يتحتَّم على الإنسان ـ مؤلّفاً كان أو ناشراً ـ أن يفكر في الأجيال الصاعدة التي تقرأ كتابه، ليعي الآثار السيئة أو الحسنة التي قد يثيرها في نفوسهم وأعمالهم وواقعهم بشكل عام، فإذا كان واثقاً من نفسه، أمكنه أن يكتب أو ينشر مطمئناً إلى سلامة عمله وصدق تفكيره.. وإن لم يكن واثقاً من صحته، أو لم يكن مطمئناً إلى سلامة النتائج العمليّة، فليحاول أن يستريح طويلاً ليجنِّب أمّته عناء المشاكل والآثار السيّئة التي قد يثيرها كتابه.
أمّا إذا لم يشأ الاعتراف بالواقع نتيجة غرور أو جهل بسيط أو مركّب، أو لم يكن ممن يعي العبء الثّقيل الملقى على عاتقه أو المهمّة الخطرة التي يضطلع بها، فقد يجب على الأمّة من خلال مؤسّساتها العامّة والخاصّة أن تفكّر في ممارسة الضّغوط المختلفة التي تستطيع من خلالها أن تمنع كلاً منهما من السّير في هذا الطريق الشّائك الوعر، حفاظاً على ثقافة الأمَّة وتفكيرها من التسيّب والضياع.
إنَّنا لانزال نركز على هذه الناحية، لأنَّنا لانزال نعيش في مآسي جيلنا الحاضر التي شارك فيها مرتزقة التأليف والنشر في شتى المجالات.
ففي المجال الدّيني أو المذهبي، أصبحنا نشاهد كثيراً من الكتب التي تجمع الغثّ والسمين، والصحيح والفاسد، والحقّ والباطل، من أجل إرضاء الغرائز الدينيّة والمذهبيّة في المدح والقدح والتحليل والتحريم، من خلال أسماء تاريخيّة عرف أصحابها بالكذب والغلوّ بشهادة علماء الحديث، أو من خلال أسماء معاصرة لم تعرف بالعلم والتحقيق، بل عرفت بالجهل الكبير بالمادّة التي تكتب بها وتؤلّف، وإن كانت تملك أسماء كبيرة في مجالات أخرى من العبادة والزّهادة وغيرها مما يمنح الإنسان مركزاً اجتماعياً دينياً يبرّر فيه لنفسه وللنّاس أن يقبلوا منه كلّ شيء على أساس مقدّس ساذج.
وقد استطاعت هذه الفوضى في التأليف وفي النّشر أن تربك الأجيال الطالعة التي لا تملك الاختصاص في الثقافة الإسلاميّة، وأن تضعها في موقع الحيرة بين ما تأخذه وما ترفضه، وتجعلها تواجه الازدواجيّة بين أفكار التخلّف وأفكار التقدّم في ما تقرؤه في هذا الكتاب أو في ذاك، ما جعل القضيّة تتحوّل إلى عقدة تهيّئ للرّفض المطلق للفكرة من الأساس لدى الكثيرين من هؤلاء.
وفي المجال الاجتماعي، نجد أمامنا الكتب التي تخاطب غرائز الشّباب، وتتاجر بعواطفهم، وتضلّل وجدانهم، وتبدّد طاقاتهم وملكاتهم هدراً، وتسيّرهم في دروب غير الدّروب التي تريدها لهم أمّتهم من أجل مجدها وعزّتها وتقدّمها، حتى نشأ لدينا جيل يفتح عينيه من خلال الكتب البوليسيّة على قصص الجريمة، التي تغذّي نزعة الإجرام في نفوس الشّباب، وتوحي لهم بالبطولات الجوفاء؛ ونجد إلى جانب ذلك، الكتب الجنسية التي تتلوّن كلّ يوم بلون جديد وأسلوب جديد، قد لا يدهشك منه إلاَّ محاولة الظهور بأنَّه يهدف إلى الخير والصّلاح والإصلاح، لأنَّه يعرض مآسي الجنس بواقعيتها وصراحتها، ليجنّب الشباب خطر الوقوع في نظائرها عندما يصوّر لهم وقائعها بشكل أخّاذ مثير!
