أُثيرت بعض الأفكار في مسألة المرجعيّة حول المركز الجغرافي للمرجع، فرأى بعض الناس أنّه لا بدَّ أن يكون في قمّ ـ إيران ـ باعتبار وجود القيادة الإسلاميّة والجمهوريّة الإسلاميّة، لأنّهما الموقعان الكبيران المميّزان اللّذان يمنحان موقع المرجع قوّةً وعمقاً وامتداداً، كما أنّه يعطي القيادة والدولة الإسلاميّة دعماً وتأييداً، ويعمل على التّكامل معها من خلال التّنسيق الدائم والتشاور المتواصل، كما أنّه يملك ـ في الوقت نفسه ـ حريّته في إصدار الفتوى في كلّ القضايا العامّة للأُمّة، من دون أن يخاف من أيّ ضغطٍ أو اضطهادٍ ممّا قد لا يجده في المواقع الأخرى.
ويرى البعض النّاس أنّ الحوزة النجفيّة تمثّل العمق التّاريخي الذي انطلقت منه حركة الحوزة، بحيث كانت تختصر كلّ تاريخ الفقه الإسلامي الإمامي منذ أكثر من ألف سنة، حتّى أصبح الحديث عن العلم النجفيّ في الفقه وأصوله حديثاً عن الدقّة والعمق والسّعة والشمول وغير ذلك، ممّا يتَّصل بالمستوى العلميّ الذي لا يتوفّر في غيره، حتّى إنَّ البعض يتحدّث عن أسلوب العلم الفقهيّ الأصوليّ واختلافه في العمق والدقّة فيما بين حوزة النجف والحوزات الأخرى، انطلاقاً من الإرث التّاريخي الذي يدخل في وعي طلاب الحوزة العلميّة النجفيّة.
ويرى هذا البعض أنّ من الضّروريّ إبقاء النجف ـ الحوزة على تاريخيّتها الضاربة في أعماق الوعي الإسلاميّ الشيعيّ، ومواجهة كلّ الذين يضغطون عليها بالتحدّي الكبير، بتأكيد موقع المرجعيّة الفقهيّة التقليديّة فيها، عندما تتوفّر فيها الشّروط اللازمة للمرجع في الموازين الشرعيَّة، ما يؤدّي إلى أن تتمرَّد على كلّ عوامل الضّغط، وتتحرّك من أجل استجماع قوّتها تدريجيّاً من خلال قوَّة الاستمرار، لتستطيع الالتفاف من جديد على كلّ المخطّطات التخريبيَّة التي تعمل لإفنائها وإزالتها من الوجود العلميّ.
وقد يفكّر بعض ثالث، بأنَّ مسألة المكان لا قيمة لها في الموازين العلميّة الفقهيَّة التي لا تزال ترى مسألة المرجعيّة مسألة الشّخص المؤهّل للفتيا بالدرجة العليا، وليست مسألة المؤسّسة. وبذلك، فإنَّ الشخص هو الذي يحدّد موقع المرجعيّة في موقعه الجغرافي، تماماً كما ينتقل مركز المرجع من محلّةٍ إلى أخرى تبعاً للبيت الذي يسكنه هذا المرجع أو ذاك في هذه المحلّة أو تلك. فنحن نعلم أنّ الشّخص ـ المرجع هو المحور الذي تتحوّل مرجعيّته إلى إرثٍ لأولاده من دون أن يكون للمرجع الجديد أيّ دور في امتداد الأوضاع والعلاقات والمشاريع العامّة، لأنّه لا يُعطى أيّ شيء منها، ولا يستفيد من أيّ تجربة من تجارب الشخص القديم، لأنَّ رسائله وتعليماته وعلاقاته تصبح ملكاً للورثة، حتّى إنّ مشاريعه التربويّة أو الصحيّة أو الثقافيّة أو الاجتماعيّة لا يملك المرجع الجديد منها شيئاً، إلّا بالإشراف الفوقيّ الذي يمثّل الجانب المعنويّ أكثر ممّا يشمل الجانب الواقعيّ العمليّ.
أمّا قضيّة الضّغوط، فقد تكون نسبيّةً في هذا الموقع أو ذاك، كما هي قضيّة الحريَّة، فإنَّ النظام، أيّاً كان، لا بدَّ أن يتدخَّل بطريقته الخاصّة في دائرة هذا المرجع أو ذاك، ليضيِّق عليه في بعض أوضاعه التي لا تتناسب مع سياسته، تبعاً للمعطيات التي تمثّل الشرعيَّة لديه.
أمّا الفتيا، فإنَّنا لا نعتقد أنَّ أيَّ مرجع ـ في كلّ تاريخ المرجعيَّة ـ قد خضع لأيّ ضغطٍ من أيّ سلطة، بحيث تتغيَّر الفتوى لمصلحة ضغط هذا أو ذاك.
وهذه هي إحدى الإيجابيّات التي تُسجَّل للتّاريخ المرجعيّ الذي كان يمثّل التحدّي لكلّ الضغوط المفروضة عليه هنا وهناك.
إنّنا في الوقت الذي نجد الكثير من الإيجابيات في وجود المرجعيّة في داخل الأجواء الإسلاميّة الملائمة، في الحوزة العلميّة الفقهيّة التي تملك حريّتها في مراجعها وعلمائها وطلابها، لكنَّنا نتصوَّر أنّه لا بدَّ لنا من أجل الوصول إلى ذلك، من بلورة القاعدة الفقهيّة التي تفرض هذا الشرط أو ذاك بالعنوان الأوّلي أو العنوان الثانوي، ولا سيّما إذا كانت المرجّحات الفقهيّة موجودة في شخص في بلد آخر بالمستوى الذي لا تتوفّر معه في شخص في البلد الإسلاميّ العريق.
وربّما كان هناك اقتراح آخر، وهو تحويل المرجعيّة إلى مؤسّسة ذات دوائر وأجهزة وعلاقات يقودها المرجع، بحيث توضع الدّراسات والتجارب والعلاقات في هذا المكان، ما يفرض على المرجع أن ينتقل من بيته إلى مركز المؤسَّسة، كما هي الحال في أيِّ موقع قياديّ في المركز الطّبيعي للقيادة، الأمر الذي يؤدّي إلى وحدة المركز الجغرافي ووحدة الموقع العمليّ للقيادة.
إنّنا نحبّ أن نثير هذه الأفكار للدّراسة الواعية العميقة المتخصّصة، لأنّنا نجد الكثيرين ـ ولا سيّما في هذه الظروف ـ يتحدّثون عنها بطريقة الحماس والانفعال، ممّا لا يخدم القضيّة في توازناتها المستقبليّة.
إنّ طموحنا الكبير هو الوصول إلى وحدة القيادة الحركيّة والمرجعيّة الفقهيّة عندما تجتمع المواصفات الشرعيّة في شخص واحد، فتتحرَّك الأُمّة للارتباط به من دون أن تسقط شرطاً في هذا الموقع أو ذاك فيما يتنافى مع القاعدة الشرعيّة، كما أنّ هدفنا النهائي هو أن تتحوّل المرجعيّة إلى مؤسّسة عامّة شاملة لا مجال فيها للعلاقات الشخصيّة، أو لتكرار التجارب أو البدء ـ دائماً ـ من نقطة الصّفر عندما يغيب مرجع ويأتي مرجع آخر مكانه، بل ينطلق المرجع الجديد من حيث انتهى المرجع القديم، فتكون له خلاصة دراساته وتجاربه وتفاصيل علاقاته ومشاريعه، فذلك هو الذي يحقّق لنا الكثير من النتائج الكبرى على مستوى الرسالة الإسلاميّة والمصلحة الإسلاميّة العليا.
*من مقدّمة كتاب "المعالم الجديدة للمرجعيّة الشيعيّة".