أولًا، الإمام والإمامة:
في تحليل لغويّ، عند العلامة العلائلي في كتاب "المرجع"، واستنادًا إلى دراسة له
طويلة، يفسّر الإمام بميزان خشبي كان يستعمله البناؤون لمعرفة استقامة البناء أو
انحرافه، والذي تحوَّل في ما بعد إلى ميزان الزيبق، هو المعنى الأصيل.
وفي مصطلحنا المعاصر، يُطلق الإمام على علماء الدين القادة في التفكير والقول
والسلوك، مع ما يشوب الألقاب في مجتمعاتنا من المجاملات والمبالغات والتمنيات.
ولكن الغاية من هذا البحث تفرض أن نفسّر كلمة الإمام بمعناه المصطلح المذهبي عند
الشيعة - الشيعة الإمامية- أنه إنسان، لا إله ولا نصف إله، بلغ الكمال الذي يريده
الإسلام، الإنسان الفائق وليس ما فوق الإنسان، إنسان بلغ الكمال، وفي الوقت نفسه،
القائد المسؤول لتوجيه الأمّة. وفي المتون الشيعية: الإمام حجّة الله على الأرض،
كتاب الله الناطق، المرآة التامّة للإسلام، الإسلام المتجسّد، الإنسان الذي تحوَّل
في أحاسيسه، وفي تفكيره، وفي أحكامه، وفي أقواله، وفي أعماله، وحتى في سكوته،
الإنسان الذي تحوَّل إلى مستوى الميزان كما ورد في الحديث عن النبيّ (صلى الله عليه
وآله وسلم): "أنا ميزان الأعمال وعليٌّ لسانه". وبكلمة، إنه الإنسان الفائق القمّة
وليس ما فوق الإنسان، إنه وصيّ وليس نبيًّا.
ثانيًا، عاشوراء:
عاشوراء يوم مقتل الإمام الحسين في كربلاء. والمقصود في هذه الدراسة أو في محاضرتي
على الأقلّ، المقصود من عاشوراء محتوى ذلك اليوم من أحداث مرتبطة بأسباب وبنتائج،
والذكريات الاحتفالية التي بدأت منذ الأيام الأولى بعد المأساة، واستمرت ونَمَت
وتطورت حتى يومنا هذا.
إذًا، نحن في هذه الدراسة، أمام عاملين قائمين حيين فاعلين، ولسنا أمام حدثين
تاريخيين. فالإمام كما عرفناه تجسيدٌ للرسالة، فهو باقٍ في مركز القدوة وفي مركز
القيادة، حيًّا كان الإمام أو ميتًا، قوله وسلوكه وسكوته ورضاه سندٌ نستند عليه في
كتبنا الفقهية كجزء من المذهب. فالإمام حكم متجسّد وإيمان متجسّد، انتصر في المعركة
أو هُزِمَ أو عُزِلَ لا فرق، عامل فاعل مستمر حتى الآن، وعاشوراء أيضًا شهادة،
والشهادة في منطق القرآن خلود وتحرك وقيادة - أعيدُ إلى ذاكرتكم الآية: ﴿ولا تحسبنّ
الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا﴾ -أرجو الانتباه إلى هذه النقطة- ﴿بل أحياء عند
ربهم يرزقون﴾ [آل عمران، 169]: النموّ المستمرّ، ﴿فرحين بما آتاهم الله ويستبشرون
بالذين لم يلحقوا بهم﴾[آل عمران، 170]: القيادة الدعوة.
إذًا، نحن أمام عاملين قائمين لا أمام حدثين تاريخيين، فنصل إلى تفاعل العاملين
الموجودين في عنوان هذا الحديث، لكي يفرز هذا التفاعل لنا عناوين ثلاثة:
الأول شهادة الإمام، والثاني إمامة الشهيد، والثالث الشهادة الإمام.
أما شهادة الإمام، فهي الترابط العميق بين الإمام وبين الشهادة، حتى إنّ الشهادة
جزء أساس من مسؤولية الإمام القيادية.
