المؤسِّس
هو: أبو الحسن عليّ بن إسماعيل بن إسحاق، وهو من أحفاد أبي موسى الأشعري، الصحابي
المعروف، ولذلك اشتهر بالأشعري؛ منتسباً إلى جدِّه الأعلى.
اختلف المترجمون في ميلاد أبي الحسن الأشعري، والأظهر أنّه وُلد عام ٢٦٠هـ في
البصرة، وتوفّي سنة ٣٢٤هـ، وتخرّج في كلام المعتزلة على أبي علي الجبائي الّذي
انتهت إليه رئاسة المعتزلة في البصرة، ولمّا مات، قام مقامه ابنه أبو هاشم في
التّدريس والتّقرير...
رجوعه عن الاعتزال
وقد تخرّج في كلام المعتزلة على أُستاذه أبي علي الجبائي (٢٣٥ - ٣٠٣هـ)، ولكنَّه
بعد سنتين من وفاة أُستاذه (٣٠٥هـ) أعرض عن الاعتزال...
عقائد الأشاعرة
وعلى كلِّ حال، فالشيخ الأشعري قد امتاز عن أهل الحديث باستحسان الخوض في المسائل
الكلاميّة، والاستدلال بالدليل والبرهان والآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة، وقد
ألفّ في ذلك رسالة مفصّلة، وقف في وجوه أهل الحديث الّذين كانوا يحرّمون الخوض في
هذه المسائل، وعلى ذلك الغرار، ألفّ كتابه الثالث (اللُّمع)، وقد طُبعت الرسالة
السابقة في ذيل كتاب اللُّمع.
ثم إنّ مذهبه وإن لم يكن رائجاً بين النّاس، ولكن تلاميذه أو تلاميذ تلاميذه قد
أحكموا أُصوله حتّى انتشر انتشاراً واسع النطاق، إلى أن صارت عقيدة الشيخ الأشعري
عقيدة أهل السنّة اليوم، حتّى إنّهم يقدّمون رسائله العقائدية على عقيدة الطحاوي (المتوفَّى
عام ٣٢١هـ)، علماً أنّ الثانية أقرب إلى عقائد أهل الحديث...
لا يمكن لنا في هذا المختصر نقل كلمات الأشعري فيها [في الأصول الستّة عشر الّتي
طرحها في كتاب اللّمع]، بل نقتصر على بعض الأُصول الخاضعة للنّقاش:
١. أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه:
قال في (الإبانة): إنّه لا خالق إلا الله، وإنَّ أعمال العبد مخلوقة لله ومقدورة،
كما قال: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}، وإنَّ العباد لا يقدرون أن
يخلقوا شيئاً، وهم يُخلَقون، كما قال سبحانه: {هَلْ منْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ}.
وقال في (مقالات الإسلاميّين)، في حكاية جملة قول أهل الحديث وأهل السنّة: "وأقرّوا
انّه لا خالق إلاّ الله، وأنّ سيّئات العباد يخلقها الله، وأنَّ أعمال العباد
يخلقها الله عزّ وجلّ، وأنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئاً".
لا شك أنّ القول بالتوحيد في الخالقيّة، وأنّه لا خالق في صّفحة الكون إلا الله
سبحانه، من روائع الأُصول الّتي طرحها في عقائده، خلافاً للمعتزلة؛ حيث نفوا
خالقيَّته سبحانه لفعل العبد؛ وبذلك اعترفوا بالثنويَّة، فالله خالق كلِّ شيء إلا
فعل الإنسان، والإنسان خالق لأفعاله، إلا أنَّ تفسير التوحيد بالخالقيّة بشكل يسفر
عن الجبر وسلب الاختيار ونفي العلل الطبيعيّة أمرٌ غير صحيح، فالتّوحيد في
الخالقيّة يجب أن يفسَّر على نحو ينسجم مع اختيار الإنسان أوّلاً، ومسؤوليّته ثانياً،
كما ينسجم مع ما كشف عنه العلم، ومازال يكشف عن الأسباب والمؤثِّرات الطبيعيّة.
والّذي يمكن أن يقال، هو: أنَّ العوالم الممكنة من عاليها إلى سافلها متساوية
النّسبة إلى قدرته سبحانه، فالجليل والحقير، والثّقيل والخفيف عنده سواسية، لكن ليس
معنى الاستواء هو قيامه تعالى بكلّ شيء مباشرة، وخلع التّأثير عن الأسباب والعلل،
بل يعني أنَّ الله سبحانه يُظهر قدرته وسلطانه عن طريق خلق الأسباب، وبعث العلل نحو
المسبَّبات والمعاليل، والكلّ مخلوق له، ومظاهر قدرته وحوله، ولا حول ولا قوة إلا
بالله.
فالأشعري خلع الأسباب والعلل - وهي جنود الله سبحانه - عن مقام التّأثير والإيجاد،
كما أنّ المعتزلي عزل سلطانه عن ملكه، وجعل بعضاً منه في سلطان غيره، أعني: فعل
العبد في سلطانه.
والحق الّذي عليه البرهان ويصدّقه الكتاب، هو كون الفعل موجوداً بقدرتين، لكن لا
بقدرتين متساويتين، ولا بمعنى علّتين تامّتين، بل بمعنى كون الثّانية من مظاهر
القدرة الأُولى وشؤونها وجنودها {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلّا هُوَ}، وقد
جرت سنّة الله تعالى على خلق الأشياء بأسبابها، فجعل لكلّ شيء سبباً، وللسبب سبباً،
إلى أن ينتهي إليه سبحانه، والمجموع من الأسباب الطويلة علّة واحدة تامّة كافية
لإيجاد الفعل، والتفصيل يُطلَب من محلّه، ونكتفي في المقام بكلمة عن الإمام الصّادق
(عليه السّلام): «أبى الله أن يجري الأشياء إلا بأسباب، فجعل لكلّ شيء سبباً، وجعل
لكلّ سبب شرحاً».
ثم إنّ الشيخ الأشعري فراراً من مضاعفات القول بأنَّه سبحانه خالق لأفعال البشر،
وأنّه ليس له دور في أفعاله، أضاف نظريّة الكسب، وقال: "الله خالق، والإنسان كاسب".
وقد اختلفت كلمة الأشاعرة من تلاميذ منهجه في تفسير الكسب، وأوضح تفسير له، ما ذكره
الفاضل القوشجي الأشعري في المقام؛ حيث قال: والمراد بكسبه إيَّاه، مقارنته لقدرته
وإرادته، من دون أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاً له، ومعنى
ذلك: إنَّ الفعل صادر عن الله، غاية الأمر، كون الإصدار منه تقارن مع وصف من صفات
العبد، وهو: أنّه إذا صار ذا قدرة غير مؤثّرة وإرادة، كذلك يصدر الفعل عن الله
سبحانه مباشرة، فلا يكون للعبد دور سوى كونه محلًّا له.
يُلاحظ عليه: أنّه إذا لم يكن للعبد دور إلا مقارنة الصدور عن الله بوجود الاستطاعة
في العبد والإرادة، فهل يكون ذلك مسوّغاً لتعذيبه وتثويبه، والمفروض أنَّ القدرة
غير مؤثّرة، وإرادته أيضاً فعل الله سبحانه، وليس له دور سوى كونه محلًّا لوجود
شيئين: إيجاد الإرادة من الله في ضميره، والفعل في الخارج؟!
٢. كلام الله سبحانه هو الكلام النفسيّ:
أجمع المسلمون، تبعاً للكتاب والسنَّة، على كونه سبحانه متكلِّماً، وقد شغلت
المسألة بال المفكّرين في عصر الخلفاء، وحدثت بسببها مشاجرات، بل مصادمات دامية
سجّلها التاريخ.
