لا شكّ أن النبي (ص) لم يخترع لنفسه طريقة خاصّة لإفهام مقاصده، وأنّه كلّم قومه بما ألفوه من طرائق التفهيم والتكلم، وأنه أتى بالقرآن ليفهموا معانيه، وليتدبروا آياته فيأتمروا بأوامره، ويزدجروا بزواجره، وقد تكرر في الآيات الكريمة ما يدلّ على ذلك، كقوله تعالى:
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَ}، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
وقوله تعالى: {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}، وقوله تعالى: {هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ}، وقوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}.
وقوله تعالى :{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرً}.
إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على وجوب العمل بما في القرآن، ولزوم الأخذ بما يفهم من ظواهره.
ومما يدلّ على حجية ظواهر الكتاب وفهم العرب لمعانيه:
1 ـ أن القرآن نزل حجة على الرسالة، وأن النبي (ص) قد تحدى البشر على أن يأتوا ولو بسورة من مثله، ومعنى هذا: أنّ العرب كانت تفهم معاني القرآن من ظواهره، ولو كان القرآن من قبيل الألغاز، لم تصح مطالبتهم بمعارضته، ولم يثبت لهم إعجازه، لأنهم ليسوا ممن يستطيعون فهمه، وهذا ينافي الغرض من إنزال القرآن ودعوة البشر إلى الإيمان به.
2 ـ الروايات المتظافرة الآمرة بالتمسك بالثقلين الذين تركهما النبيّ في المسلمين، فإن من البيّن أنّ معنى التمسك بالكتاب هو الأخذ به، والعمل بما يشتمل عليه، ولا معنى له سوى ذلك.
3 ـ الروايات المتواترة التي أمرت بعرض الأخبار على الكتاب، وأنّ ما خالف الكتاب منها يضرب على الجدار، أو أنه باطل، أو أنه زخرف، أو أنه منهيّ عن قبوله، أو أن الأئمّة لم تقله، وهذه الروايات صريحة في حجية ظواهر الكتاب، أنه مما تفهمه عامّة أهل اللّسان العارفين بالفصيح من لغة العرب.
ومن هذا القبيل، الروايات التي أمرت بعرض الشروط على كتاب الله ورد ما خالفه منها.
4 ـ استدلالات الأئمّة (ع) على جملة من الأحكام الشرعيّة وغيرها بالآيات القرآنيّة.
منها: قول الصادق (ع) حينما سأله زرارة: من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس؟ "لمكان الباء".
ومنها: قوله في نهي الدوانيقي عن قبول خبر النمام: إنه فاسق، وقد قال الله تعالى :{إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُو}.
ومنها: قوله لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء اعتذاراً بأنه لم يكن شيئاً أتاه برجله، أما سمعت قول الله عزّ وجلّ:
{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُول}. ومنها: قوله لابنه إسماعيل: "فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم"، مستدلاً بقول الله عزّ وجلّ: {يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}.
ومنها: قوله في تحليل نكاح العبد للمطلقة ثلاثاً: إنه زوج، قال الله عزَّ وجلَّ: {حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}.
ومنها: قوله في أنّ المطلقة ثلاثاً لا تحلّ بالعقد المنقطع، إنّ الله تعالى قال: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَ}، ولا طلاق في المتعة.
ومنها: قوله فيمن عثر فوقع ظفره، فجعل على إصبعه مرارة: إن هذا وشبهه يعرف من كتاب الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. ثم قال امسح عليه.
ومنها: استدلاله على حلية بعض النساء بقوله تعالى :{وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ}.
ومنها: استدلاله على عدم جواز نكاح العبد بقوله تعالى: {عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ}. ومنها: استدلاله على حليّة بعض الحيوانات بقوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}.
وغير ذلك من استدلالاتهم (ع) بالقرآن في موارد كثيرة، وهي متفرّقة في أبواب الفقه وغيرها.
أدلّة إسقاط حجية ظواهر الكتاب: وقد خالف جماعة من المحدّثين، فأنكروا حجيّة ظواهر الكتاب، ومنعوا عن العمل به. واستدلّوا على ذلك بأمور:
1 ـ اختصاص فهم القرآن :
إنّ فهم القرآن مختصّ بمن خوطب به، وقد استندوا في هذه الدّعوى إلى عدة روايات واردة في هذا الموضوع، كمرسلة شعيب بن أنس، عن أبي عبد الله، أنه قال لأبي حنيفة: "أنت فقيه أهل العراق؟ قال: نعم. قال: فبأيّ شيء تفتيهم؟ قال: بكتاب الله وسنّة نبيّه. قال: يا أبا حنيفة، تعرف كتاب الله حقّ معرفته، وتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: نعم.
قال: يا أبا حنيفة، لقد ادّعيت علماً ـ ويلك ـ ما جعل الله ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم، ويلك ما هو إلا عند الخاص من ذرية نبينا، وما ورثك الله تعالى من كتابه حرفا ".
وفي رواية زيد الشحام، قال: "دخل قتادة على أبي جعفر فقال له: أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال: هكذا يزعمون. فقال: بلغني أنك تفسر القرآن. قال: نعم. إلى أن قال: يا قتادة، إن كنت قد فسّرت القرآن من تلقاء نفسك، فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قد فسّرته من الرجال، فقد هلكت وأهلكت. يا قتادة، ويحك، إنما يعرف القرآن من خوطب به".
والجواب :
إنّ المراد من هذه الروايات وأمثالها، أن فهم القرآن حق فهمه، ومعرفة ظاهره وباطنه، وناسخه ومنسوخه، مختص بمن خوطب به. والرواية الأولى صريحة في ذلك، فقد كان السؤال فيها عن معرفة كتاب الله حق معرفته، وتمييز الناسخ من المنسوخ، وكان توبيخ الإمام لأبي حنيفة على دعوى معرفة ذلك.
وأما الرواية الثانية، فقد تضمنت لفظ التفسير، وهو بمعنى كشف القناع، فلا يشمل الأخذ بظاهر اللفظ، لأنه غير مستور ليكشف عنه القناع، ويدلّ على ذلك أيضاً ما تقدّم من الروايات الصريحة في أنّ فهم الكتاب لا يختص بالمعصومين. ويدل على ذلك أيضاً قوله في المرسلة: وما ورثك الله من كتابه حرفاً، فإن معنى ذلك أنّ الله قد خصّ أوصياء نبيّه بإرث الكتاب، وهو معنى قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَ}.
فهم المخصوصون بعلم القرآن على واقعه وحقيقته، وليس لغيرهم في ذلك نصيب. هذا هو معنى المرسلة، وإلا فكيف يعقل أن أبا حنيفة لا يعرف شيئاً من كتاب الله، حتى مثل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.
وأمثال هذه الآية مما يكون صريحاً في معناه، والأخبار الدالة على الاختصاص المتقدم كثيرة جداً، وقد تقدّم بعضها.
2 ـ النهي عن التفسير بالرأي:
إنّ الأخذ بظاهر اللفظ من التفسير بالرأي، وقد نهى عنه في روايات متواترة بين الفريقين.
والجواب: إنّ التفسير هو كشف القناع كما قلنا، فلا يكون منه حمل اللّفظ على ظاهره، لأنه ليس بمستور حتى يكشف، ولو فرضنا أنه تفسير فليس تفسيراً بالرأي، لتشمله الروايات الناهية المتواترة، وإنما هو تفسير بما تفهمه العرف من اللفظ، فإن الذي يترجم خطبة من خطب نهج البلاغة ـ مثلاً ـ بحسب ما يفهمه العرف من ألفاظها، وبحسب ما تدل القرائن المتصلة والمنفصلة، لا يعدّ عمله هذا من التفسير بالرأي، وقد أشار إلى ذلك الإمام الصّادق بقوله: "إنما هلك الناس في المتشابه لأنهم لم يقفوا على معناه، ولم يعرفوا حقيقته، فوضعوا له تأويلاً من عند أنفسهم بآرائهم، واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء فيعرفونهم".
ويحتمل أن معنى التفسير بالرأي الاستقلال في الفتوى من غير مراجعة الأئمة (ع)، مع أنهم قرناء الكتاب في وجوب التمسك، ولزوم الانتهاء إليهم، فإذا عمل الإنسان بالعموم أو الإطلاق الوارد في الكتاب، ولم يأخذ التخصيص أو التقييد الوارد عن الأئمة (ع)، كان هذا من التفسير بالرأي. وعلى الجملة، حمل اللفظ على ظاهره بعد الفحص عن القرائن المتصلة والمنفصلة من الكتاب والسنّة، أو الدليل العقليّ، لا يعدّ من التفسير بالرأي، بل ولا من التفسير نفسه، وقد تقدَّم بيانه، على أن الروايات المتقدمة دلت على الرجوع إلى الكتاب، والعمل بما فيه.
ومن البيّن أن المراد من ذلك الرجوع إلى ظواهره، وحينئذٍ، فلا بد وأن يراد من التفسير بالرأي غير العمل بالظواهر جمعاً بين الأدلّة...
ونتيجة ما تقدم، أنه لا بد من العمل بظواهر القرآن، وأنه الأساس للشريعة، وأن السنة المحكية لا يعمل بها إذا كانت مخالفة له.
*من كتاب " البيان في تفسير القرآن ".