الثاني، إمامة الشهيد، فالشهيد في سبيل الله إمام، ومعنى ذلك أن الشهادة بحدّ ذاتها
القدوة وقيادة، وهما في درجتيهما العاليتين أساسان لمفهوم الإمامة، والشهيد العادي
يتمتع بصفتين أساسيتين من صفات الإمام، فهو في موكب الإمام.
أما الثالث، الشهادة الإمام، وأعني بها أن مستوى شهادة الحسين في عاشوراء إذا
درسناها بأسبابها ودوافعها النفسية وتفاصيلها ونتائجها، تفوق الشهادات كلّها. ولذلك،
نسمي الحسين "سيد الشهداء"، أو على حدّ تعبير العقاد "أبو الشهداء"، والحديث يقول:
"لا يوم كيومك يا أبا عبد الله"، كلمة وردت في كثير من الآثار الدينية الشيعية.
إذًا، الشهادة الحسينية يوم عاشوراء أمام الشهادات، الشهادة الإمام.
ويبقى العنوان الثاني وهو إمامة الشهيد، إنه بحث اجتماعي وديني مستقل تطرَّق إليه
الكثيرون من الباحثين بالتفصيل، وقد اكتفيت في ذلك بالآية التي تلوتها لكم حول دور
الشهيد في الدعوة، وفي الإثارة، وفي الخلود، وفي التحوّل إلى القيم.
فلندخل في صميم بحثنا، شهادة الإمام، وهنا نحتاج إلى أن نتحدّث عن مفهوم الإمام
وضرورته عند الشيعة، وأبعاد معنى الإمام لدى المذهب.
ولأجل أن ندرك تسلسل الفكرة، ونصل إلى صورة واضحة عن الإمام، إلينا هذه المبادئ:
أولًا، الحياة في مفهومها الديني حركة دائمة نحو الكمال، والقرآن الكريم يلخص هذا
بقوله: ﴿إنّا لله وإنّا إليه راجعون﴾[البقرة، 156]، أي نحن في رجوع مستمر إلى الله،
أي الكمال المطلق. وهذا المفهوم نجده في كثير من التعاليم الدينية التي تأمر
بالحركة الدائمة والسعي الدائم حتى الرمق الأخير.
ثانيًا، الحركة تغيُّر مستمرّ، واتجاهها نحو الكمال اللانهائي الذي هو الله يستدعي
سيرها نحو الأفضل، إذ الحياة في مفهومها الديني سير دائم وتغيير مستمر نحو الأفضل،
وبالتالي رفض الوقوف والجمود والتراجع.
ثالثًا، والتحول الواجب نحو الأفضل (بما في ذلك التجاوب والانتكاسات طبعًا) هادئ
أحيانًا، وعنيف أحيانًا أخرى حسب ظروف الحركة.
رابعًا، وجود الخير والشرّ في الإحساس، ووجود الخير والشرّ في الحياة يخلقان الصراع
الدائم في نفس الإنسان قبل الصراع في الخارج، وبالتالي، فإنّ هذا الصراع هو الدافع
المتجدّد نحو الكمال.
