قد عرفنا - ونحن نعرض مفهوم السلبيّة والإيجابيّة، وشمولهما واتّساعهما لجميع جوانب الحياة - طبيعة الإنسان الإيجابي والإنسان السّلبي.
فالأوّل: يعيش حياته ويحسّ بها ويحرّكها ويتحرّك بها، فهو حركة دائمة وقوّة مستمرّة تحاول أن تجدّد الحياة من حولها، وتبعث فيها اليقظة والنشاط، وتدفع خطواتها نحو الكمال. أمّا الثاني، فهو إنسان ضائع، مهزوم، ضعيف، لا يعيش حياته إلاَّ كما تعيشها الحيوانات، فهي عنده رتيبة مملّة جامدة، لا أثر فيها لحقيقة الحياة وروحها، إضافةً إلى أنّها تجمّد الحياة في مجتمعها وتتجمَّد معه.
إيجابيّتنا من صميم الإسلام
بقي علينا أن نختار الأسلوب الذي نسير عليه في دعوتنا وقضيّتنا، ولن نملك إلّا اختيار الإيجابيّة طريقاً لنا في العمل والتفكير، وأسلوباً في الحياة، لأنَّنا في الطريق إلى دعوةٍ إنسانية شاملة، تهدم القِيَم الفاسدة في سبيل بناء قِيَم جديدة صالحة، أو بالأحرى، في سبيل إثارة الحياة من حولنا، وتنقيتها من الرواسب المتعفِّنة، والسّير بها في طريق الله والحقّ والخير والجمال. ولا بدَّ لهذه الدعوة، ولمثل هذه الإثارة، أن تعيش الصّراع بأعمق صوره، لأنَّ الفكرة، أيّ فكرة، لن تتبلور وتتركَّز في أذهان الأُمّة إلاَّ إذا أصبحت هدفاً للصّراع، ومجالاً للأخذ والردّ، وليس الصّراع إلاَّ أحد المظاهر الحيَّة للأسلوب الإيجابي في العمل والتفكير.
وليس هذا الموقف الذي اخترناه بالموقف الجديد على هذه الدعوة، وليس بالموقف الغريب عن موقف الإسلام، بل هو مستمَدّ منه ومنطلِق من واقعه وهداه.
فقد جاء الإسلام دعوةً إيجابيةً للفكر والحياة، فبدأ بالدّعوة إلى العودة إلى الفطرة، والانطلاق منها نحو العمل والتّفكير في سبيل بناء شخصيّة جديدة تنظر إلى الحياة من خلال حريّتها واستقلالها وفطرتها، لا من خلال تبعيّتها لغيرها، ورواسبها العفنة، فندَّد كثيراً بأولئك الذين لا يسمحون لأفكارهم بأن تنطلق، ولأرواحهم بأن تتسامى، لمجرّد أنّ طريقة آبائهم تمنعهم عن هذا الانطلاق وهذا التسامي، ودعاهم إلى أن ينطلقوا من هذا الأُفق الضيّق، ويحرِّروا تفكيرهم من عبوديّة الآباء والأجداد، ليفكِّروا تفكيراً مستقلاًّ نابعاً من طبيعة ذواتهم، وصراحة فطرتهم، ليضعوا أيديهم على الينبوع الخالد.
ثمّ انطلق بعد ذلك ليدعونا إلى أن نقف من حقائق الكون والحياة موقف المتأمّل الذي يحاول أن يعرف موقفه ومركزه في هذا الوجود بين هذه الموجودات الكثيرة، ليضع يديه بكلّ حريّة واستقلال ووعي على الحقيقة الكليَّة، ويشعر بارتباطه بالكون وارتباط الكون به ومسؤوليَّته تجاهه في عملية البناء والإبداع.
وقبل ذلك كلّه، دعاه إلى أن يقف من نفسه هذا الموقف الإيجابي، فلا يدعها تندفع مع شهواتها ولذائذها في غيبوبة اللّذّة والخدر، وإنّما ألزمه أن يقف منها موقف المراقب الحذر، الذي يكبح جماحها عندما تحاول الجموح، وينطلق بها عندما تميل إلى الجمود.
وهناك مثل آخر من الأمثلة الكثيرة التي نتعرَّف منها كيف يريد الإسلام منّا أن نكون إيجابيّين في حياتنا العامّة، وهو فريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، فإنَّ هذه الفريضة عبارة عن إلزام كلّ فرد مسلم بأن يترك أسلوب اللّامبالاة في حياته تجاه الآخرين، والذي يدفعه إلى أن لا ينظر إلى الحياة من نطاق ذاته، فلا يهتمّ بما يفعل الآخرون وما يجرمون، وما يرتكبون من موبقات، وما يتركون من واجبات، ويدفعه إلى الشعور بمسؤوليّته الفكرية والعملية تجاه الآخرين، ويعتبر ذلك فريضة عليه يترتَّب عليها ما يترتَّب على سائر الفرائض من ثواب وعقاب... أمّا طبيعة هذه الفريضة، وطبيعة الموقف الإيجابي الذي ينطلق منها، فتختلف حسب اختلاف ظروف القضيّة، فقد يكون الموقف الإيجابي في التنبيه والتحذير والإرشاد والموعظة الحسنة، وتعريفه ما قد يجهله من أمور المعروف والمنكر، وقد يقتضي ذلك الموقف القوّة والشدّة، التي تختلف أيضاً حسب اختلاف مراتبها، تبعاً لاختلاف ظروف القضيّة، وربّما لا تقتضي الإيجابيّة إلا عمليّة استنكار داخلية، وهو أضعف الإيمان.
هذا هو أحد الأمثلة التي تبيِّن لنا بجلاء ووضوح طبيعة دعوة الإسلام إلى الإيجابيّة، ومدى ما تحمله هذه الإيجابيّة من حلول عمليّة لمشاكل الإنسان.
*المصدر: كتاب "آفاق إسلاميّة".
***

قد عرفنا - ونحن نعرض مفهوم السلبيّة والإيجابيّة، وشمولهما واتّساعهما لجميع جوانب الحياة - طبيعة الإنسان الإيجابي والإنسان السّلبي.
فالأوّل: يعيش حياته ويحسّ بها ويحرّكها ويتحرّك بها، فهو حركة دائمة وقوّة مستمرّة تحاول أن تجدّد الحياة من حولها، وتبعث فيها اليقظة والنشاط، وتدفع خطواتها نحو الكمال. أمّا الثاني، فهو إنسان ضائع، مهزوم، ضعيف، لا يعيش حياته إلاَّ كما تعيشها الحيوانات، فهي عنده رتيبة مملّة جامدة، لا أثر فيها لحقيقة الحياة وروحها، إضافةً إلى أنّها تجمّد الحياة في مجتمعها وتتجمَّد معه.
إيجابيّتنا من صميم الإسلام
بقي علينا أن نختار الأسلوب الذي نسير عليه في دعوتنا وقضيّتنا، ولن نملك إلّا اختيار الإيجابيّة طريقاً لنا في العمل والتفكير، وأسلوباً في الحياة، لأنَّنا في الطريق إلى دعوةٍ إنسانية شاملة، تهدم القِيَم الفاسدة في سبيل بناء قِيَم جديدة صالحة، أو بالأحرى، في سبيل إثارة الحياة من حولنا، وتنقيتها من الرواسب المتعفِّنة، والسّير بها في طريق الله والحقّ والخير والجمال. ولا بدَّ لهذه الدعوة، ولمثل هذه الإثارة، أن تعيش الصّراع بأعمق صوره، لأنَّ الفكرة، أيّ فكرة، لن تتبلور وتتركَّز في أذهان الأُمّة إلاَّ إذا أصبحت هدفاً للصّراع، ومجالاً للأخذ والردّ، وليس الصّراع إلاَّ أحد المظاهر الحيَّة للأسلوب الإيجابي في العمل والتفكير.