ثم إنَّ الاختلاف في كلامه سبحانه واقع في موضوعين:
الأوّل: ما هو حقيقة الكلام؟ وهل هو من صفات ذاته كالعلم والقدرة والحياة، أو من
صفات فعله كالإحياء والإماتة والخلق والرّزق؟
الثاني: هل هو قديم أو حادث؟ هل هو مخلوق أو غير مخلوق؟ فنحن ندرس في المقام نظريّة
الحنابلة، ثُمّ الأشاعرة، وقد عرفتَ أنَّ الأشعري أجرى الإصلاح في عقائد أهل الحديث
في موارد، منها: تكلّمه سبحانه.
ذهبت الحنابلة إلى أنّ كلامه حرف وصوت يقومان بذاته، وأنّه قديم، وقد بالغوا فيه،
حتّى قال بعضهم جهلاً: إنَّ الجلد والغلاف قديمان.
ولمّا كانت تلك النظريّة تشوّه سمعة القائل بها، قام الشيخ الأشعري إلى تصحيحها،
فأخرج كلامه سبحانه عن المعنى السّخيف الّذي تتبنّاه الحنابلة إلى معنى آخر، وهو
القول بالكلام النفسي القائم بذات المتكلّم، وهذه النظريّة مع اشتهارها من الشيخ
أبي الحسن الأشعري، لم نجدها في (الإبانة) ولا في (اللُّمَع)، وإنّما ركّز فيهما
على المسألة الثانية، وهي أنّ كلامه سبحانه غير مخلوق، ولم يبحث عن حقيقة كلامه،
ومع ذلك، فقد نقلها عنه الشهرستاني، وقال: وصار أبو الحسن الأشعري إلى أنَّ الكلام
معنى قائم بالنفس الإنسانيّة، وبذات المتكلّم، وليس بحروف ولا أصوات، وإنَّما هو
القول الّذي يجده القائل في نفسه ويجيله في خلده، وفي تسمية الحروف الّتي في
اللّسان كلاماً حقيقيّاً تردّد، أهو على سبيل الحقيقة أم على طريق المجاز؟ وإن كان
على طريق الحقيقة، فإطلاق اسم الكلام عليه وعلى النطق النفسي بالاشتراك، ثم إنّ
الأشاعرة اختلفت في تفسير الكلام النفسي، وأحسن ما قيل في تفسيره، ما ذكره الفاضل
القوشجي في شرح التّجريد، قال:
إنّ من يورد صيغة أمر أو نهي أو نداء أو إخبار أو استخبار أو غير ذلك، يجد في نفسه
معاني يعبِّر عنها، نسمّيها بالكلام الحسّي، والمعنى الّذي يجده ويدور في خلده، ولا
يختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع والاصطلاحات، ويقصد المتكلّم حصوله في نفس
السّامع على موجبه، هو الّذي نسمّيه الكلام...
٣. آثار التّحسين والتقبيح العقليّين:
قد عَنْوَن الشيخ الأشعري هذه المسألة باسم التعديل والتجوير، وهذه المسألة تُعدُّ
الحجر الأساس لكلام الأشعري، والشيخ تبعاً لأهل الحديث والحنابلة، صوَّر العقل أقلّ
من أن يُدرك ما هو الحسن وما هو القبيح، قائلاً بأنّ تحكيم العقل في باب التّحسين
والتقبيح، يستلزم نفي حريّة المشيئة الإلهيّة، وتقيّدها بقيد وشرط؛ إذ على القول
بهما، يجب أن يفعل سبحانه ما هو الحسن عند العقل، كما عليه الاجتناب عمَّا هو
القبيح عندَه؛ فلأجل التحفّظ على إطلاق المشيئة الإلهيّة، قالوا: لا حسَن إلا ما
حسّنه الشارع، ولا قبيح إلا ما قبّحه، فله سبحانه أن يؤلم الأطفال في الآخرة، ويعدّ
ذلك منه حسناً.
فإن كنت في ريب من هذا، فلنذكر من كلامه في إنكار الحسن والقبح العقليّين. يقول في
كتاب (اللُّمَع):
فإن قال قائل: هل لله تعالى أن يؤلم الأطفال في الآخرة؟ قيل له: لله تعالى ذلك، وهو
عادل إن فعله - إلى أن قال: - ولا يقبح منه أن يعذِّب المؤمنين ويدخل الكافرين
الجنان، وإنَّما نقول إنّه لا يفعل ذلك، لأنّه أخبرنا أنّه يعاقب الكافرين، وهو لا
يجوز عليه الكذب في خبره...
٤ . رؤية الله بالأبصار في الآخرة:
إنّ رؤية الله تعالى في الآخرة ممّا اهتمّ الأشعري بإثباتها اهتماماً بالغاً في
كتابيه: (الإبانة) و(اللُّمع)، وركَّز عليها في الأوَّل من ناحية السمع، وفي الثاني
من ناحية العقل.
قال في (الإبانة): وندين بأنَّ الله تعالى يُرى في الآخرة بالأبصار، كما يرى القمر
ليلة البدر، يراه المؤمنون، كما جاءت الرّوايات عن رسول الله.
وقال في (اللُّمع): إن قال قائل: لِمَ قلتم إنَّ رؤية الله بالأبصار جائزة من باب
القياس؟ قيل له: قلنا ذلك، لأنَّ ما لا يجوز أن يوصف به الله تعالى ويستحيل عليه،
لا يلزم في القول بجواز الرّؤية.
إنّ رؤية الله تبارك وتعالى فكرة مستوردة وبدعة يهوديّة؛ نقلها الأحبار إلى الأوساط
الإسلاميّة، وحيكت الأخبار على منوالها، ويشهد على ذلك ما في العهد القديم، وإليك
بعض المقتطفات منه:
١ - رأيت السيِّد جالساً على كرسيّ عال، فقلت: ويل لي؛ لأنَّ عينيَّ قد رأتا الملك
ربّ الجنود. والمقصود من السيّد هو: الله جلّ ذكره.
٢ - كنت أرى أنّه وضعت عروش وجلس القديم الأيّام، لباسه أبيض كالثّلج، وشعر رأسه
كالصّوف النقي، وعرشه لهيب نار.
ولمّا كان القول بالرؤية في الآخرة يستلزم المقابلة مع المرئي، وكونه في جهة ومكان،
عمَد كثير من الأشاعرة، منهم التفتازاني، إلى تجريد الرؤية عن هذه السلبيّات.
قال الشيخ أبو الحسن الأشعري: الدّليل على أنّ الله يُرى بالأبصار، قوله تعالى: {وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ نّاضِرَةٌ * إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ}. والنظر بالوجه هو نظر الرّؤية
الّذي يكون بالعين الّتي في الوجه، فصحَّ أنّ معنى قوله تعالى: {إِلَى رَبّهَا
نَاظِرَةٌ} رائية.
وقد شغلت الآية بال الأشاعرة والمعتزلة، فالفرقة الأُولى تُصرّ على أنّ النظر هنا
بمعنى الرؤية، والثانية تُصرّ على أنّها بمعنى الانتظار لا الرّؤية. ولكنّ الحقّ أنّ
الآية لا تدلّ على نظرية الأشاعرة، حتّى ولو قلنا إنَّ النظر فيها بمعنى الرّؤية؛
إذ يُعْرف مفاد الآيات بمقارنة بعضها مع بعض...
أعيان الأشاعرة:
ثم إنّ هناك رجالاً ارتبطت أسماؤهم ببلورة المذهب الأشعري، ولولاهم لما قام لهذا
المذهب عمود، ولا اخضرّ له عود. وإليك بعض أسماء أعلامهم عبر التاريخ:
١ - أبو بكر الباقلاني (المتوفّى ٤٠٣هـ).
٢ - أبو منصور عبد القاهر البغدادي (المتوفّى ٤٢٩هـ).
٣ - إمام الحرمين أبو المعالي الجويني (٤١٩ - ٤٧٨هـ).
٤ - حجة الإسلام الإمام الغزالي (٤٥٠ - ٥٠٥هـ).
٥ - أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني (٤٧٩ - ٥٤٨هـ).
٦ - أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي فخر الدين الرازي (٥٤٤ -
٦٠٦هـ).
*من كتاب "المذاهب الإسلاميّة".
***