الإنسان متحركًا نحو الكمال، دافعه وجود عنصر الخير والشرّ في نفسه وفي الخارج،
وإلَّا فلو لم يكن الإنسان يدرك أو لو لم يكن الشرّ في الخارج، لم يكن الاختيار، أي
الصراع أو الرياضة الدائمة، وبالتالي الكمال الدائم. وهذا مفهوم قرآني، ففي سورة
الشمس يقول: ﴿فألهمها﴾ يعني الله ألهم النفس ﴿فجورها وتقواها﴾[الشمس، 8]، يعني أن
الله ألهم الإنسان وخلقه بحيث يحسُّ بالشرّ كما يحسُّ بالخير. ﴿قد أفلح من زكّاها *
وقد خاب من دساها﴾ [الشمس، 9-10]: الفلاح أي الكمال يحصل بعد الصراع. وآية أخرى:
﴿وهديناه النجدين﴾[البلد، 10] نحن الخالق، علَّمنا الإنسان طريقه إلى الخير والشرّ،
وتضيف الآية: ﴿فلا اقتحم العقبة﴾[البلد، 11]، الإنسان المقصِّر ما اقتحم وما عَبَرَ
المشكلة. ﴿وما أدراك ما العقبة * فكّ رقبة﴾[البلد، 12-13]: تحرير إنسان، فردًا كان
في يوم من الأيام أو جماعة في يومنا هذا ﴿أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيمًا ذا
مقربة * أو مسكينًا ذا متربة﴾[البلد، 14-16]: الإطعام يعني خلق العيش للإنسان
فرديًّا كان حسب طاقات الإنسان أو جماعيًًّا. فدافع الإنسان نحو الكمال وجود عنصر
الخير والشرّ، وصراع الخير والشرّ المستمرّ في الذات، الصراع في النفس والصراع في
الخارج.
خامسًا، أما الدعوة الإلهية، فلها مراحل ودرجات: المرحلة الأولى، الضّمير، على حدّ
تعبير القرآن الفطرة، ﴿فطرة الله التي فطر الناس عليها﴾[الروم، 30]. إن الضمير هو
المرحلة الأولى للدعوة الإلهية نحو الكمال. والضمير هو النبي الباطن، يأتيه بعد ذلك
النبي من الله، والنبيّ ضمير الكون والوجود، يساعد الإنسان في صراعه هذا، ويخرجه
إذا أراد من الظلمات إلى النور.
هذه خلاصة دعوة الأنبياء جميعًا؛ ﴿قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يدعو به الله
من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور﴾[المائدة، 15-16]: أي من
ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات الفقر إلى نور الرّفاه، وهكذا... إنهم
الأنبياء بُعِثُوا من الأمّيين، من عامّة الناس، ليزكّوهم ويعلّموهم الكتاب والحكمة،
كما ورد هذا في القرآن بالنّسبة إلى النبي محمد. فالمرحلة الأولى من الدعوة هي
الضمير، والثانية دعوة الأنبياء.
أما المرحلة الثالثة للدعوة، فلعلّها لا تخلو من غرابة، ولكنها مليئة بالتفاؤل
والتربية وخلق القوّة من الضعف. والقرآن الكريم له منطق خاصّ في هذا المجال، لأنه
يجعل المصيبة دافعًا مساعدًا لانتباه الإنسان ووعيه وحركته، كما أن التفاعلات
الاجتماعية وظهور الفساد في البرّ والبحر - حسب تعبير القرآن - عامل آخر لتنبيه
الإنسان إلى أخطائه في اتجاهه. يقول القرآن: ﴿ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت
أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلّهم يرجعون﴾[الروم، 41]. نلاحظ إذًا، أنّ
هناك آثارًا اجتماعيّة سيّئة نتيجة لعمل الإنسان جاءت لكي تنبّه الإنسان، فهي نوع
من الدعوة الجديدة والتذكير. هذا بالنسبة إلى الأحداث الاجتماعية، ويسري المنطق
نفسه بالنسبة إلى المصائب ﴿ولنبلونَّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال
والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنَّا لله وإنَّا
إليه راجعون* أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة﴾[البقرة، 155-157]، حتى المصيبة في
الرؤية القرآنيّة مرحلة من الدعوة.
سادسًا، ثم إنّ الدعوة شاملة لجميع البشر، ولكلّ قوم هادٍ، والقرآن يؤكد خلال آيات
متعدّدة وجود الدعوة بواسطة الأنبياء لجميع شعوب الأرض. وبالتالي، يثبت أن الدعوة
عامة بواسطة الأنبياء، ومستمرة بواسطة الهادين (الأئمة) والأوصياء. هذا الاستمرار
والشمول في الدعوة الإلهية عناية من الله لإنقاذ الإنسان من سيطرة الأهواء وعناصر
الشرّ في داخله وفي الخارج، والتي تظهر خلال دعوة الأنبياء وبعدهم، وتتراكم حتى
تصبح خطرًا على الدّعوة ذاتها.
