ذكرنا في ما سبق، أنّ نفخة الروح التي أعطت للطّين معنى، هي التي منحت الإنسان
القابليّة لتواصل الإنسان معه. وهذا الأمر ليس قضيّة هامشيّة في معنى وجودنا،
وإنّما هو نعمة كبرى، بل أكبر النّعم التي حبانا الله تعالى بها.
ما هو أعظمُ من أن يملك الإنسان القدرة على التواصل مع الله، وفي الاتّجاهيْن، حيث
يكلّم الله تعالى الإنسان من دون واسطة، كما بيّن الله ذلك في قصّة موسى (ع)، فيقول
الله: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً} ، {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي
اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} ، أو بواسطة من خلال
الوحي أو الرّسول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ
مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ
إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} . كما أنّ خطّ التواصل المقابل ممّا أذن الله لنا فيه: {وَقَالَ
رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي
فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي
وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} .
إذًا، خطّ التواصل مفتوحٌ بيننا وبين الله، وفي الاتّجاهيْن، المطلق الرّحمة
والقدرة واللّطف والعلم، والكّليّ الجلال والجمال.. ما أعظمَها من نعمةٍ! وما أجهَلَ
الإنسان عندما يقطعُ حبلَ التّواصل بينه وبين الله.
بالعودة إلى قصّة آدمَ (ع)، فإنَّ ما عمل عليه إبليسُ، هو أن يُخرجَ الإنسان من
جنّة التواصل والقرب من الله، كما خرجَ هو باستكباره: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا
فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} ، وذلك
بالتمرّد على نهي الله في تجنّب تلك الشّجرة. وهنا فتح الله لنا – بلطفه ورحمته –
وسيلة لإعادة الوصل بيننا وبين الله، وهي التّوبة: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ
كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} ، وهو الأمر الذي
يعمل عليه في الدُّنيا تجاه بني آدم، ولذلك قال الله تعالى لنا: {يَا بَنِي آدَمَ
لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ} .
وسائل التّواصل الإلهيّة:
أوّلًا: ذكر الله
تأكيدًا للنقطة السّالفة من عمل الشّيطان، يقول الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ
الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ} ، فالهدف الأساس
لتزيين الشيطان لنا بعض ما نأخذ به من الشّراب أو من اللّعب، هو أن يقطع التواصل
بيننا وبين الله؛ فلا نعودُ نذكرُهُ في حياتنا، وعندئذٍ، يتحوّل وجودُنا إلى وجود
تائه في غمرة حركة هذا الوجود الرّهيب، وقد عبّر القرآن الكريم عن هذه الحالة
بالنسيان: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ
أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
في الحقيقة، يمكن اعتبار هذه الآية إحدى القواعد التي تربط وعي وجودنا في الحياة
بذكر الله، حيث يشير ذكر الله إلى فاعليّة الرّوح واستيقاظها، وأنّ هناك تجانسًا
بين حركتها وحركة الجسد. والآية أيضًا تطلُّ بنا على معنًى عميق، وهو أنّ العلاقة
مع الله تعالى هي التي تظهّر معنى وجودنا، وكلّما كانت العلاقة بالله أشدّ وأقوى،
كان معنى وجودنا أوضح وآكد.
بالعودة إلى فكرة الذّكر والصّلاة، فإنّ السؤال هنا عن معناهما:
أمّا الذكر، فهو بأحد تجلّيين:
الأوّل: هو الذكر اللّساني، وهو جزءٌ من الطقوس المعروفة في الأديان، والأوراد التي
يأخذ بها المتديّنون، فيذكرون الله تسبيحًا أو تهليلًا أو تكبيرًا أو حمدًا.
الثّاني: الذكر القلبي، وهو حضور الله تعالى في الوجدان، حيث لا يقتصر نظر القلب في
احتكاكه بالحياة الدُّنيا بالمظهر السطحي للأشياء، وإنّما يحتكّ ببُعدِها الآياتيّ،
أي بكونها آية دالّة على الله تعالى، فتتحوَّل الحياة كلّها إلى لقاءات متنوّعة
بالله تعالى، في عظمته وقوّته وجبروته. وهذا الأمر هو ما حاول القرآن الكريم أن
يجذّره في وعينا، عندما كرَّر ربط كلّ مظهر من مظاهر الوجود بقدرة الله ولطفه
ورحمته، وتحدَّث مرارًا عن الآيات التي يجب أن نبصرها عندما نبصر، وأن نسمعها عندما
نسمع، وأن نتحسَّسها عندما نقارب المحسوسات.
من تلك الآيات – على سبيل المثال – قول الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ} ،
وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} ، {وَمِنْ
آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ} ، {وَمِنْ
آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ
وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ} ، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا
أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} ، {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} ، وما إلى
ذلك ممّا يجعل الإنسان يعيش مع الله مع كلّ إشراقة صباحٍ وقدوم المساء، ومع كلّ
هواء يهبُّ، وريح تعصف، وقمر يطلع، وظلٍّ يطلّ، ومع كلّ نباتٍ ينمو، وغير ذلك من
مظاهر الحياة والكون.
وقد عبّر الإمام عليّ (ع) في المأثور عنه عن هذه الحالة بقوله: "ما رأيت شيئاً إلا
ورأيت الله قبله وبعده ومعه" .
الثّالث: ما يمكن أن نطلق عليه "الذّكر السلوكي أو العملي"، حيث إنَّ حالة الذكر
القلبي يجب أن يكون لها مظهر خارجي، بحيث يتحوّل إلى حالة عمليّة في حركة الجسد، لا
حالة روحيّة يستشعرها القلب.. إنّ حالة الامتزاج للحالة الروحية بكلّ ذرّة من ذرّات
الجسد، وكلّ بُعد من أبعاده، هي التي تشكّل حالة الكمال في الإنسان، حيث يبقى
الوجود الروحي المجرّد عن الجسد ناقصًا.
بل قد نستطيع القول: إنّ الذكر بالمعنى الثاني إذا لم يتحوَّل إلى ذكرٍ بالمعنى
الثالث، أي الذكر العملي، قد لا يعدو أن يكون ذكرًا فكريًّا نظريًّا، حيث لا يتحوّل
– حقيقة – إلى ذكر روحيّ – بما للرّوح من معناها المندكّ في الجسد – إلا عبر
التجسّد في الحالة الثالثة، فهو العلامة والدّليل على وصول التفاعل مع البُعد
الآياتي للأشياء إلى تفاعل روحي حقيقي.
ولأجل ذلك، يجب دائمًا التفريق بين الإدراك النظري للأشياء وبين التفاعل الروحي
معها. والخلط بين هذين الأمرين، هو الذي يوقع النّاس في هذا الفصل الظاهر في مجالات
متعدّدة من حياة النّاس بين الفكرة والعمل. ولذلك، تجد الإنسان يتحدّث فصولًا عن
أهمّية الصّلاة أو العبادة، أو عن قناعته بوجود الله ولزوم الخشية منه، أو عن
التزامه بواجبٍ شرعيّ هنا أو هناك، في الوقت الذي لا ينعكس ذلك سلوكًا عمليًّا.
هنا أيضًا، نستطيع أن نحدّد فلسفة العبادة، حيث هي الرياضة التي تنقل الفكرة من
حالة العقل النظريّ المجرّد، والفكرة دائمًا نظرة من الإنسان تجاه شيء خارجٍ عنه،
إلى حالة من التفاعل الذاتي، حيث تمتزج الفكرة في كلّ ذرّة من ذرّات الإنسان، بما
يحوِّلها إلى حالة روحيّة تتجاوز الجسد إلى الإحساس بآفاقٍ لم يكن الجسد ليختبرها
إلا من خارجه، أي خيالًا. ولعلّنا نلمح هذا المعنى في قول الله تعالى: {قَالَتِ
الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا
يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} .
ومن هنا، لا معنى لما يتداول على ألسنة النّاس، عندما يُسألون عن سبب عدم التزامهم
بقضايا الدّين وتوجيهاته وأحكامه، فيجيبون بأنّ "الإيمان في القلب"، فإنّ الإنسان
لن يعلمَ بأنّ إيمانه بات في القلب، إلا عبر تمظهر الإيمان بالعمل والسلوك والحركة
الفعليّة.
بالعودة إلى بعض الأدبيّات الدالّة على أنّ الذكر الحقيقي هو بالمعنى الثّالث، فمنه
ما روي عن الإمام عليّ (عليه السلام):" لا تذكر الله سبحانه ساهياً، ولا تنسه لاهياً،
واذكره كاملاً، يوافق فيه قلبك لسانك، ويطابق إضمارك إعلانك" ، وكذلك ما رواه
الحسين البزاز: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): "ألا أحدّثك بأشدّ ما فرض الله
عزّ وجلّ على خلقه؟"، قلت: بلى، قال: "إنصاف الناس من نفسك، ومواساتك لأخيك، وذكر
الله في كلّ موطن؛ أما إني لا أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله،
والله أكبر، وإن كان هذا من ذاك، ولكن ذكر الله في كل موطن إذا هجمتَ على طاعته أو
معصيته" . وعن أبيه الإمام محمد الباقر (ع): "ثلاث من أشدّ ما عمل العباد: إنصاف
المؤمن من نفسه، ومواساة المرء أخاه، وذكر الله على كلّ حال، وهو أن يذكر الله عزّ
وجلّ عند المعصية يهمّ بها، فيحول ذكر الله بينه وبين تلك المعصية، وهو قول الله عزّ
وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ
تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}" .
ثانيًا: الصّلاة
في القرآن الكريم تشديد على مبدأ إقامة الصّلاة، وهي صفة ملازمة للإنسان المؤمن.
والصّلاة يمكن النظر إليها من عدّة زوايا:
أ- هي نوعٌ من الذّكر؛ لأنّ فيها استعادة واعية لموقع الإنسان من ربّه، ولرؤيته
لوجوده وحياته ومسؤوليّاته. وقد جعل الله في شريعته الصّلاة مقسّمةً على أوقات
اليوم؛ وذلك لأنّ الإنسان مفطور على الاستغراق فيما يتوجّه إليه، فإذا انغمس في
عمله وشؤونه في الحياة، والتي كلّها شؤون الجسد، فإنّ ذلك يلهيه عن ذكر الله، ولذلك
عبّر القرآن الكريم عن الحياة بأنّها {لَهْوٌ وَلَعِبٌ} . وعلى هذا، فالإنسان يبدأ
عمله بذكر الله في الصّلاة، وينهي يومَه بذلك، ويأوي إلى ذكر الله في محطّة في
منتصف اليوم. كلُّ ذلك ليبقى الإنسان ذاكرًا لله في صلاته.
ب- هي نوعٌ من الشّكر؛ استنادًا إلى أنّها تعبير عن معنى العبودية المساوي لمعنى
الفقر المطلق إلى الله، والذي يستجلب النعم منه، في الهداية والسّعادة والأمن
والعطاء. ولعلّ ما ورد عن رسول الله (ص)، أنّه كان يقومُ اللّيلَ كلَّه "حتى عوتب
في ذلك، فقال الله عزّ وجلّ: {طَهَ* مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}
، بل لتسعد به، ولقد كان يبكي حتى يُغشى عليه، فقيل له: يا رسول الله! أليس الله عزَّ
وجلَّ قد غفر لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخّر؟ قال: "بلى، أفلا أكونُ عبدًا شكورًا"
.
لكنَّ علينا أن نفرِّق بين الصَّلاة التي نقوم على تأديتها بشروطها الشرعيَّة
وأجزائها من الأفعال والأذكار، وبين الصَّلاة بمعناها التواصُلي، بحيث يعيش الإنسان
في تجربة روحيَّة من التواصُل مع الخالق عزَّ وجلَّ.
غالبًا، نحن نتعلّم تأدية الصَّلاة بالمعنى الشرعي الفقهي، ولكنَّ هذه الصَّلاة
تُسقط الواجب، إلّا أنّنا لا نتعلّم الشُّروط والآليّات التي تحقّق المعنى الحقيقيّ
للصَّلاة، وتحوّلها إلى ذكرٍ قلبيّ وجدانيّ، ما يلبثُ أن يشحنَنا بالطّاقة الروحيّة
التي تنعكس على المستوى الثالث من مستويات الذكر، وهو الذكر السلوكي العملي، فتكون
مصداقًا لقول الله عزّ وجلّ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ
الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}
هنا يتحقَّق بالصَّلاة القُرب الحقيقي من الله، فإنّه لا معنى للقرب إلا من خلال
تجلّي الله في قلوبنا ووجداننا، فنحسُّ بحضوره، ونستشعر عظمته وجميل نعمه، وينبض
القلبُ بحمده وشكره، ويرتفع كياننا بالدّعاء من خلال الإحساس بالفقر الذاتي أمامه،
وبالحاجة لعطائه، ونغوصُ في تجسيد معنى العبوديّة عندما نستغرقُ في سجودنا له.
الخشوع بابُ صلاة الذّاكرين
في الرواية، أنّ أحد أصحاب الإمام الحسين (ع)، وهو أبو ثمامة عمرو بن عبد الله
الصّائدي، التفت إلى الحسين (ع) بعد سقوط الكثير من الشهداء قائلًا: يا أبا عبد
الله! نفسي لك الفداء، إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، ولا والله! لا تقتل حتّى
أقتل دونَك إن شاء الله، وأحبُّ أن ألقى ربّي وقد صلّيتُ هذه الصَّلاة التي دنا
وقتُها. فرفع الحسين (ع) رأسه ثمّ قال: "ذكرتَ الصَّلاة، جعلك الله من المصلّين
الذّاكرين!"... الحديث .
وتشير الرواية إلى أنّ هناك نوعين من الصَّلاة: صلاة الذّاكرين وصلاة الغافلين. كان
في معسكر يزيد المصّلون، ولكنَّ صلاتهم كانت لفظًا على ألسنتهم، وحركاتٍ تقوم بها
أجسادهم، ولم يكن لها أثرٌ حقيقيّ في القلبِ، ولا انعكست على مواقفهم التي لم تكن
لتصبَّ إلا في مواجهة الباطل الذي عليه يزيد، والانجذاب إلى الحقّ الذي عليه الحسين
(ع).
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف تكون صلاتُنا صلاة الذّاكرين؟
كيف تتحوّل صلاتنا إلى فرصة روحية للاتصال بالله تعالى؟
كيف تنعكس صلاتُنا على سلامنا الداخلي في غمرة القلق والتوتّر الذي نكسبُهُ من
سعينا في جنبات الحياة اليومية؟
كيف تتحوّل صلاتنا إلى حالة من النهي عن الفحشاء والمنكر؟
كيف لنا أن لا نجني من صلاتنا قضاء الواجب فقط؟
آليّات الخشوع
1- الموعد مع مَن؟
قبل أن يدخلُ الإنسان في صلاتِهِ، لا بدَّ للإنسان من استشعار عظيم ما هو مقبلٌ
عليه، فالصَّلاة ليست مجرّد طقوسٍ عباديّة يؤدّيها الإنسان كواجبٍ ديني، أو أنّ
العائدَ منها مؤجَّلٌ إلى يوم القيامة، أو هو مقتصرٌ على تلبية الله الإنسانَ في
بعض حاجاته الدنيويّة، بمعنى أنَّ الإنسان يؤدي الطقس العبادي ويحصل على نتيجته في
مجالٍ آخر.
إنّ الصَّلاة حقلٌ تفاعليّ، بحيث يعيش الإنسان حقيقة التواصل مع الله سبحانه وتعالى،
ويعيش أيضًا تواصلَ الله معه، عبر السكينة التي يمنحه إيَّاها، واللّطف الذي يحبوه
به، والهداية التي يشمله بها.. وهذا ما يشير إليه الحديث المروي عن رسول الله (ص):
"ما من مؤمن يقوم إلى الصلاة، إلا تناثر عليه البرّ ما بينه وبين العرش، ووكل به
ملك ينادي: يابن آدم، لو تعلم ما لك في صلاتك ومن تناجي ما سئمتَ وما التفتَّ" ،
وفي الحديث: "مادمت في الصَّلاة، فإنّك تقرع باب الملك الجبّار" ، وعن الإمام عليّ
(ع): "لو يعلم المصلّي ما يغشاه من جلال الله، ما سرّه أن يرفع رأسه من سجوده" ،
وعن الباقر (ع): "إذا استقبل المصلّي القبلة، استقبل الرّحمن بوجهه لا إله غيره" .
ويُروى أنّ الحسن المجتبى (ع) كان "إذا فرغ من وضوئه يتغيَّر لونه، فقيل له في ذلك،
فقال: حقٌّ على من أراد أن يدخل على ذي العرش أن يتغيّر لونه" ، وغير ذلك ممّا
يُطلبُ فيه أن يكون الإنسان عل درجة من معرفة موقعه من ربّه، وعلى درجة من الإحساس
بعظمة الله تعالى، فكلّما زاد شعور الإنسان وجدانيًا بحضور الله في جلاله وعظمته،
ازداد شعورُهُ بأهمّيّة ما يقبلُ عليه في صلاتِه.
2- معرفة معاني الصّلاة:
الصّلاة عبارة عن أقوالٍ وأفعالٍ، ولكلٍّ مفردة من مفرداتها معنًى ودلالة، ولا يمكن
لنا الحديث عن خشوعٍ من دون معرفة تلك المعاني والدّلالات. بعض النّاس يكتفون بهذه
المعرفة، ثمّ يقولون بأنّنا لا نشعر بالخشوع، والواقع أنَّ هذه المعرفة تمثّل
القاعدة التي سيُبنى عليها الخشوع. هي روحُ الخشوع، ولكنَّها ليست هو؛ لأنّ الخشوع
عبارة عن مجموعة من العناصر التي ينبغي بناؤها على هذه القاعدة.
طبعًا هناك مستويات في المعنى، وكلُّ إنسان يحتكُّ بمستوى منه تبعًا لثقافته
وخبراته الحياتية ومقارباته فيها.
3- الربط العاطفي الوجداني:
لا تكفي معرفة المعاني فقط، بل يحتاج الخشوع إلى ربط المعنى للقول والفعل بالحسّ
والانفعال الوجداني، وهذا الرّبط يتمّ من خلال تفكّر الإنسان – على سبيل المثال –
بطبيعة النّعمة التي تشتمل على وجدانه في هذه الفترة الزمنية، ومن ثمّ يستذكرها
عندما يقول مثلًا: (الحمد لله ربّ العالَمين) في سورة الفاتحة، وعن طريق التكرار،
يصبحُ هذا القول مثيرًا لمعنى الحمد (المدح والشّكر)، ومثيرًا لإحساس جميلٍ ترتاح
إليه النّفس نتيجة تفاعلها مع النّعمة ومع مَن أنعم بها عليها. وهكذا عندما نقوم
بالتفكّر والربط مع الإحساس بمعنى قول (الله أكبر) وجدانيًا، أو (مالك يوم الدّين).
طبعًا، هذا يتطلّب أن يكون هناك جهدٌ آخر خارج الصَّلاة، وذلك عبر التفكّر في عظمة
الله وآياته، وعبر تلاوة القرآن الكريم فيما خصّ – مثلًا – مشاهد يوم القيامة، وكيف
هو حال الإنسان في هذا اليوم، وما هي المشاعر التي يختزنها في نفسه عندما يقاربُ
فكرة أنَّ ذلك اليوم هو اليوم الذي يواجه فيه مصيره الأبدي، وما إلى ذلك.
هذا الأمر كلّه يمثّل حركةً في زيادة منسوب الوعي لكلّ جملة ومفردة من الصّلاة،
ليصل الإنسان إلى مستوًى تتحوَّل فيه الصّلاة، من أوّلها إلى آخرها، إلى رحلة بين
الأفكار والمشاعر والأحاسيس المرتبطة بالله تعالى وصفاته وتجلّياته وإرادته في
الحياة الدنيا والآخرة.
قد تسأل: هذا الأمر ألا يشتّت وعي المصلّي؟ بمعنى أنّ طوافه حول كلّ تلك المعاني
والدلالات، يخلّ بتركيزه على أفعال الصّلاة وأقوالها، كما أنّ ذلك يحتاج إلى وقتٍ
طويل، وهو ما يُدخلُ الصَّلاة في الكثير المتطلّبات التي تحوّلها إلى عبء على
الإنسان، في الوقت الذي يجب أن تتحرّك بانسيابيّة بين التزامات الحياة اليومية؟
والجواب أنَّ هذا إنّما يتمّ بالتدريج، وعمليّة الربط تتمّ أيضًا بطريقة غير مباشرة،
كما أشرنا في مسألة التلاوة للقرآن الكريم، وعند مستوًى معيَّن، تتحوَّل تلك
المشاعر إلى مجال اللاوعي، بحيث ينفتح الملفّ الذهني الذي يحوي تلك المعاني
والمشاعر تلقائيًّا بمجرّد القول أو الفعل.
4- التّركيز:
بحيث "يقبل العبد بقلبه كلّه على ربّه" في الصّلاة، وهذا الأمر يتطلّب نوعًا من
التدريب على التركيز على أمرٍ معيّن تتوجّه إليه النّفس؛ لأنّ طبيعة حركة الدّماغ
البشري متذبذبة، وتتحرَّك عادةً عبر المثيرات الداخليّة والخارجيّة، بما يشتّت ذهن
الإنسان وتركيزه باستمرار. وممّا يساعد على ذلك ربّما:
أ- العزل الحسّي: حيث ورد في بعض الأحاديث، أنّ الخشوع هو "غضّ البصر في الصّلاة"،
وكذلك السمع وغيره من الحواسّ، بمعنى عدم الانشغال بنفسه وما حوله، وورد في بعض
التوجيهات، أن لا يصلّي الإنسان وأمامه كتابٌ مفتوح، أو أمام النافذة، أو غير ذلك.
نسطيع في هذه الأيام أن نشير إلى ضرورة إغلاق التلفاز والهاتف المحمول ونحو ذلك من
الملهيات التي أصبحت تتحرّك مع الإنسان على مدار الثانية. وعن عليّ (ع) أنّه قال: "لا
يعبث الرجل في صلاته بلحيته ولا بما يشغله عن صلاته" .
ب- العزل القلبي: بمعنى أن نقوم بإنهاء الملفّات التي تشغلنا عادةً في حياتنا،
سواء في عملنا المعيشي أو علاقاتنا، وأن نعتاد أن لا نمدّ التفكير في تلك الأمور
إلى مديات أخرى. يُساعدُ في الأمر أن نجعل لها وقتًا محدّدًا، فلا نشغل أنفسنا فيها
خارج ذلك الوقت. ربّما نحتاج أيضًا إلى أن نقوم بعمليّة تطهيرٍ لنفوسنا من الملفّات
السلبيّة، كالبغضاء والأحقاد والنوايا الخبيثة ضدّ الآخرين؛ فإنّ كلّ ذلك يعدّ من
مثقلات النفس التي تنغلق فيها دائرة التواصل مع الله، وبالتالي، يصعب معها الخشوع.
قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ
لَكُمْ} ، حيث مغفرة الله المستتبعة للغفران والصّفح عن النّاس هي مجلبة للنعم
الإلهيّة، والتي منها أن يمدّ الله عبده باللطف والصّلة.
أخيرًا، إنّ أخطر مهمّة اضطلع بها الشيطان، هي أن يمنع الإنسان من التواصل مع الله،
وذلك بأن يهيّئ له الأسباب والأجواء المادّية والمعنوية التي تعيق ذلك، وكلّما عانى
الإنسان من نقصٍ في عناصر إيمانه وشخصيّته، كان الشيطان عليه أقدر، وكلّما أحاط
الإنسان نفسه بالقدر الكافي من عناصر القوّة، حتّى بمثل صلاة الجماعة التي تعطي
الإنسان طاقة مضاعفة، كان الشيطان أضعف على تخريب قناة الاتّصال مع الله عزّ وجلّ.
أكبرُ نعمة في الوجود هي أنّ الله أذن لنا بالصَّلاة، وقال لنا إنّه أقربُ إلينا من
حبل الوريد، وإنّه قريبٌ يجيب دعواتنا، ويسمع همساتنا، ويسمع السرّ وما هو أخفى من
ذلك، فما بال الذين يقرّرون في لحظةٍ أن يتركوا هذه الصّلة والصّلاة نهائيًّا!؟
*كلمة ألقاها سماحته في مجلس عاشورائيّ في مدينة سيدني – أستراليا، 1441هـ.