كتابات
31/05/2020

أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم؟!

أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم؟!

يقول تعالى في كتابه العزيز: {أَتَأْمُرُونَ النّاس بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.

إنَّ هذه الآية تواجه اليهود بالواقع العمليّ المنحرف الذي كانوا يعيشونه في عصر الدعوة، فقد جعلوا من أنفسهم حماة الكتاب والشّريعة، ودعاة الاستقامة على الحقّ، وقادة النّاس إلى الخير، وذلك من خلال الدّور الذي فرضوه لأنفسهم، ولكنَّهم في الوقت نفسه، كانوا خائنين لهذا الدّور في ممارساتهم العمليّة، فكانوا بمنزلة الّذين ينسون أنفسهم في حساب المسؤوليّة، فلا يعيشون القلق أمام قضيّة المصير في الدنيا والآخرة، بينما نراهم يثيرون قلق النّاس وخوفهم من مواجهة ذلك في حياتهم العامّة، وتلك هي الطريقة التي يفقد فيها الإنسان عقلانيّة التحرّك، ويستسلم لسذاجة العاطفة والغريزة في ما يقوم به من أعمال، لأنَّ العاقل هو الّذي يفكر في نجاة نفسه عندما يتحرَّك في إثارة الآخرين نحو نجاة أنفسهم.

إنَّ قيمة العقل هي في إدراكه الفوارق العمليَّة بين حسن الأشياء وقبحها، ثُمَّ الاتجاه نحو التَّطبيق العمليّ لمدركاته، ونلاحظ في كلمة {وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ}، أنها ليست مجرَّد جملة اعتراضيّة يُراد بها تصوير حالتهم أمام الارتباط بالكتاب، بل هي لفتة نقديَّة للواقع في معرض الإيحاء لهم بالاستغراق في ما يتلونه من آيات الله، من أجل وعيٍ أعمق وسلوك أفضل، لما في ذلك من التَّأنيب والتَّبكيت، حيث يعيشون الغفلة العميقة عن أنفسهم في الموقف الّذي يملكون حضور الوحي الّذي يهزّ الغفلة في أعماق النفس، بصرخة الحقّ ويقظته.

ونلاحظ في كلمة: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}، أنَّ الآية تريد أن تثير في أنفسهم الشّعور بأنَّ المشكلة لديهم ليست مشكلة علم، ليُصار إلى توجيههم نحو الأخذ بأسباب العلم، بل هي مشكلة تجميد للعقل في المسائل الّتي تدخل في حساب التّمييز العمليّ بين الحسن والقبيح.

 وقد يثار هنا سؤال:

هل نفهم من الآية أنَّ على الإنسان الّذي لا يملك الإرادة القويَّة في إخضاع خطواته العمليّة لمبادئه، أن يترك الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، لئلا يكون ممن يأمر النَّاس بالبرِّ وينسى نفسه، ما يجعل من هذه الفريضة فريضة على الّذين يملكون العصمة في العمل في ما يجب وفي ما يحرم؟

والجواب: إنَّ الآية ليست واردة في هذا الاتجاه، بل كلّ ما هناك، أنها تريد أن تثير في نفوس العاملين في سبيل الدّعوة إلى الله، بأسلوب التّوبيخ والتأنيب، الشّعور بضرورة التخلّص من هذه الازدواجيّة بين موقف الدّاعية وموقف المؤمن، للتوصّل إلى الوحدة بين الكلمة والموقف، لأنَّ ذلك يتصل بنجاح الدّعوة عندما يعظ الدّاعية النّاس بأقواله وأفعاله، وبشخصيّة الداعية عندما تستقيم خطاه في اتجاه خطوات فكره وإيمانه.

أمّا قضيّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي من القضايا الواجبة التي لا ترتبط بالممارسة العمليّة لما يأمر به الإنسان ولما ينهى عنه كشرط للوجوب لتكون فريضة للمعصومين عمليّاً، لأنَّ من واجب الإنسان أن يخوض صراع الإيمان والضّلال على جبهتين: داخليّة يصارع فيها الانحراف في خطواته، وخارجيّة يصارع فيها الضّلال في حياة الآخرين. وعلى ضوء ذلك، كان الجهاد الأكبر جهاد النّفس، والجهاد الأصغر جهاد أعداء العقيدة بالحرب، يسيران جنباً إلى جنب كفريضتين شرعيّتين.

إنَّ المسلمين الذين جاهدوا الكفّار بالسّلاح، وجاهدوا الكفر بالدّعوة، لم يكونوا معصومين، بل كانوا يعصون الله وينحرفون عن الخطّ في بعض الحالات، ثُمَّ يرجعون إلى هداهم عندما ينتبهون ويتذكّرون.

وخلاصة الفكرة: إنَّ الآية ليست في معرض عدم جواز الجمع بين سلبيّة العمل وإيجابيّة الدّعوة، بل هي في مقام التّوبيخ والإثارة ضدّ هذا الواقع من أجل تصحيح السّلوك واستقامة المسيرة، ليجتمع للدّاعية وعي الدعوة وسلامة التّطبيق، لئلا يتّخذ الآخرون من انحراف الداعية مبرّراً للعذر في الانحراف، ووسيلة لمحاربة الدّعوة.

*من كتاب "تفسير من وحي القرآن".

يقول تعالى في كتابه العزيز: {أَتَأْمُرُونَ النّاس بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.

إنَّ هذه الآية تواجه اليهود بالواقع العمليّ المنحرف الذي كانوا يعيشونه في عصر الدعوة، فقد جعلوا من أنفسهم حماة الكتاب والشّريعة، ودعاة الاستقامة على الحقّ، وقادة النّاس إلى الخير، وذلك من خلال الدّور الذي فرضوه لأنفسهم، ولكنَّهم في الوقت نفسه، كانوا خائنين لهذا الدّور في ممارساتهم العمليّة، فكانوا بمنزلة الّذين ينسون أنفسهم في حساب المسؤوليّة، فلا يعيشون القلق أمام قضيّة المصير في الدنيا والآخرة، بينما نراهم يثيرون قلق النّاس وخوفهم من مواجهة ذلك في حياتهم العامّة، وتلك هي الطريقة التي يفقد فيها الإنسان عقلانيّة التحرّك، ويستسلم لسذاجة العاطفة والغريزة في ما يقوم به من أعمال، لأنَّ العاقل هو الّذي يفكر في نجاة نفسه عندما يتحرَّك في إثارة الآخرين نحو نجاة أنفسهم.

إنَّ قيمة العقل هي في إدراكه الفوارق العمليَّة بين حسن الأشياء وقبحها، ثُمَّ الاتجاه نحو التَّطبيق العمليّ لمدركاته، ونلاحظ في كلمة {وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ}، أنها ليست مجرَّد جملة اعتراضيّة يُراد بها تصوير حالتهم أمام الارتباط بالكتاب، بل هي لفتة نقديَّة للواقع في معرض الإيحاء لهم بالاستغراق في ما يتلونه من آيات الله، من أجل وعيٍ أعمق وسلوك أفضل، لما في ذلك من التَّأنيب والتَّبكيت، حيث يعيشون الغفلة العميقة عن أنفسهم في الموقف الّذي يملكون حضور الوحي الّذي يهزّ الغفلة في أعماق النفس، بصرخة الحقّ ويقظته.

ونلاحظ في كلمة: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}، أنَّ الآية تريد أن تثير في أنفسهم الشّعور بأنَّ المشكلة لديهم ليست مشكلة علم، ليُصار إلى توجيههم نحو الأخذ بأسباب العلم، بل هي مشكلة تجميد للعقل في المسائل الّتي تدخل في حساب التّمييز العمليّ بين الحسن والقبيح.

 وقد يثار هنا سؤال:

هل نفهم من الآية أنَّ على الإنسان الّذي لا يملك الإرادة القويَّة في إخضاع خطواته العمليّة لمبادئه، أن يترك الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، لئلا يكون ممن يأمر النَّاس بالبرِّ وينسى نفسه، ما يجعل من هذه الفريضة فريضة على الّذين يملكون العصمة في العمل في ما يجب وفي ما يحرم؟

والجواب: إنَّ الآية ليست واردة في هذا الاتجاه، بل كلّ ما هناك، أنها تريد أن تثير في نفوس العاملين في سبيل الدّعوة إلى الله، بأسلوب التّوبيخ والتأنيب، الشّعور بضرورة التخلّص من هذه الازدواجيّة بين موقف الدّاعية وموقف المؤمن، للتوصّل إلى الوحدة بين الكلمة والموقف، لأنَّ ذلك يتصل بنجاح الدّعوة عندما يعظ الدّاعية النّاس بأقواله وأفعاله، وبشخصيّة الداعية عندما تستقيم خطاه في اتجاه خطوات فكره وإيمانه.

أمّا قضيّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي من القضايا الواجبة التي لا ترتبط بالممارسة العمليّة لما يأمر به الإنسان ولما ينهى عنه كشرط للوجوب لتكون فريضة للمعصومين عمليّاً، لأنَّ من واجب الإنسان أن يخوض صراع الإيمان والضّلال على جبهتين: داخليّة يصارع فيها الانحراف في خطواته، وخارجيّة يصارع فيها الضّلال في حياة الآخرين. وعلى ضوء ذلك، كان الجهاد الأكبر جهاد النّفس، والجهاد الأصغر جهاد أعداء العقيدة بالحرب، يسيران جنباً إلى جنب كفريضتين شرعيّتين.

إنَّ المسلمين الذين جاهدوا الكفّار بالسّلاح، وجاهدوا الكفر بالدّعوة، لم يكونوا معصومين، بل كانوا يعصون الله وينحرفون عن الخطّ في بعض الحالات، ثُمَّ يرجعون إلى هداهم عندما ينتبهون ويتذكّرون.

وخلاصة الفكرة: إنَّ الآية ليست في معرض عدم جواز الجمع بين سلبيّة العمل وإيجابيّة الدّعوة، بل هي في مقام التّوبيخ والإثارة ضدّ هذا الواقع من أجل تصحيح السّلوك واستقامة المسيرة، ليجتمع للدّاعية وعي الدعوة وسلامة التّطبيق، لئلا يتّخذ الآخرون من انحراف الداعية مبرّراً للعذر في الانحراف، ووسيلة لمحاربة الدّعوة.

*من كتاب "تفسير من وحي القرآن".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية