كتابات
04/03/2020

هل نتعامل مع مجالس التّلاوة بمسؤوليّة؟!

هل نتعامل مع مجالس التّلاوة بمسؤوليّة؟!

للقرآن في حياتنا قيمة القاعدة الفكريّة والروحيّة التي ترتكز عليها عقيدتنا كمسلمين، والمنطلق الذي تنطلق فيه آفاقنا في الميدان الاجتماعي والحضاري، والمنهج الذي ينظّم حياتنا على أساس متين من العدالة والاستقامة، وهو ـ قبل كلّ شيء وبعد كلّ شيء ـ كتاب الله الخالد الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}[فصلّت: 42]، فما يقرّره ويحكم به، يُعتبر حقيقة نهائيّة في نظرنا إذا أحسنّا فهم ما يقرره وما يحكم به.

وبهذا، كان مقياساً نحاكم على أساسه أية فكرة وأية عقيدة، ونحدّد قيمتها من حيث صحّتها أو أصالتها في الإسلام أو فسادها وبعدها عنه.

وعلى ضوء هذا، نستطيع أن نقرّر أنَّ الابتعاد عن القرآن لا يُعطي إلاَّ نتيجة واحدة، هي الابتعاد عن الإسلام عقيدة ووعياً وحياة، فلا يمكن لأيّ إنسان أن يفهم الدِّين الإسلامي إذا لم يحمل في فكره وفي روحه ثقافة قرآنيّة واعية، تضع أمامها قبل كلّ شيء، أنَّ القرآن أنزل من قبل الله ليكون منطلقاً للسموّ الروحي والفكري والاجتماعي والخلقي، لا ليكون كتاباً يُقرأ للتبرّك أو للاستمتاع بأسلوبه وتعابيره الأدبية، أو للحفظ من الحسد ونحو ذلك؛ ولذا فإنَّ فهم الإسلام مرتبط بفهمه، لأنَّه يُعطي الرأي الصحيح للإسلام في مشكلات الحياة ووقائعها... وينظم العقيدة على أساس متين.

لم نقصد من حديثنا هذا أن ندرس عظمة القرآن وقيمته، فذلك بحث له مجاله الواسع، ومداه الطويل؛ وإنما نقصد أن نشير وننبّه إلى عمق الهوَّة التي تفصل بين قيمة القرآن وأثره في مركزنا الحياتي، وكيف ينبغي أن نكون، وبين الواقع الذي نحياه للقرآن في أوضاعنا التي ندرج عليها الآن.

فقد كان القرآن عند المسلمين الأقدمين يثير فيهم الحركة والحياة والتطلّع إلى المستقبل الذي يحتضن عزّة الإسلام وشرفه ومكانته في العالم، ليبعث النّور والهداية في أرجاء المعمورة.

أمّا نحن، فقد تجمّدت نفوسنا، حتى لم تعد تلمح فينا إلا الانكماش والتضاؤل والخوف والقلق والانهزاميّة، وغير ذلك من أسباب الفشل وبوادره.

ومردّ ذلك في ما نفهمه إلى أنهم كانوا يحيون القرآن، في ما يوحي وفي ما يوجّه، فكرة وإيماناً وارتفاعاً بالنفس الإنسانيّة إلى أبعد مجال.

أمّا نحن، فنعيش القرآن ألفاظاً وتعاويذ وغير ذلك، من دون أن نلتفت إلى أغراضه وأهدافه. ومن هنا، فقد القرآن عند الكثيرين منّا احترامه اللائق به ـ عمليّاً ـ وإن كنّا نعظّمه عندما يفسح لنا مجال الكلام.

ولنضرب مثلاً على ذلك نستمدّه من حياتنا الاجتماعيّة التي نعيشها اليوم، فقد أصبح من المتعارف في الاحتفالات التي نعقدها لمناسبات خاصّة أو عامّة، وفي الفواتح التي تُقام لقراءة الفاتحة عن روح الميت وتعزية ذويه قبل كلّ شيء؛ أن يُتلى القرآن فيها، فيقتصر على فترة خاصّة له في الحفلات، ويستمرّ في تلاوته طيلة الوقت في الفواتح.