ومن هنا، يبدأ دور الإمام لمنع تحول المفاهيم والأحكام الإلهيّة عن طريق عناصر
وأناس يشوِّهون ويحرِّفون الكلام عن موضعه.
فالإمام عند الشيعة له دور حفظ الدعوة والقيادة، عدا أنه ليس نبيًّا ولا يُوحى إليه،
ولكنه معصوم عن الخطأ والذنب. ومعنى ذلك، أن الإمام (الإمام المعصوم طبعًا لا
الإمام في مصطلحنا المعاصر)، يمثل الإرادة الإلهية في سير الإنسان نحو الكمال، ومن
أجل ذلك، يقول الشيعة إن اختيار الإمام يجب أن يكون حسب النص، وليس حسب الانتخاب
والاختيار. فالإمام يمثل الإرادة الإلهية، أي مساعدة الإنسان في صعوده نحو الكمال،
وهو يصطدم بعراقيل وعقبات. والصّدام خفيف تارةً وعنيف أخرى.
وطالما أن الإمام يمثِّل هذه الإرادة، يتضح معنى الحديث: "أكثر الناس بلاءً
الأنبياء ثم الأوصياء"، باعتبار مسؤوليتهم عن دعوتهم المستمرة، ونعرف معنى الحديث:
"من مات ولم يعرف إمام زمانه، مات ميتة الجاهلية"، لخطر الانحراف وسيطرة الشرّ. هذه
الاستمراريّة في القيادة ومساعدة الناس على صراعهم الداخلي والخارجي ودفعهم نحو
الكمال، تعبير صادق عن سُنّة الله في الخلق ﴿ولن تجد لسنَّة الله تبديلًا﴾[الأحزاب،
62].
فالتغيُّر والتطوّر والتكامل هنا يلتقي مع الثبات والإطلاق، ويصبح أمرًا لا يتغيّر
في الأساس متغيرًا في المضمون. فالسُنّة الأزلية المطلقة تتطلب التغيُّر الدائم،
هنا يلتقي التغيير والثبات. لذلك، فإن النبي، كل نبيّ، ومن بعده الإمام الوصيّ، ومع
الإمام ممثّلوه، كما ورد في الحديث: "من كان من الفقهاء صائنًا لنفسه، حافظًا لدينه،
عاصيًا لهواه، مطيعًا لأمر مولاه"، أصحاب هذه الصفات، الإمام يعبِّر عنهم فيقول: "فإنه
حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله عليكم". وهؤلاء القادة: النبي، الإمام وممثّل الإمام،
مسؤولون أمام الله عن سلوك الناس واستمرار تحركهم نحو الكمال، مهما كان الثمن،
وكيفما كانت الظروف، حتى لو استلزم ذلك تضحيات (أي الشهادة). فالإمام مسؤول عن
تقديم الشهادة، وأن يتقدّم لأجل الشهادة عند الاقتضاء، حتى يصون سير الإنسان نحو
الكمال الذي يصطدم بعراقيل وعقبات خفيفة أحيانًا وعنيفة أخرى.
ومن هنا، فإن مفكري الشيعة - أو على الأقلّ بعض مفكري الشيعة - يميلون إلى رفض
تصنيف التشيّع مذهبًا في الأصل منفصلًا عن المذاهب الأخرى. المفكرون يرفضون ذلك، بل
إنهم يقولون إنّ التشيع بمعنى المسؤولية هو إيديولوجية القادة وسلوكهم القيادي
المعتمد على الجهاد، والجهاد هو الدّرس الصحيح للمرحلة المعاشة، والسعي حتى الشهادة
في سبيل تحويلها إلى الأفضل. وهنا نصل إلى التلاقي العميق بين الإمامة والشهادة،
لأن الإمامة مسؤولية لصيانة تحرّك الناس. ومن الطبيعي أن المسؤول قد يحتاج إلى درجة
الشهادة. فالشهادة جزء من الإمامة، وندرك مفهوم الحديث الوارد عن الأئمة: "ما منّا
إلا شهيد أو مسموم"، حيث يلقي الأضواء على أبعاد النضال الذي كانوا يمارسونه لتحمّل
مسؤوليّاتهم.
