في اليوم الأوَّل من محرَّم، تبدأ سنة إسلاميّة جديدة من تأريخ الهجرة النبويّة الشّريفة، ولا بدَّ للإنسان من أن يتوقَّف أمام هذا الحدث في دائرتين:
الأولى: دائرة النفس. الثانية: دائرة الأُمّة.
لأنَّ السنة تمثِّل حركة الزّمن في عمرك، فأنتَ عندما تترك سنة وتدخل في سنة أخرى، فإنَّ معنى ذلك أنّك خطوت خطوةً في عمرك نحو النهاية، وعشت في عمرك سنةً من المسؤوليّة أمام الله، وتستقبل سنة أخرى من المسؤوليّة.
كما أنَّ هذه السنة تمرّ على الأُمّة في قضاياها العامّة والخاصّة.. ولذلك، فإنَّ على الأُمّة أن تقف في نهاية سنة وبداية أخرى، لتدرس كلّ حركة تقدّمها أو تراجعها، وكلّ حركة هزائمها أو انتصاراتها، وكلّ حركة وحدتها وانقسامها.
والإنسان، سواء كان فرداً أو أُمّة، لا بدَّ له من أن يحسب حساب مسؤوليَّاته في حركة الزمن في وجوده، وفيما يسجّله وجوده الحركيّ في كتابه.. والله سبحانه وتعالى حدَّثنا عن أنَّ هناك كتاباً للفرد، وأنَّ هناك كتاباً للأُمّة، وأنّ الفرد سيدعى إلى كتابه ليقرأه وليحاسِبَ نفسه بحسب تفاصيله، وأنَّ هناك كتاباً للأُمّة لا بدَّ لها من أن تحاسب نفسها من خلاله في واقع مسؤوليّاتها، فالله يقول وهو يحدّثنا عن كتاب الفرد: {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}[الإسراء: 14]، ويقول وهو يتحدّث عن كتاب الأُمّة: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا}[الجاثية: 28].
ففي دائرة الذّات، أنت وأنا والآخرون، عندما ندخل السنة السابعة عشرة بعد الأربعمائة والألف، علينا أن ندرس ونتذكَّر:
كيف كنَّا في السنة السادسة عشرة؟ كيف هو إيماننا؟ هل كبر أو صغر؟ كيف هي ثقافتنا الإسلامية؟ هل توسَّعَت أو انكمشت؟ كيف هي عبادتنا لله؟ هل أخلصنا لله في العبادة أكثر، أو أنَّنا أقفلنا قلوبنا عن عبادته أكثر؟ كيف هو التزامنا بالصّدق والحقّ في كلماتنا؟ هل نحن الآن أكثر صدقاً ممّا مضى أو أقل؟ هل نحن أكثر حقّاً فيما نتكلَّم به، أو أنّنا أقلّ من ذلك؟
وفي علاقتك بالناس، عليك أن تفكِّر:
هل كنتَ تأكل الحرام؟ هل كنت تلعب اللّعب الحرام؟ هل كنتَ تلهو اللّهو الحرام؟ هل كنتَ تمارس الشهوة الحرام، واللّذّة الحرام؟ هل كنت تقف الموقف الحرام؟ هل كنتَ تؤيّد التأييد الحرام؟ هل كنتَ ترفض الرّفض الحرام؟ فإنَّ في كلّ شيء حلالاً وحراماً؛ في الأكل حلال وحرام، وفي الشّرب حلال وحرام، وفي اللّعب واللّهو واللّذّة والموقف تأييداً أو رفضاً.
كيف كانت مواقفنا؛ هل كنّا في موقف الحقّ، مع أهل الحقّ، أو في موقف الباطل، وكيف نحن الآن؟ وإذا كنّا في الباطل سابقاً، فهل نحن الآن على الحقّ؟ وإذا كنّا في الحقّ سابقاً، فهل نحن على الباطل الآن؟
لا بدَّ أن نركّز كلمة الحقّ في حياتنا؛ فعندنا حقّ في العقيدة، وحقّ في الشّريعة، وفي السياسة، والاجتماع، والحرب والسِّلم.
هل إنَّ كلماتنا تحرَّكت من أجل الخير للنّاس، أو من أجل الشرّ لهم؟ هل كنّا نتكلَّم عن وعي للكلمة التي نتكلَّمها، أو كنّا كما قال الله: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ}[المدثّر: 45]، نتكلّم من دون وعي لمسؤولية الكلمة أمام الله.
فكلماتنا هي من أعمالنا، وقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليّ (ع): "ومَنْ عَلِمَ أنَّ كلامه مِنْ عمله، قلَّ كلامه إلَّا فيما يعنيه"1، وعن رسول الله (ص): "وهل يكبّ النَّاس على مناخرهم في النَّار إلَّا حصائد ألسنتهم يوم القيامة؟!"2، أي أنَّ ما يحصده لسانك من شرّ؛ عندما تستعمل لسانك في الغيبة، والنّميمة، والفتنة بين الناس، والتجسُّس على المسلمين، وتأييد الظّالمين وتبرير أفعالهم، وخذلان المؤمنين وما إلى ذلك، كلّه يخضع للحساب.
ولذلك، لا بدَّ للإنسان من أن يدرس قاموس كلماته؛ فبعض الناس ربّما ورثوا في قاموس كلماتهم كلمات الفحش والسّباب، حتّى إنّ بعضهم عاش في بيئة علق في لسانه من خلالها سبّ الله، والدّين، والمذهب.
عندما ترجع من العطلة الصيفيّة إلى بيتك، ألا تعمل عملية "نفض" للبيت حتّى تنظّف بيتك؟ كذلك في هذا الموسم من السنة الجديدة، لا بدّ من أن ننظّف ألسنتنا، ونعيد النظر في كلماتنا وأوضاعنا، فربّما كانت لدينا تجربة في حياتنا العائليّة، أو مع الجيران، أو مع النّاس، في مختلف المجالات، وهذه التّجارب قد لا تكون في خطّ التقوى، فلا بدَّ من أن نعمل على إخضاعها لتقوى الله سبحانه وتعالى.
يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ...}[الحشر: 18]، بأن نفكِّر دائماً في المستقبل، والمستقبل العميق عندنا ليس هذا المستقبل الّذي عمره عشرون سنة أو خمسون سنة، بل مستقبل الخلود عنه الله.
*من كتاب "حديث عاشوراء".
[1]هج البلاغة، باب الحكم، ح:349.
[2]حار الأنوار، ج:68، باب:78، ص:415، ح:78.