ولا يمنعك من تصديق هذا الأسلوب إلاَّ أنَّك تلاحظ أنَّ المواقف الجنسيّة تفتعل افتعالاً في بعض هذه القصص، بشكل يُشعرك بأنَّ الهدف هو الإثارة فحسب، وذلك عندما لا تكون القصّة بحاجة إلى مثل هذه الحادثة، كما قد تلاحظ انتشار الصّور المثيرة في الكتاب بشكل يُلفت النظر ويثير التقزّز.
وقد بلغ من تأثيرها في عقليّة الجيل، أنَّنا رأينا الإقبال على شراء الكتب العلميّة والإسلاميّة، أو المجلات والصحف المتّزنة، لا يصل إلى مستوى الإقبال على شراء الكتب الجنسيّة والبوليسيّة في أغلب البلدان، ما دفع بالقائمين على بعض الكتب والمجلات العلميّة إلى إصدار الغلاف بصور مثيرة، أو اتّباع الأساليب التي تعرض المادة العلميّة بطريقة لا تخلو من عوامل الإثارة في بعض الأحيان، لضمان رواج المجلّة والكتاب، لأنَّ الصورة قد تدفع الكثيرين إلى الشّراء، أملاً في العثور على قصّة أو رواية تنسجم مع الصّورة.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تعدّاه إلى الإعلان؛ فقد عاد من المألوف جدّاً أن تقرأ إعلاناً عن الحبوب المهدّئة أو المقوّية أو بعض المرطّبات، وإلى جانبه صورة لفتاة جالسة في وضع مثير، من دون أن تدرك سبباً لذلك، إلا طبيعة الإثارة المألوفة لدى الجمهور التي تدفعه إلى متابعة كلّ ما هو مثير.
ولو أردنا استقصاء الجوانب التي شاركت في عمليّة التضليل، من خلال الكتب التي ألّفها المؤلفون ونشرها النّاشرون، فأساؤوا فيها إلى أمّتهم ودينهم، لطال بنا المقام.
تجارة لا مسؤولة
وخلاصة القول: إنَّنا نشاهد أكداساً من الكتب والمجلات التي تلفظها المطابع كلّ يوم، فتتلاقفها أيدي الجماهير من أبناء أمّتنا ـ على اختلاف ألوانهم ومستوياتهم الفكرية ـ ثُمَّ نلمح الأثر بعد ذلك في واقع حياتنا؛ فإذا هو فوضى في التفكير وفي الأخلاق وفي الثقافة، فنلمح التزمّت إلى حدّ الشّلل، إلى جانب التحرّر إلى حدّ الميوعة، ونجد الإيمان إلى جانب الإلحاد، والخلق الخير إلى جانب التحلل.
وهكذا دواليك، من دون أن يكون لدينا ما يفصل بين هذين الاتجاهين، فيجنّب الأمّة المصير المفزع الذي ينتظرها على أساسه. وقد ساعد هذا الجوّ في خلق جيل مضطرب قلق، تتنازعه الاتجاهات المختلفة والميول المتنوّعة من كلّ جانب، دون أن يعي ـ بوضوح ـ السبُل التي تصل به إلى شاطئ النجاة.
ولعلّ بعض السبب في ذلك يرجع إلى أنَّ الكتاب قد أصبح لدى الكثير من المؤلفين والناشرين سلعة كبقيّة السلع، خاضعة لقانون العرض والطلب، فالمهمّ لديهم أن يروج وينتشر، مهما كانت دوافع هذا الرواج والانتشار، ومهما كانت مؤثّراته، ومهما كانت السطحيّة والضحالة المتمثّلة فيه، ومدى تأثير ذلك في المستوى المنخفض للجماهير؛ إنَّ ذلك غير مهمّ لديهم مادام هناك ربح كثير، ومال وفير يغدقه الكتاب عليهم.. وهذا أمر بالغ الخطورة، لأنَّه يدلّل على انعدام المسؤوليّة لديهم تجاه واقع الأمّة حاضراً ومستقبلاً. ومعنى ذلك، أنَّ ثقافتنا وتاريخنا وعقائدنا أصبحت تحت رحمة فئة لا تشعر بمسؤوليّتها التاريخيّة والدينيّة تجاه ثقافة الأمّة وعقائدها وتاريخها، وذلك نذير بأنَّنا بدأنا ننحدر في منزلق خطر لا نأمن فيه على مستقبلنا من جميع نواحيه من أن ينهار ويصبح عرضة للتسيّب والضّياع.