وإلى هنا، والقضيّة لا تلفت النظر ولا تبعث على الدهشة، بل الأمر طبيعيّ، لأنَّ مثل هذه الاجتماعات مجال طيّب لبعث الدعوة إلى الله وإلى دينه القويم، فإنها لا تتيسَّر في كلّ وقت، وليس كالقرآن حديث يدعى به إلى الله لأنَّه كلام الله ووحيه. وهكذا كان القرآن هو عنوان هذه الاجتماعات، إضافةً إلى قيمته الروحية وقدسيته التي قد تنفع الميت فيما إذا قرئ عنه وأهدي ثوابه إليه.

ولكنّ الذي يلفت النظر، هو هذه الضّوضاء وهذا الصخب الذي يدور في المجلس أثناء قراءة القرآن، من دون التفات عملي ـ ولو بسيط ـ إلى أنَّ هناك قرآناً يُقرأ، أو إلى أنَّ هذه الآيات التي تتلى هي التي أطلقت صيحة الهدى وأرسلت أشعة الحضارة في العالم أجمع، وهي التي دفعت عجلة الحياة إلى الأمام، وهزّت عروش الظالمين والكافرين ومزّقتهم شرّ ممزّق.

هذا والقارئ يقرأ الآية الكريمة {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الأعراف: 204]، والنزاع ينشب ويحتدم في ما بيننا، في أنَّ الأمر هنا للوجوب أو للاستحباب، وينتهي عن نتيجة أو لا نتيجة؛ والعاملون في المجلس يدورون في جنباته، ليقوموا بتوزيع ما أوكل إليهم توزيعه من قهوة أو شاي أو سجائر أو ماء ونحوه، ويرتفع الدخان حتى يكاد يأخذ بأنفاسك.. وهنا قد يحلو لك أن تتطلّع إلى القارئ وهو ينفث الدّخان من فمه بين آونة وأخرى، أو يتحدّث إلى من حوله، أو ينبّه المجلس إلى قدوم شخصيّة محترمة، حتى لا تحسّ بأيّ لون من ألوان الهدوء التي يتطلّبها الاستماع إلى القرآن. والقارئ يقرأ، والمجلس مشغول بصخبه وضجيجه.

وهنا يهدأ الضجيج ويسود الصمت، حتى لا تكاد تحسّ إلا بتصاعد الأنفاس، ويصمت القارئ، فينقطع عن تلاوته، ويمتنع العاملون في المجلس عن توزيع ما اعتادوا توزيعه.

ويتّجه الجميع إلى حيث المنبر، فإذا بالخطيب أو الشاعر أو النّاثر يلقي كلمته الرائعة أو الخالدة ـ ما شئت عبِّر ـ وتتعالى أصوات الاستحسان، ولا سيّما إذا اتجه إلى الناحية الإسلاميّة، وتحدّث عن أسباب تأخّر المسلمين وانحطاطهم، من دون أن يلتفت إلى أنَّ من أسباب التأخّر والانحطاط، هو هذا الابتعاد عن القرآن. حتى إنهم يهتمون بمعرفة كلام الخطيب والاستماع إليه أكثر بمراحل مما يعطونه من الاهتمام للاستماع إلى آي الذّكر الحكيم، فضلاً عن محاولة تفهّمه ووعيه.

وأذكر أنَّ بعض الفضلاء، أو الذين يعون دقّة المرحلة التي نمرّ بها، ويقدّرون قيمة القرآن وقدسيّته عمليّاً، قام خطيباً في بعض هذه الاجتماعات، مندّداً بهذا الوضع الشاذّ الذي يولي الاحترام لكلمة أو قصيدة ـ ربَّما تكون سخيفة ـ أكثر مما يوليه لآي من الذّكر الحكيم، فلم يكن من الكثيرين إلا أن قابلوا هذا الحديث ببسمات السخرية والاستهزاء، وربَّما نسبه المعتدلون إلى البساطة والسذاجة.

وهذا يدلنا ـ بكلّ أسف ـ على أنَّ القضيّة قد وصلت إلى الحدّ الذي أصبحت فيه (مرضاً مزمناً) لا بُدَّ من معالجته.

هذا أحد المظاهر التي تعطينا فكرة عن سلوكنا العمليّ نحو القرآن، وهو مظهر عامّ تشترك فيه الطبقات كافّة في بعض البلدان الإسلاميّة.

*من كتاب "قضايانا على ضوء الإسلام".

للقرآن في حياتنا قيمة القاعدة الفكريّة والروحيّة التي ترتكز عليها عقيدتنا كمسلمين، والمنطلق الذي تنطلق فيه آفاقنا في الميدان الاجتماعي والحضاري، والمنهج الذي ينظّم حياتنا على أساس متين من العدالة والاستقامة، وهو ـ قبل كلّ شيء وبعد كلّ شيء ـ كتاب الله الخالد الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}[فصلّت: 42]، فما يقرّره ويحكم به، يُعتبر حقيقة نهائيّة في نظرنا إذا أحسنّا فهم ما يقرره وما يحكم به.

وبهذا، كان مقياساً نحاكم على أساسه أية فكرة وأية عقيدة، ونحدّد قيمتها من حيث صحّتها أو أصالتها في الإسلام أو فسادها وبعدها عنه.

وعلى ضوء هذا، نستطيع أن نقرّر أنَّ الابتعاد عن القرآن لا يُعطي إلاَّ نتيجة واحدة، هي الابتعاد عن الإسلام عقيدة ووعياً وحياة، فلا يمكن لأيّ إنسان أن يفهم الدِّين الإسلامي إذا لم يحمل في فكره وفي روحه ثقافة قرآنيّة واعية، تضع أمامها قبل كلّ شيء، أنَّ القرآن أنزل من قبل الله ليكون منطلقاً للسموّ الروحي والفكري والاجتماعي والخلقي، لا ليكون كتاباً يُقرأ للتبرّك أو للاستمتاع بأسلوبه وتعابيره الأدبية، أو للحفظ من الحسد ونحو ذلك؛ ولذا فإنَّ فهم الإسلام مرتبط بفهمه، لأنَّه يُعطي الرأي الصحيح للإسلام في مشكلات الحياة ووقائعها... وينظم العقيدة على أساس متين.

لم نقصد من حديثنا هذا أن ندرس عظمة القرآن وقيمته، فذلك بحث له مجاله الواسع، ومداه الطويل؛ وإنما نقصد أن نشير وننبّه إلى عمق الهوَّة التي تفصل بين قيمة القرآن وأثره في مركزنا الحياتي، وكيف ينبغي أن نكون، وبين الواقع الذي نحياه للقرآن في أوضاعنا التي ندرج عليها الآن.

فقد كان القرآن عند المسلمين الأقدمين يثير فيهم الحركة والحياة والتطلّع إلى المستقبل الذي يحتضن عزّة الإسلام وشرفه ومكانته في العالم، ليبعث النّور والهداية في أرجاء المعمورة.

أمّا نحن، فقد تجمّدت نفوسنا، حتى لم تعد تلمح فينا إلا الانكماش والتضاؤل والخوف والقلق والانهزاميّة، وغير ذلك من أسباب الفشل وبوادره.

ومردّ ذلك في ما نفهمه إلى أنهم كانوا يحيون القرآن، في ما يوحي وفي ما يوجّه، فكرة وإيماناً وارتفاعاً بالنفس الإنسانيّة إلى أبعد مجال.

أمّا نحن، فنعيش القرآن ألفاظاً وتعاويذ وغير ذلك، من دون أن نلتفت إلى أغراضه وأهدافه. ومن هنا، فقد القرآن عند الكثيرين منّا احترامه اللائق به ـ عمليّاً ـ وإن كنّا نعظّمه عندما يفسح لنا مجال الكلام.

ولنضرب مثلاً على ذلك نستمدّه من حياتنا الاجتماعيّة التي نعيشها اليوم، فقد أصبح من المتعارف في الاحتفالات التي نعقدها لمناسبات خاصّة أو عامّة، وفي الفواتح التي تُقام لقراءة الفاتحة عن روح الميت وتعزية ذويه قبل كلّ شيء؛ أن يُتلى القرآن فيها، فيقتصر على فترة خاصّة له في الحفلات، ويستمرّ في تلاوته طيلة الوقت في الفواتح.

