إنَّنا نلاحظ وجود ذهنيّة خطرة على مسار العمل الإسلامي، وهي الذهنيّة التي تَرْبِطُ العمل بالشخص العظيم القائد، وتعتبر أنَّ غيابه يمثّل غياب الفرصة الوحيدة للنجاح، وقد يقودها ذلك إلى اليأس، أو يدفعها إلى التراجع عن الخطّ..
ولكنَّ الله سبحانه لا يريد لنا أن نستسلم لهذا اللَّون من التفكير، لأنَّ قضيّة الحياة هي قضيّة الرّسالة التي تمتدّ في جهادها وحركتها، فتصنع الرّجال وتُحدّد المواقف من خلال تحديد الخطوط والأهداف. أمَّا الرّسول، فهو المرحلة الكبيرة في ولادة الرسالة؛ حركتها الأولى، وتثبيت قواعدها، وتأصيل مفاهيمها وتوضيحها، فهو الذي أطلق الدّعوة وحدَّد المسار، ودفع الأمّة إلى الامتداد فيه على ضوء الهدف الكبير.. وتنوّعت التجارب في حياته عبر المواقف المختلفة.. ولكنَّه بشرٌ يموت كما يموت البشر، وتبقى الرّسالة حيّة من بعده، لأنَّها رسالة الله للحياة، ليحملها من بعده الرساليون من خلفائه وأتباعه.. وهذا هو ما نستوحيه من قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفإِنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْعَلَى أعْقَابِكُم وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئَاً وَسَيَجْزِيَ اللهُ الشَّاكِرِين}[آل عمران 144].
فإذا كانت القضيّة مع النبيّ في هذا المستوى، فكيف تكون مع الآخرين الذين يتسلّمون مركز القيادة في مرحلة من مراحل العمل، سواء كانت على أساس العلم أو على أساس الحركة؟!
إنَّ على الأمّة في مثل هذه الحال أن تؤمن برسالتها، وتثق بنفسها، فتبحث عن القيادة الجديدة إذا لم تكن بارزةً على السّطح، وترتبط بها إذا كانت موجودة في مستوى الثّقة، أو تعمل على صُنْع القيادة في داخلها، لتستمرّ الرّسالة في مسيرتها الصاعدة نحو الأفضل.
وفي هذا الاتجاه، نشعر بأنَّ علينا تفريغ الذهنيّة الإسلاميّة من هذه المشاعر العاطفيَّة، حتى في ما اعتدناه من كلمات الرّثاء للعلماء والعظماء المشتملة على المبالغات الضّخمة التي توحي بأنَّ العلم قد مات، ولن تقوم له قائمة بعد الفقيد إذا كان عالماً، وأنَّ الحياة سوف تنهار وتنتهي بعد القائد الذي انتقل إلى جوار ربّه، وأنَّ الكون سيتوقَّف عن الامتداد والفلكَ عن الدّوران.
إنَّ البعض قد يعتبر هذا الأسلوب في الرّثاء أسلوباً وجدانيّاً لا ضَرَرَ منه، مادام الشَّرع لا يتنكّر للمبالغة إذا كانت في طريق التقييم لا في مجال الإخبار لتكون كذباً إذا خالفت الواقع، ولكنَّنا نجد في مثل هذا الأسلوب طريقةً خطرةً في تربية الذهنيّة الإسلاميّة على المفهوم الذي يربط العمل بالشّخص، ويربط الحركة بالمرحلة الزمنيّة التي يعيشها هذا الفرد في حياة العمل، فلا يثق بوجود أشخاص آخرين يمكنهم أن يُكْمِلوا المسيرة ويقودوا العمل من جديد.
إنَّنا نستوحي من القرآن الكريم خطّاً بعيداً من هذا الاتجاه، فإنَّنا نراه يتحدّث عن موت النبيّ بأسلوبٍ بسيطٍ جداً لا أَثَرَ فيه للمبالغة ولا لليأس في المستقبل:
{إنَّكَ مَيِّت وَإنَّهُمْ مَيِّتُون}(الزّمر: 30).
{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الخُلْدَ أفَإنْ مِتَّ فَهُم الخَالِدُون}(الأنبياء: 34).
{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أبَا أحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وخَاتَمَ النَّبِيِّين}(الأحزاب: 40).
وهناك نقطةٌ حيويّة جداً في هذا الاتجاه، فقد درجنا في تقييمنا للانتصارات الرساليّة أو العسكريّة على ربطها بالشّخص، دون أن نلتفت إلى القاعدة التي ساهمت في صُنْع النصر، فنتحدّث بأنَّه هو الّذي فتح، وهو الذي هدى، وهو الذي انتصر، أمّا الآخرون، فلا قيمةَ لهم ولا حديثَ عنهم إلّا من خلاله.
إنَّنا نحتاج إلى عدم إغفال القاعدة التي تتحرّك مع القيادة وتنسجم مع خُطَطِها وأهدافِها، لأنَّها استطاعت بجهادها وإخلاصها وتعاونها مع قيادتها أن تحقّق الانتصارات والإنجازات، فإنَّ ذلك يضع الصّورة في مكانها الطبيعيّ، ويُحقّق لنا هدفين عمليّيّن:
1 ـ التخلُّص من عبادة الشخصيّة في المسار الطّويل، لأنَّ اعتبار الشخص كلّ شيء في العمل من دون ملاحظةٍ لرفاق الطريق، يؤدّي إلى تجميع الطاقات في ذاته، بعيداً من حساب طاقات الآخرين، ما يجعلهم مجرّد آلات تتحرّك بدون إرادةِ تفكير.
2 ـ الإيحاء للقاعدِة دائماً بأنَّ طاقاتها المتحرّكة تُعتبر أحد الأسُس الكبيرة للعمل والانتصار، مضافاً إلى الأساس الكبير المُتَمثّل بحكمة القيادة في تخطيطها الفكريّ والعمليّ، وهذا ما يجعلها تعيش المسؤوليَّة من زاوية الشُّعور بقيمة الذّات، والشّعور بالقضيّة، حيث لا تتحرَّك الذّات بعيداً من القضية، بل تُحقّق لها الغنى الكبير.
* من كتاب "الرّسول الدّاعية في القرآن الكريم".