إنَّنا نحذّر المؤلفين والناشرين من الانطلاق في هذا السّبيل، وقد لا يكون لنا من الإمكانيات ما يوحي بقوَّة مثل هذا التحذير، ولكن الله بالمرصاد لكلَّ من ينحرف عن الطّريق المستقيم، كما نرجو من الواعين من أبناء الأمَّة أن يعملوا على التّخطيط للوقوف أمام هذه الأوضاع القلقة التي تحكمها عقليّة الرّبح بدلاً من أن توجهها مسؤوليّة الإيمان.
حماية القارئ
وقد يكون من الخير لهذا الحديث أن نشير في ختامه إلى الفتوى التي ذكرها الفقهاء المسلمون في كتبهم الفقهيّة بتحريم حفظ كتب الضّلال، سواء منها الكتب التي تشارك في الضلال العقيدي، أو الكتب التي تقود إلى الضلال الرّوحي والأخلاقي والاجتماعي، وقد يعتبرون القضيّة خاضعة لحكم عقلي بوجوب قطع مادة الفساد، لأنَّ من غير المعقول أن يحكم العقل بإزالة الظلم والفساد من العالم، ويوافق على إبقاء الفكر المتحرِّك الذي يمدّ الفساد بالقوّة، ويمنحه الحيويّة كلّما ضعفت فيه طاقة البقاء وقوّة الاستمرار، لأنَّ دور الفكر في كلّ مجال، أن ينثر بذوره في الأرض الصالحة الخصبة التي تنمو فيها البذور بشكل طبيعي متفاعل. فإذا أبقينا الفكر متحرّكاً في اتجاه الأفكار الضالّة والمنحرفة، وأعطيناه كلّ ألوان الدعم والقوَّة والانتشار، فستظلّ بذوره تشقّ عمق الأرض الإنسانيّة لتتأصَّل فيها وتتجذَّر، ثُمَّ لتتصاعد في حياته وآفاقه شجرة شريرة تؤتي أكلها الشّرّير كلّ حين.
ولهذا، كانت القضيّة في مستوى حماية الإنسان من العوامل المؤثّرة في دماره وانهياره، تماماً كما هي القضيّة كذلك في مواجهة الأفعال أو الموادّ الضارّة التي تحاربها الأمم من أجل أن لا تتحوَّل إلى عامل يقضي على حياة الإنسان وصحته وعقله.. وقد لا نحتاج إلى التدليل على الحقيقة التي تؤكّد أنّ تأثير الأفكار المسمومة والمخدِّرة في الإنسان وحياته الروحية، أخطر من تأثير السّموم والمخدّرات الطبيعيّة في حياته الجسديّة.
وقد جاءت بعض الأحاديث الشّريفة المأثورة التي تقرّر هذه القاعدة الشرعيّة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام): "إنما حرّم الله الصناعة التي يجيء منها الفساد محضاً". ولا ريب في أنَّ صناعة الكلمة المكتوبة من أكثر الصناعات تأثيراً في صلاح الإنسان وفساده، تبعاً للمضمون الذي يتحرّك في عمق الكلمة نحو الصلاح والفساد.
ويصرّح الفقهاء بأنَّ حرمة حفظ الضّلال لا تقتصر على كتابته وبيعه وشرائه، بل يتعدّى ذلك إلى طبعه وحفظه، لأنَّ المطلوب هو إزالته نهائيّاً من واقع الفكر الإنساني وحياة الإنسان...
وخلاصة الفكرة: إنَّنا نواجه القضيّة من موقع المسؤوليَّة الإسلاميَّة تجاه الإسلام والمسلمين، الأمر الّذي يدفعنا إلى مواجهة الخطورة على أساس مراقبة الله في عباده ودينه وبلاده، لئلا يتحوّل الواقع الذي يتحرّك فيه المسلمون ـ على أساس مادّيّ بحت ـ إلى واقع يتاجر فيه المتاجرون بكلّ شيء، حتّى بالإيمان والمؤمنين، من أجل الحصول على الرّبح المادّي، وتلك هي إحدى علامات النّهاية للإسلام والمسلمين.
*من كتاب "قضايانا على ضوء الإسلام".