وإلى هنا، والقضيّة لا تلفت النظر ولا تبعث على الدهشة، بل الأمر طبيعيّ، لأنَّ مثل هذه الاجتماعات مجال طيّب لبعث الدعوة إلى الله وإلى دينه القويم، فإنها لا تتيسَّر في كلّ وقت، وليس كالقرآن حديث يدعى به إلى الله لأنَّه كلام الله ووحيه. وهكذا كان القرآن هو عنوان هذه الاجتماعات، إضافةً إلى قيمته الروحية وقدسيته التي قد تنفع الميت فيما إذا قرئ عنه وأهدي ثوابه إليه.

ولكنّ الذي يلفت النظر، هو هذه الضّوضاء وهذا الصخب الذي يدور في المجلس أثناء قراءة القرآن، من دون التفات عملي ـ ولو بسيط ـ إلى أنَّ هناك قرآناً يُقرأ، أو إلى أنَّ هذه الآيات التي تتلى هي التي أطلقت صيحة الهدى وأرسلت أشعة الحضارة في العالم أجمع، وهي التي دفعت عجلة الحياة إلى الأمام، وهزّت عروش الظالمين والكافرين ومزّقتهم شرّ ممزّق.

هذا والقارئ يقرأ الآية الكريمة {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الأعراف: 204]، والنزاع ينشب ويحتدم في ما بيننا، في أنَّ الأمر هنا للوجوب أو للاستحباب، وينتهي عن نتيجة أو لا نتيجة؛ والعاملون في المجلس يدورون في جنباته، ليقوموا بتوزيع ما أوكل إليهم توزيعه من قهوة أو شاي أو سجائر أو ماء ونحوه، ويرتفع الدخان حتى يكاد يأخذ بأنفاسك.. وهنا قد يحلو لك أن تتطلّع إلى القارئ وهو ينفث الدّخان من فمه بين آونة وأخرى، أو يتحدّث إلى من حوله، أو ينبّه المجلس إلى قدوم شخصيّة محترمة، حتى لا تحسّ بأيّ لون من ألوان الهدوء التي يتطلّبها الاستماع إلى القرآن. والقارئ يقرأ، والمجلس مشغول بصخبه وضجيجه.

وهنا يهدأ الضجيج ويسود الصمت، حتى لا تكاد تحسّ إلا بتصاعد الأنفاس، ويصمت القارئ، فينقطع عن تلاوته، ويمتنع العاملون في المجلس عن توزيع ما اعتادوا توزيعه.

ويتّجه الجميع إلى حيث المنبر، فإذا بالخطيب أو الشاعر أو النّاثر يلقي كلمته الرائعة أو الخالدة ـ ما شئت عبِّر ـ وتتعالى أصوات الاستحسان، ولا سيّما إذا اتجه إلى الناحية الإسلاميّة، وتحدّث عن أسباب تأخّر المسلمين وانحطاطهم، من دون أن يلتفت إلى أنَّ من أسباب التأخّر والانحطاط، هو هذا الابتعاد عن القرآن. حتى إنهم يهتمون بمعرفة كلام الخطيب والاستماع إليه أكثر بمراحل مما يعطونه من الاهتمام للاستماع إلى آي الذّكر الحكيم، فضلاً عن محاولة تفهّمه ووعيه.

وأذكر أنَّ بعض الفضلاء، أو الذين يعون دقّة المرحلة التي نمرّ بها، ويقدّرون قيمة القرآن وقدسيّته عمليّاً، قام خطيباً في بعض هذه الاجتماعات، مندّداً بهذا الوضع الشاذّ الذي يولي الاحترام لكلمة أو قصيدة ـ ربَّما تكون سخيفة ـ أكثر مما يوليه لآي من الذّكر الحكيم، فلم يكن من الكثيرين إلا أن قابلوا هذا الحديث ببسمات السخرية والاستهزاء، وربَّما نسبه المعتدلون إلى البساطة والسذاجة.

وهذا يدلنا ـ بكلّ أسف ـ على أنَّ القضيّة قد وصلت إلى الحدّ الذي أصبحت فيه (مرضاً مزمناً) لا بُدَّ من معالجته.

هذا أحد المظاهر التي تعطينا فكرة عن سلوكنا العمليّ نحو القرآن، وهو مظهر عامّ تشترك فيه الطبقات كافّة في بعض البلدان الإسلاميّة.

*من كتاب "قضايانا على ضوء الإسلام".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية