له.

وقد أوضح القرآن الكريم هذه الناحية في لوحة تاريخيّة رائعة، أوضح فيها كيفية الخلق في سورة البقرة الآيات 30 إلى 38، وبموجب هذه الآيات، أراد الله أن يجعل في الأرض خليفة، لا آلة مسيَّرة ولا شبه آلة، بل أراد خلق موجود يتصرّف حسب إرادته، ويمارس حريته، حيث إنّ حرية التصرّف لا تتم إلّا مع وجود نزعتي الخير والشرّ في الإنسان، وإلّا مع وجود طريقي الخير والشرّ في الأرض.

خلق الله الإنسان بهذه الخصائص، ثمّ علّمه الأسماء، وجعله مستعدًا لمعرفة حقائق الكون والقوى الكونية، متمكّنًا من الإحاطة بها عن طريق معرفتها، ثمّ أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم، فخضعوا وسجدوا له بأمر الله، وخضوعهم للإنسان يستلزم مطاوعة القوى الكونيّة التي هي بيد الملائكة له، فأصبح آدم سيّد الكون، خليفة الله في الأرض، وامتنع إبليس من السجود لآدم، وطُرِدَ من مقام المقرَّبين، وأُمْهِلَ حسب طلبه إلى يوم القيامة، وبدأ هو وجنوده بإغواء البشر، وأصبحوا من الدعاة إلى طريق الشرّ، يساندون النزعة الشرّيرة في الإنسان.

فالكون ميدان للسّير في الخطّ المستقيم وللانحراف والضّلال. والإنسان أمام مفترق الطريقين، يسمع صوت الله بلسان عقله وبلسان ضميره وبلسان أنبياء الله وبالطّرق الأخرى للهداية، وصوت الشيطان بلسان نفسه الأمّارة بالسوء، وبلسان عناصر السوء والفساد من البشر وغيرهم. يستمع الإنسان في حياته إلى النّداءَين، فيجيب بملء إرادته لنداء الخير أو لنداء الشرّ. وهكذا نرى أنّ الشيطان في مفهومه الإسلاميّ، يقوم بدور بارز في تعميق التخير الإنساني ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ﴾[الأنفال: 42].

النبي:

والنبي عبد من عباد الله، له ما لهم من الحالات والرغبات، ويشعر بما يشعرون من الصراع النفسي بين الخير والشرّ، لكنّه يتبع في القول والفعل ومعاشرة الناس ما يُوحى إليه، وإن لم يكن مطابقًا لمراضيهم، لا ينحرف ولا ينطق عن الهوى، ولا يساير ولا يجامل رغبات النّاس، ولا يزن الأمور بالموازين الشايعة.

إنّ النبيّ عبد من عباد الله، لا ملاك ولا نصف إله، يعيش ويهرم ويموت ويحشر ويحاسب يوم القيامة، وبذلك يصبح قدوةً صالحة للناس، إمامًا لهم، سندًا حيًّا لواقعية رسالته، مثبتًا إمكانيّة تطبيق تعاليمه الدينيّة.

وقد ورد في القرآن الكريم في سيرة الأنبياء عامّة، وفي سيرة النبيّ محمّد خاصّة، دلائل كثيرة على ذلك، حيث وجّه إليهم النقد والتّشجيع والتأييد والتهديد والنصيحة والعتاب على بعض التصرّفات. والنبي مع ذلك، يتمتع بعناية الله ووحيه وتسديده، وبذلك يصبح قوله وعمله ورضاه عن عمل الآخرين هي سيرة وأسوة حسنة للأمّة.

فالصفة المميزة للنبيّ في رأي الإسلام، كونه عبدًا ورسولًا في الوقت نفسه، وبذلك تبدو بوضوح أصالة الفكرة، وعدم انفعالها بالعاطفة الطبقيّة، كما يقول "برتراند راسل"، حيث يتّهم الإسلام بذلك، نظرًا إلى موقفه من السيد المسيح، وتأكيده أنّه ما قُتِل وما صُلِب. إنّ الإسلام المنكر لصلب المسيح يؤكّد أنّ كثيرًا من الأنبياء قُتِلوا في سبيل رسالتهم ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ﴾[البقرة: 87].

فلا ينكر صلب المسيح لعاطفة الزّمالة، ولا للتأثر بآراء النوستيسيزم، بدليل موقفه أيضًا من المسيح بالذات، بل للرّسالة مقام إنساني كبير، لا ينزع صفات البشر عن حاملها، وهو مع ذلك مقام الاتصال بالله، ونقل تعاليمه بكلّ أمانة ودون خطأ وتحريف.

المعاد:

إنّ المعاد من المبادئ العامة لجميع الأديان، ولأكثر المدارس الفلسفية، ولكنه عند الإسلام، يتميّز بخصائص مهمة تجعله فكرة ذات أصالة.

هذه الميزات هي أولًا أن الجزاء في يوم المعاد بالأفعال نفسها الصادرة عن الإنسان: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً﴾[آل عمران: 30]. ويختلف هذا التفسير عن المجازاة في الحقوق الجزائيّة، وعن تفاسير المعاد في غير الإسلام، حيث إن الجزاء نوع من ردّ الفعل الحسن أو القبيح للانتقام أو للتأديب أو الإصلاح. فالعمل يختلف عن الجزاء عادة، ولكن الجزاء في المعاد الإسلامي هو الأعمال نفسها التي تتمثل بالصورة المتناسبة لعالم الخلود. والمعاد، من جهة ثانية، يوم بروز النتائج ووقت اكتشاف حقيقة الأعمال، وإلّا فالجزاء حسب تحديد القرآن، هو مقترن بالعمل وقت صدوره، ولكنّه خفيّ عن الأبصار، ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ﴾[ق: 20]. ﴿لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾[ق: 22].

ومن جهة ثالثة، فالمعاد عند الإسلام هو تمثّل الإنسان بجسمه وروحه للحساب، وليتلقى حصاد عمره. أما النقاش المعروف بين فلاسفة الإسلام الملتزمين، إنما هو حول تحديد معنى الجسم الذي يحشر، لا في أصل المعاد الجسماني.

والباحث يعرف بعد هذه الملاحظات مدى الفرق الواضح بين المعاد الإسلامي وبين معنى السّماء، أو معنى عودة الروح عند المصريّين القدامى، أو الوثنيّين في الجزيرة، أو انتصار النّور على الظلمة عند المجوس.

وأخيرًا، تبلغ الذاتيّة في الإسلام قمّتها في قسم الأمثال وقسم التّاريخ، حيث إنّنا نعرف اليوم مدى ثقافة الإنسان في أقطار العالم، ومقدار معرفته في العلوم والتّاريخ حال ظهور النبي محمد وحال نزول القرآن. إنّنا نعرف ذلك، ولكنّنا نجد أنّ القرآن لم يتأثر أصلًا بالآراء العلميّة السائدة في عصره، وبالمعلومات التاريخية المعروفة عند البشر في ذلك الوقت.

فالآيات الواردة في الاستشهاد بحركات الشّمس والقمر والنجوم والأرض وغيرها، لم تتأثر إطلاقًا بالهيئة البطليموسيّة وآرائها.

والآيات التي تشير إلى مبدأ الخلق، وتكوين الأرض، واتّساع الكون وغيرها، تكاد أن تنطبق على أحدث النظريات العلمية من دون تأثر بثقافة عصر نزول القرآن.

والآيات التي تنقل تاريخ الفراعنة، وخصوصاً فيما يعود إلى فرعون يوسف وتسميته بالعزيز، وفيما يعود إلى غرق فرعون المعاصر للنبيّ موسى ونجاته ببدنه، هذه الآيات لم تتأثّر أصلًا بالروايات الشائعة في عصر ظهور النبيّ محمّد، بل إن بعض هذه المعلومات كانت خفيّة عن معرفة البشر إلى زمن اكتشاف تاريخ الفراعنة بواسطة شامبليون.

*من محاضرة للإمام السيّد موسى الصدر، ألقاها في كلية بيروت للبنات في صيف 1966، وأعاد إلقاءها في مقرّ المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين في القاهرة بتاريخ 19 آذار 1970. ونُشرت في كتاب "مصادر الثقافة في لبنان"، مكتبة لبنان، وفي كتيب "الأصالة الروحية - التطوّر"، جمعيات الشبان المسلمين 1970.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية