إنّ النصارى يؤمنون بالتثليث والوحدانية في آن واحد، لأنهم يقولون: «باسم الأب
والابن والروح القدس إلهاً واحداً»، فكيف يمكن الجمع بين الوحدانية والتثليث، كيف
يكون الواحد ثلاثة، والثلاثة واحداً؟
وأجاب المسيحيون أنفسهم عن ذلك بأنّ العقيدة فوق العقل، وهم يربون صغارهم على ذلك،
ويقولون لهم: إذا لم تفهموا هذه الحقيقة الآن، فإنّكم سوف تفهمونها يوم القيامة .
وبهذه المناسبة، نشير إلى أن الأشاعرة من المسلمين قالوا: إن الله قد أراد الكفر به
من العبد، ومع ذلك يعاقبه عليه. فإذا كان قول النصارى: الثلاثة واحد غير معقول، فإن
قول الأشاعرة: الله يفعل الشّيء ثم يعاقب عبده عليه غير معقول أيضًا .
أما المسلمون، فيؤمنون ايماناً جازماً بأنّ كلّ ما يقرّه العقل يقرّه الدين، وما
يرفضه العقل يرفضه الدّين، ويروون عن نبيّهم أنه قال: أصل ديني العقل.
وإنّ رجلاً سأله عن معنى البرّ والإثم، فقال له: "استفت قلبك، البرّ ما اطمأنت إليه
النفس، واطمأنّ إليه القلب، والإثم ما حاك في النّفس، وتردّد في الصّدر، وإن أفتاك
النّاس وأفتوك ."
{قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ
ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعً}[المائدة: 17]. هذه الآية
من أقوى الرّدود على المسيحيّين، وأصدق الأدلة على عدم ألوهيّة المسيح، لأن الله
سبحانه إذا ملك القدرة على هلاك المسيح، فلا يكون المسيح، والحال هذه، إلهاً، وإن
لم يملك الله القدرة على هلاكه، فلا يكون الله إلهاً، والمفروض أنه إله، فيكون
قادراً على هلاك المسيح .
وربّ قائل يقول: إن هذه الآية لا تصلح ردّاً على النصارى، فضلاً عن أنها من أصدق
الأدلة، لأنها دعوى مجرّدة عن الدليل، فللنصارى أن يقولوا: إن الله لا يقدر على
هلاك المسيح، ولا المسيح يقدر على هلاك الله، لأنّ كلاً منهما إله؟.
الجواب: إن المسيحيين متفقون قولاً واحداً على أن اليهود قد صلبوا المسيح وآذوه
وأماتوه وقبروه تحت الأرض، وعلى ذلك نصّت أناجيلهم، منها ما جاء في إنجيل متّى
إصحاح 27 رقم 50: «وصرخ أيضاً يسوع بصوت عظيم وأسلم الرّوح». وما جاء في إنجيل لوقا
إصحاح 23 رقم 46: «ونادى يسوع بصوت عظيم قائلاً: يا أبت في يدك أستودع روحي، ولما
قال هذا أسلم الروح». وما جاء في إنجيل يوحنّا إصحاح 19 رقم 33 و 34: «وأما اليسوع،
فلما انتهوا إليه ورأوه قد مات، لم يكسروا ساقيه، ولكنّ واحداً من الجند فتح جنبه
بحربة، فخرج للوقت دم وماء»، أي خرج من جنب المسيح بعد موته. وإذا كان اليهود قد
أهلكوا المسيح، فبالأولى أن يقدر الله على هلاكه وهلاك أمّه .
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله
وَأَحِبَّاؤُهُ}[المائدة: 18]. إن قولهم هذا تماماً كقولهم الذي حكاه الله عنهم في
الآية 111 من سورة البقرة: {وقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ
هُوداً أَوْ نَصارى}. وتجدر الإشارة إلى عقيدة الإسلام التي تقول: لا فضل لإنسان
على إنسان إلا بالتقوى، وإن النطق بكلمة الإسلام من حيث هو، ليس بشيء إلا مع العمل
الصالح .
{قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ}. وتسأل: إن هذا لا يصلح جواباً لليهود
والنصارى عن زعمهم بأنهم أبناء الله وأحبّاؤه، لأنّ لهم أن يقولوا: إن الله لا
يعذّبنا في الآخرة، وإذا لم يكن لديهم دليل محسوس على عدم عذابهم في الآخرة، فلا
دليل محسوس أيضاً على عذابهم في ذلك اليوم؟ .
الجواب: إن المراد بالعذاب ما يعمّ عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، والله سبحانه قد عذّب
اليهود في الدنيا على يد الفراعنة وبختنصر والرّومان وغيرهم .
أما عذاب النصارى فهو أدهى وأمرّ، لأنه في الدنيا كان بمحاربة بعضهم بعضاً، وتنكيل
بعضهم ببعض. وبديهة أنّ الأب لا يعذّب أبناءه، والمحبّ لا يعذّب أحبّاءه .
أمّا الدليل على عذابهم في الآخرة، فقد أشار إليه سبحانه بقوله: {بَلْ أَنْتُمْ
بَشَرٌ} لا تمتازون عن غيركم في شيء.. "كلّ الناس من آدم، وآدم من تراب"، كما قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله). {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ}، ممن يراه أهلاً لمغفرته
{ويُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ}، ممن يراه مستحقّاً لعذابه، وليس لأحد أن يفرض عليه
الغفران، أو يمنعه من العذاب .
{وللهِ مُلْكُ السَّماواتِ والأَرْضِ وما بَيْنَهُم}، لأنّه خالق الكون، ومن كان
كذلك فهو غنيّ عن الأبناء والأحباء، {وإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}. وهناك يعلم اليهود
والنصارى أنهم أبغض عباد الله لله، وأكثرهم عذاباً على افترائهم الكذب بأنهم أبناء
الله وأحبّاؤه .
{يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ
الرُّسُلِ}، أي بعد انقطاع الوحي أمداً من الزمن، واحتياج النّاس إلى الأنبياء
والمرشدين، قال الإمام عليّ (عليه السلام): «بعثه والناس ضلَّال في حيرة، وخابطون
في فتنة، قد استهوتهم الأهواء، واستزلتهم الكبرياء، واستخفتهم الجاهلية الجهلاء،
حيارى من زلزال في الأمر، وبلاء من الجهل، فبالغ (ص) في النصيحة، ومضى على الطريقة،
ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة» .
{أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ ولا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ
ونَذِيرٌ}، ولم يترك الله لكم حجّة ولا معذرة، وهذه الآية بمعنى الآية 165 من سورة
النّساء :{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى
الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ومرّ تفسيرها.
{والله عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. يقدر على نصرة محمّد (ص)، وإعلاء كلمة الإسلام،
وإن جحده اليهود والنصارى.
*من كتاب "تفسير الكاشف"، ج3.