وهنا نصل إلى النمط العريض لتاريخ التشيع، والذي تشكّل عاشوراء صفحة من هذا التاريخ،
ذلك الخطّ الشاق المأساوي الذي جعله رغم قلة أصحابه، مذهب الرفض أم المخالفة أم
المعارضة في إطار الالتزام الإسلامي بالنصوص والمتجدد بالاجتهاد.
إن رسالة الدين واحدة في سلسلة واحدة متصلة الحلقات. والهدف لا يتحقق إلا بتحرير
الإنسان من عبادة الذات، ومن التأثر بنزعات الشرّ، ومن عبادة ما حوله ومن حوله. إن
التحرر من عبادة الذات يحصل خلال الصراع النفسي، وهو أمر ذاتيّ يخصّنا، رغم أنه
يكلف جهدًا كبيرًا، وقد عبَّر عنه الجهاد الأكبر؛ ولكن عندما يصل الإنسان إلى
التحرر من عبادة الآلهة الأرضية، ورفض عبادة من حوله، يعني تحرير الإنسان من عبادة
الناس والأصنام، آلهة الأرض الذين يستعبدونهم ويستضعفونهم، عندما يصل الأمر إلى
التحرر من الطغاة، يصطدم بمصالح الطغاة وتحتدم المعركة.
وهنا نجد أن جهاد الأنبياء والأوصياء والأئمة جميعًا في ساحة واحدة، بحيث يمكننا أن
ندرس موقف كل منهم في إطار عام؛ ومن جملة هذه المجاهدات، بل قمة هذه التضحيات،
استشهاد الحسين يوم عاشوراء. فليست الشهادة الحسينية حلقة معزولة عن الحلقات الأخرى
ندرسها، بل ندرسها من خلال تاريخ نضالي طويل أوجد شهادة الحسين، كما أن شهادة
الحسين أوجدت شهادات أخرى، ولكن شهادة الحسين هي القمة.
ولذلك، فالروايات الشيعية في الزيارات تؤكّد وتقول: "السلام عليك يا وارث آدم صفوة
الله (يربط بين الحسين وبين آدم)، السلام عليك يا وارث نوح نبيّ الله، السلام عليك
يا وارث إبراهيم خليل الله، السلام عليك يا وارث إسماعيل ذبيح الله، السلام عليك يا
وارث موسى كليم الله، السلام عليك يا وارث عيسى روح الله، السّلام عليك يا وارث
محمد حبيب الله، السّلام عليك..."، وهكذا... هذه الأحاديث تركز على ربط الحركة
الحسينية بالحركات القيادية لتحرير الإنسان من عبادة آلهة الأرض، ودوره في أنه يحمل
أعباء التاريخ كلّها ضمن معارك منذ الأزل في وجه الطغاة ولخدمة المعذبين في الأرض
منذ أن كانت الأرض. وهذه المعارك استمرت، وسقط شهيد تلو شهيد في الطريق، حتى جاء
الحسين وهو سيد الشهداء، فهو حلقة مترابطة مع هذا الماضي. وفي الوقت نفسه، هذا يعني
أن حركته نابعة من حركتهم، وهي بدورها أمّ الحركات والحسين أبو الشهداء.
إن آلهة الأرض (الطغاة) في المصطلح الديني هم آلهة المال، وآلهة القوّة، وآلهة
الإغراء، وآلهة الجاه والطغيان والظلم. إنّ هذه الآلهة وزبانيتهم باستعباد الإنسان،
أو على حدّ تعبير القرآن استضعاف الإنسان (طبعًا كلمة الاستضعاف في القرآن كلمة
شاملة، تعني عدّ إنسان أخاه الإنسان ضعيفًا لكي يأخذ منه ماله، (وهذا استثمار في
مصطلحنا المعاصر)، أو حريته (وهذا نسميه الاستعمار)، أو يأخذ منه عقله، الاستضعاف
في الاستثمار والاستعمار والتسلّط والإغراء والإرهاب والتضليل، وجميع العناصر التي
تسلب الإنسان سلوكه الصحيح وحريته المسؤولة. ومن الطبيعي أن هذه الآلهة لا تترك
الساحة دون جهاد، فتصطدم مع رسالة الدين المتجسدة في دعوة الأنبياء والأئمة، ويحصل
الصراع وتُراق الدماء وتمتلئ السجون ويُضطهد المستضعفون في الأرض.
ثم تبدأ المرحلة الثانية التي تُسمى بمرحلة التأويل، ذلك لأنه عندما ينتصر نبي في
المعركة، سرعان ما يغيّر الطغاة أدوارهم، فيلبسون ملابس الدين، ويقوون سلطانهم
بأحكام الدين وطقوس الدين، فيأخذون صدور المجالس ومراكز المعابد، ويعود الخطر،
ويبقى المعذَّبون في الأرض تحت الأعباء الجديدة التي اكتسبت لون القداسة من خلال
المؤسسات الدينيّة ورجال الدين أيضًا الذين يساعدون هؤلاء الطغاة، آلهة المال
والجاه والطغيان. المستضعفون يتألمون، وتستمرّ المأساة، ويعود الصراع بقيام نبيّ أو
وصيّ، وتُراق الدّماء، وتمتلئ السجون، وتسقط الضحايا، وهكذا...
والحسين الذي عاش الرسالة الإسلامية، وشاهد جهود محمد وعليّ وأصحاب محمد، شاهد
جهودهم في سبيل تحرير الإنسان من قيوده ودفعه الرائد نحو الكمال. الحسين عاصر تحطيم
الأصنام في الكعبة، وعاصر تحطيم الأصنام في المجتمع وسقوط الشاهنشاهية الفارسية
والقيصرية الرومانية والتمييزات الطبقية القريشية وتحرير الإنسان اليمنيّ والحبشيّ،
وعاصر ولادة المجتمع الجديد، مجتمع الأخوة الذي أسسه محمد على أسس العدل والكرامة
والإنسانية والقيم، الحسين الذي عاصر تلك المعارك، فشاهد النتائج وميَّز الصفوف،
فوجد أنصار الحقّ مقابل أنصار الباطل، يرجع البصر كرّة أخرى، فيرى أن كل شيء قد
تغيَّر، ويرى أن الذين كانوا يحاربون الحقّ في الأمس القريب ويستضعفون الناس
بأساليب طاغية، أصبحوا حماة الدين الجديد وأدعياء حماية هذا الدين، فيحكمون من خلال
المنابر والمساجد، فيقول متألمًا: "أصبح المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، ألا ترون
أن الحقّ لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه؟ لَيَرغب المؤمن في لقاء الله
محقًا؟!".
الحسين يشاهد أن على منبر الرّسول، ومن خلال مركز القيادة الجديدة، مركز تحسين
الإنسان وإنقاذ الإنسان، يتحكم ساسة الإرهاب والتجويع في العالم الإسلامي، عدا جيوش
الحاكم المرتزقة (راجعوا "شرح نهج البلاغة"- المجلد الثاني، والطبري- المجلد
السادس، و"الاستيعاب" وابن الأثير والمسعودي، لكي تشاهدوا العصابات التي كانت
تكلَّف من قبل الخليفة لكي تغير على أطراف العالم الإسلامي، عصابات السلب والقتل
وإبادة أرزاق الناس ومنع الناس عطاياهم وأجورهم ونهب بيت المال). وإلى جانب ذلك،
سيف المستضعفين، أي سيف محمد وصل إلى يد الطاغين من جديد، فيستضعفون بسيف محمد من
جديد، وهذا هو الخطر الدامي الأمرّ.
ثم يشاهد الحسين أنّ سياسة التفرقة بين القبائل، وتشتيت الأمّة والتفرقة بين الشعوب
وبين العناصر، تتحكم في المجتمع (لاحظوا كتاب "صفين" لنصر بن مزاحم، والطبري،
وتاريخ الإسلام السياسي، لكي تشاهدوا كيفية خلق الفتن بين اليمنيّ والقيسيّ وبين
فئات من اليمنيين وبين العراق والشام والحجاز والشام واليمامة واليمن وداخل القبائل
كيف كانت تمارس سياسة التفرقة). ثم يشاهد الحسين أيضًا تزوير الأحاديث، فهناك أناس
ممتهنون يأخذون رواتب لكي يُزوِّروا الأحاديث ونقل الروايات في فضل القبائل (راجعوا
شرح النهج أيضًا، وقد جمع ذلك أحمد أمين في كتاب "نهج الإسلام"، حتى أصبح في
الأحاديث مدرسة باسم مدرسة معاوية في الأحاديث).
ثم يشاهد الحسين أن المحنة، محنة المستضعفين أصحبت أكثر خطورة، لأنه تكونت
إيديولوجيات خطِرة لاستمرار المعذبين في تحمل الأعباء والصبر، فتكوَّنت فرقة
المرجئة (والمرجئة كما يقرُّها ابن حزم في "الفصل" تعتمد على هذه القاعدة: لا
تَضرُّ مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، فإذا كان الإنسان مؤمنًا
بقلبه، كفى ذلك مهما ارتكب من الظلم، فلا يضرّه شيء)، هذه الفلسفة تكوَّنت لخدمة
الطغاة الذين كانوا يتحكمون باسم الإسلام، كما أن الجبرية انتشرت في هذا الوقت
بالذات، وتركت الأمور للتقادير، وسلب الإنسان إرادته: إرهاب في الحياة الفكرية،
تهويل والأغلال تعمّمت.
وبالتالي، يشاهد الحسين نتيجة هذه الأمور في قتل الأبرياء وترحيل القبائل (وإن حصّة
لبنان من قضية ترحيل القبائل حصة وافرة، لأن كثيرًا من القبائل الذين انتقلوا
ورحلوا إلى لبنان كانوا من القبائل الشيعيّة في العراق)، ونفي الصحابة التابعين
وتسفيرهم نتيجة ذلك، يشاهد تحوّلًا عميقًا في مفاهيم الجيش. فالجيش كان جيشًا
رساليًّا فصار جيشًا مرتزقًا، وفي مفهوم بيت المال، كان للأمة فصار لمصلحة الطاغين،
وشاهد الفرق في الحكم في مفهوم الحكم الذي هو إعطاء حكم الله لا تنفيذ رغبة الناس.
والتغيير في الشعائر الدينية: المساجد المتواضعة... والصلاة البسيطة أصبحت ضخمة في
الشكل، يهتمّون بشكلها وأبنيتها كما يقول الرّسول: "مساجدهم عامرة بالبناء، خراب من
الهدى"؛ وتغيُّر في البيعة: فالبيعة التي كانت تعبِّر عن رضى النّاس، واختيار الناس
وتصويت الناس، أصبحت مفروضة تؤخذ مسبقًا وبالإغراء والتهديد.
يشاهد الحسين هذه القواعد وتلك النتائج في جانب الحاكم، ثم يشاهد من جهة أخرى أنّ
الأمّة تنظر كالنعاج إلى هذه الأوضاع دون اعتراض، وأن اليأس واللامسؤولية والخوف
والطمع هذه العوامل مسيطرة على الناس، وهو – الحسين - مسؤول عن سلامة تحرّك الناس،
هو المسؤول لأنّه الإمام؛ ولكنه لا يملك جيشًا ولا قوّة، فاختار أن يحوِّل نفسه إلى
سلاح في الميزان. فخرج مع أولاده وأهل بيته وأصحابه وعائلته، ويقف لكي تتحقق
المأساة بأفظع صورها، فتكشف خصومه وتعزلهم عن ادعائهم تمثيل المفاهيم الدينية،
وتؤكّد للناس أن هؤلاء الحكام ليسوا هم القدّيسين، ولكي تهزّ ضمائر الأمة من جهة
أخرى، وهكذا كان.
وكانت نتائج الأمر كما قدَّرها الحسين: اعتراض بعد اعتراض، وتمرّد وثورة. فحركة
التوابين جاءت بعد فترة وجيزة من مشهد الحسين وقتله كما يقول الطبري، ثم جاءت ثورة
المدينة، ثم ثورة المختار بن أبي عبيدة الثقفي في سنة 66 يعني بعد خمس سنوات،
فاشتعل العالم الإسلامي في كثير من أجزائه في حركات دموية قاسية، وجاء المطرف بن
مغيرة بن شعبة، فثار على الحجاج في سنة 77، وعبد الرحمن بن محمد الأشعث، فثار على
الحكم في سنة 81، وزيد بن علي بن الحسين في سنة 121، حتى انتهت إلى ثورة بني العباس
التي قلعت جذور بني أمية.
وهنا نشاهد أن جميع هذه الثورات كان شعارها "يا لثارات الحسين".
وملخص الكلام، أن الشهادة مسؤولية أصيلة في القادة وفي الإمام الذي هو سيد القادة
في المصطلح الأصلي الشرعي. فالمعركة يجب أن تُدرس كما هي مدروسة في الحلقات الإحدى
عشرة القادمة.
المعركة معركة رسالية، جزء من الكل، مرتبطة بالماضي، واصلة المستقبل إلى الماضي
طبيعية وناجحة. وهكذا نجد الترابط الواضح بين كلمة الإمام في مفهومه الأصيل وبين
كلمة الشهادة التي يعبِّر عنها عنوان محاضرتنا بعاشوراء، ونصل إلى أن الذين يريدون
أن يسلكوا هذا السبيل، عليهم الاستعداد لمثل هذه المسؤوليات وتحملها، وأن في ذلك
أضواء على الأبعاد التفصيلية الموضوعية التي سنشاهدها. واستمرار عاشوراء في
التاريخ، كما قلنا، لكي يبعد الموضوع عن كونه حدثًا تاريخيًا ننظر إليه كقصة في
التاريخ، بل إنه المتجدد مع كل سنة.
واختيار صورها أمر وطني، بشري فني. فقد عبَّر عن عاشوراء بتعابير مختلفة، فمن
معبِّر بالشعر أو بالنثر أو بالكلمة وبالاحتفالات أو بالمسرحيات أو بصور أخرى
متكاملة. فالغاية إبقاء اللّوحة في وجه الإنسان لمساعدته في صراعه مع الشرّ، ولكي
يتجسّد ويفهم ما يقوله النبي عن الحسين في كلمتين: الكلمة الأولى أنه يعبِّر عنه
بأنه مصباح الهدى، المصباح الذي ينير الطريق للهداية، ويقول ثانيًا: "حسين مني،
وأنا من حسين"، فالحسين منه أمر واضح لأنه ابنه، أما هو من الحسين، فهنا يأتي دور
عاشوراء الأصيل في التاريخ، لأن الإسلام الذي جاء لتحرير الإنسان أصبح من جديد
أغلالًا في أيدي الناس المستغلين، فوُلِدَ الإسلام في شكله الحقيقي المتحرّر
والمحرّر للمستضعفين في إطار القيادة على يد الحسين مرة أخرى. ولذلك، يقول النبي
أنا من حسين.
*محاضرة للإمام الصدر في مدرسة الآداب العليا، بتاريخ 26 نيسان 1974.