وليس هذا الموقف الذي اخترناه بالموقف الجديد على هذه الدعوة، وليس بالموقف الغريب عن موقف الإسلام، بل هو مستمَدّ منه ومنطلِق من واقعه وهداه.
فقد جاء الإسلام دعوةً إيجابيةً للفكر والحياة، فبدأ بالدّعوة إلى العودة إلى الفطرة، والانطلاق منها نحو العمل والتّفكير في سبيل بناء شخصيّة جديدة تنظر إلى الحياة من خلال حريّتها واستقلالها وفطرتها، لا من خلال تبعيّتها لغيرها، ورواسبها العفنة، فندَّد كثيراً بأولئك الذين لا يسمحون لأفكارهم بأن تنطلق، ولأرواحهم بأن تتسامى، لمجرّد أنّ طريقة آبائهم تمنعهم عن هذا الانطلاق وهذا التسامي، ودعاهم إلى أن ينطلقوا من هذا الأُفق الضيّق، ويحرِّروا تفكيرهم من عبوديّة الآباء والأجداد، ليفكِّروا تفكيراً مستقلاًّ نابعاً من طبيعة ذواتهم، وصراحة فطرتهم، ليضعوا أيديهم على الينبوع الخالد.
ثمّ انطلق بعد ذلك ليدعونا إلى أن نقف من حقائق الكون والحياة موقف المتأمّل الذي يحاول أن يعرف موقفه ومركزه في هذا الوجود بين هذه الموجودات الكثيرة، ليضع يديه بكلّ حريّة واستقلال ووعي على الحقيقة الكليَّة، ويشعر بارتباطه بالكون وارتباط الكون به ومسؤوليَّته تجاهه في عملية البناء والإبداع.
وقبل ذلك كلّه، دعاه إلى أن يقف من نفسه هذا الموقف الإيجابي، فلا يدعها تندفع مع شهواتها ولذائذها في غيبوبة اللّذّة والخدر، وإنّما ألزمه أن يقف منها موقف المراقب الحذر، الذي يكبح جماحها عندما تحاول الجموح، وينطلق بها عندما تميل إلى الجمود.
وهناك مثل آخر من الأمثلة الكثيرة التي نتعرَّف منها كيف يريد الإسلام منّا أن نكون إيجابيّين في حياتنا العامّة، وهو فريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، فإنَّ هذه الفريضة عبارة عن إلزام كلّ فرد مسلم بأن يترك أسلوب اللّامبالاة في حياته تجاه الآخرين، والذي يدفعه إلى أن لا ينظر إلى الحياة من نطاق ذاته، فلا يهتمّ بما يفعل الآخرون وما يجرمون، وما يرتكبون من موبقات، وما يتركون من واجبات، ويدفعه إلى الشعور بمسؤوليّته الفكرية والعملية تجاه الآخرين، ويعتبر ذلك فريضة عليه يترتَّب عليها ما يترتَّب على سائر الفرائض من ثواب وعقاب... أمّا طبيعة هذه الفريضة، وطبيعة الموقف الإيجابي الذي ينطلق منها، فتختلف حسب اختلاف ظروف القضيّة، فقد يكون الموقف الإيجابي في التنبيه والتحذير والإرشاد والموعظة الحسنة، وتعريفه ما قد يجهله من أمور المعروف والمنكر، وقد يقتضي ذلك الموقف القوّة والشدّة، التي تختلف أيضاً حسب اختلاف مراتبها، تبعاً لاختلاف ظروف القضيّة، وربّما لا تقتضي الإيجابيّة إلا عمليّة استنكار داخلية، وهو أضعف الإيمان.
هذا هو أحد الأمثلة التي تبيِّن لنا بجلاء ووضوح طبيعة دعوة الإسلام إلى الإيجابيّة، ومدى ما تحمله هذه الإيجابيّة من حلول عمليّة لمشاكل الإنسان.
*المصدر: كتاب "آفاق إسلاميّة".
***