كتابات
25/11/2013

الدّين وعوامل الجُمود والتطوّر

الدّين وعوامل الجُمود والتطوّر

هل الدّين عامل تخلف وجمود في الذهنية التي ينتجها في الوجود الإنساني، أو هو عامل حركة وتنمية فيه؟

هذا هو السّؤال الكبير الّذي لا يزال يطرح نفسه أو يطرحه الكثيرون في ساحة الصّراع بين الدّين والعلم، أو بين الدّين والحياة، أو بين الدّين والتطوّر.

  وهكذا رأينا أنّ الوحي الّذي هو حالة غيبيَّة، يؤكّد في الإنسان التجربة الحيّة في الخطِّ الفكري والعملي، ليقوده إلى الإيمان من موقع النّتائج العقليّة في آفاق الفكر، والنّتائج العلميّة في آفاق التجربة، فكيف تكون السلبيّة الّتي تؤدّي إلى الجمود والتخلّف، وتبتعد عن خطّ التّنمية في الإيمان بالوحي؟!

ثم الحديث عن الشّريعة؛ هل هي خط تخلّف أم خط تنمية؟ قد يلاحظ البعض ثبات النصّ فيما تعنيه مسألة النطاق التشريعي في استمرارها في امتداد الزّمن، على هدى الكلمة المأثورة: «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرامٌ إلى يوم القيامة»، فيؤكّد أنّ مدلول ذلك هو أن الزمن يتغيّر والشريعة ثابتة، وأنّ الحاجات تتطوَّر والأحكام جامدة، ما يوحي بأنّ الشّريعة تقف ضدّ تغيير الزّمن وتطوّر الحاجات، بحيث تقف لتحارب كلّ حركةٍ للتّغيير أو انطلاقةٍ للتطوّر، باعتبار أنّ التغيير في الواقع يفرض التّغيير في الحلول التي تعالج مشاكل الواقع. فكيف يمكن للتنمية الاقتصاديّة أن تتحرّك في دائرة التّشريعات التي انطلقت في المجتمع الرّعويّ أو الزراعيّ، فعالجت مشاكله من خلال الخصوصيات المتصلة بمشاكل المرحلة الّتي كان يعيشها الناس هناك؟ وكيف يمكن أن يواجه التّشريع حاجات المجتمع الصّناعي ومشاكله، وقضايا الاقتصاد العام المرتبط بعلاقة الدّولة بالنّاس وبالدّول الأخرى في مسائل الإنتاج والتوزيع في دائرة القطاع الخاصّ والقطاع العامّ، وفي التعقيدات الجديدة للعلاقات الاقتصاديّة التي لم تكن مطروحة في المجتمعات السابقة، إلاَّ في الخطوط العامّة التي تحتاج إلى آلاف الخطوط التفصيليّة الباحثة عن آلاف الأحكام الجديدة التي تنظّم للنّاس أوضاعهم من خلالها؟ وهكذا نشعر بالحاجة إلى استبدال كثير من الأحكام القديمة بأحكام جديدة، كما نحتاج إلى تشريع أحكام مستحدثة في الحالات الّتي لم يأت فيها تشريعٌ في نصّ قرآني أو نبويّ، الأمر الّذي يوحي بأن الشريعة ليست خطّاً ثابتاً مستمرّاً شاملاً لكلّ قضايا الحياة في كلياتها وجزئياتها.

ولكن قد يلاحظ الفقيه الباحث عن أحكام الله في الحياة، أنّ ثبات النصّ الّذي هو حقيقة حاسمة في مصدره القرآني أو النبويّ القطعيّ، لا يعني ثبات الاجتهاد في فهم عناصر النصّ، لأنّ الاجتهاد لا يمثّل الحقيقة الحاسمة، بل يمثِّل رأي المجتهد فيما يملكه من عناصر الفهم للنصوص، فيبقى في مستوى الشرعيّة، حتى يأتي هناك رأي أكثر صواباً وأقرب إلى الواقع من وجهة النّظر الجديدة.. وهكذا يبقى للبحث عن الحقيقة موقعٌ في خطِّ الاجتهاد الخاضع للظنون أكثر مما هو خاضع لليقين، أو الّذي قد يستيقن برأي في وقت ثم ينكشف له خطأه في وقت آخر. ثم إنّ مسألة تغير الحاجات قد تختزن في داخلها تغيّر الموضوعات، فيتبدّل الحكم بتبدّل الموضوعات، وقد تفرض اختلاف الظروف والشروط اختلاف بعض خصوصيّات الحكم تبعاً لذلك، كما هو الشّأن في العناوين الأوليّة والعناوين الثانويّة التي تختلف الأحكام باختلافها. وربما تكون المسألة أنّ تغيّر الحاجات لا يمثّل التّغيير في العناوين الكبيرة للحكم الشّرعيّ، بل يمثّل التّغيير في الجزئيّات الخاضعة لقاعدة واحدة تنطبق على الجزئيّات القديمة والجديدة.

وهناك إمكانات كبيرة للاجتهاد في معالجة كثير من المشاكل والأوضاع المستحدثة لاستنباط أحكام شرعيّة على أساس المرونة الحيويّة للقواعد الاجتهاديّة، فيما توحي به النّصوص المتنوّعة في مواجهة كلّ جديد.

وإذا كانت بعض النصوص قد عالجت مفردات الواقع الاقتصادي في المجتمع الرّعويّ والزّراعيّ، فإنّ هناك قواعد عامّة تنفتح على المجتمع الصّناعيّ في كلّ مفرداته، على مستوى العلاقات الاقتصادية في قضايا الإنتاج والتوزيع، وهذا ما نلاحظه في حركة الاجتهاد الفقهي الّتي واكبت كل التطوّرات الأخيرة، فاستنبطت لكلّ واقعة حكماً شرعيّاً، فلا فراغ في الساحة الفقهيّة فيما يمكن أن يقف فيه المسلم على مسألة من المسائل.

لقد تحرّكت ذهنيّة التّنمية في المسائل الفقهيّة في مواجهة كلّ المتغيّرات على صعيد المشاكل الإنسانيّة في الواقع المعاصر المتطوِّر، وانطلقت في اتجاه الواقع العمليّ لتواكب حركة التنمية الاقتصاديّة على صعيد التّجربة الإسلاميّة الاجتهاديّة.

حيويّة الشّريعة وغناها

هذا في الإطار العام، أمّا في الإطار التفصيليّ الخاصّ، فإنّنا نجد في مفردات الشريعة الكثير من التشريعات التي تدعو إلى العمل المنفتح على كلّ حاجات الحياة، فتعتبر العمل المادّيّ عبادةً وجهاداً وانطلاقةً في مواقع رضا الله ومحبّته، كما ترى في البطالة والكسل والضّجر أخلاقاً سلبيّةً يبغضها الله، وتتحدّث عن عمليّة صنع القوّة في كلّ المجالات الّتي تنفتح على الحريّات بكلّ ألوانها وأشكالها في المواقع السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، بحيث تتحرّر حاجات الإنسان من سيطرة الآخرين على أساس سياسة الاستقلال والاكتفاء الذّاتيّ، وتلتفت إلى الزّمن لتوحي بأنّه يمثّل مسؤوليّة الإنسان في إنتاج العمل الخيّر الذي يبني الحياة على أساس القوَّة الفردية والاجتماعية للذات وللأمّة، في حركة تصاعدية تجعل الزمن المستقبل خيراً من الماضي، والعمل الأخير خيراً من العمل الأوَّل، وتنطلق بالكلمة المأثورة عن الإمام عليّ(ع): «اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً»، ليتوازن الإنسان في الحياة بين خطّ العمل كما لو كان خالداً، وخطّ المسؤوليّة كما لو كان ينتظر الموت غداً.. بحيث يبقى العمل المتحرّك قضيّة الإنسان في الحياة، ومسؤوليّة الحياة في الإنسان.

إنّ الدّراسة الدّقيقة الشّاملة المقارنة للشّريعة الإسلاميّة، توحي للباحثين بأنَّ الإسلام في شريعته يمثّل الخطّ الأصيل الّذي يمنح الفرص الكثيرة لكل قضايا التنمية في جميع المجالات، ليجعل من الإنسان إنسان الله الّذي يجسّد إرادة الله في الكون، في تنميته بما يحقّق للحياة نموّها وازدهارها، وللإنسان تقدّمه وتطوّره، لأنّ الإنسان هو العنصر الأساس في حركة الشّريعة الّتي جاءت لخدمة الإنسان في مسؤوليّته في إدارة الحياة على الصّورة الّتي يرضاها الله.

ولكنّ المشكلة هي في التخلّف الّذي يعيشه بعض الدّارسين للإسلام، في تجزيئيّة المواقع والمجالات والأحكام، ما يبعد البحث عن الوصول إلى إعطاء الصّورة الكاملة الصّحيحة المتوازنة.

ويبقى الحديث عن اليوم الآخر، عندما يقوم النّاس لربِّ العالمين، ليجسِّد أعلى مواقف الذهنيّة المسؤولة الّتي لا تستريح لقضايا الجزاء في الدّنيا، بل تتجاوزها لتضمّ إليها قضايا الجزاء في الآخرة، ليشعر الإنسان بأنّه المسؤول عن كلّ طاقاته وطاقات الحياة، ليفجِّرها بما ينفع النّاس في كلّ المجالات، ليتلقّى جزاءه الكبير عند الله.

إنّ المسؤوليّة الشّاملة المتحرّكة، الّتي تمثّل ـ في بُعدها الإسلامي ـ معنى الأمانة في حياة الإنسان، تدفعه إلى الانطلاق في حالة طوارئ منفتحة على كلّ حاجات الحياة وقضاياها، وعلى كلِّ طاقات الإنسان وثرواته، ليتحرّك بها نحو العمل المجدي المتنوّع الذي يبني للحياة قوَّتها في خطِّ الله، ويحقّق للإنسان أهدافه في الحصول على رضا الله، استجابةً للنّداء الإلهيّ الشّامل: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ[1].

حركة النبيّ في الواقع

ويبقى الحديث عن الغيب في فكرة النبيّ(ص) الّذي يتلقّى الوحي من الله، أو فكرة الشّريعة الّتي هي نتيجة للوحي الإلهيّ.

والسّؤال الّذي يفرض نفسه في هذه الدّائرة: ما هي السلبيّة في ذلك؟

وقد يلاحظ البعض، أنّ فكرة «النبيّ» و«الوحي» و«الشّريعة الإلهيّة»، تحبس الإنسان في زنزانةٍ ضيِّقةٍ من الحياة، على أساس القداسة الّتي تمثّلها هذه المفردات، فلا بدَّ من الخضوع للنبيّ الّذي يتّصل بالله بطريقةٍ غيبيّةٍ، فلا مجال للاعتراض عليه في أيّ مناقشةٍ أو جدال، لأنّ ذلك يمثّل الضّلال والكفر والهرطقة الدّينيّة، ولا بدَّ من الانفتاح على الوحي كحقيقةٍ إلهيّةٍ مقدّسة في كلّ المفاهيم والمناهج والقضايا العامّة في الحياة، كما لا بدَّ من الالتزام بالشّريعة على أساس أنّها تمثّل إرادة الله، فيما يتمثّل فيها من مفهوم «حكم الله» الّذي يمثّل الانقياد له معنى الإيمان في بعده العمليّ. ويقولون إنّ هذا يعني الجمود الّذي يمتنع الفكر معه من الحركة في مواجهة الفكر الدينيّ، كما يمنع الإنسان من التّفتيش عن حلول لمشاكله المعقَّدة في تطوّرات الواقع في قضاياه ومشاكله، إلاَّ في نطاق الاجتهادات والتّأويلات المتنوّعة في دائرة الشّريعة. ولا يبقى للإنسان مجالٌ لحركة الفكر إلاَّ في الفراغات الفكريّة الّتي لم يعالجها الفكر الدّينيّ بطريقةٍ تفصيليّةٍ، أو في المجالات العلميّة الّتي لم يأتِ في تحديدها نصّ معيّن.

وقد نلاحظ ـ أمام هذه الفكرة ـ أنّ هذه المناقشة لا تنظر إلى هذه المفردات في حركة الواقع، بل تنظر إليها في آفاق التّجريد، كما لو كانت من القضايا الّتي تنطلق في أجواء الإيحاءات الفكريّة الذاتيّة في مدلولها المطلق، بعيداً عن طبيعتها الواقعيّة.

سلاح النبيّ البرهان والحجّة

فالنبي، في المفهوم الديني الإسلامي، شخصيّة واقعيّة بشريّة، لا يملك في تكوينه الذاتي أيّ سرّ إلهيّ،ٍ فيما تعنيه هذه الكلمة من اختزان النبيّ لبعض خصائص الألوهة، ولا يعيش في الضّباب الغيـبيّ الّذي يجعل منه شخصيّةً تحيط بها الأسرار الخفيَّة المقدَّسة الّتي تمنع من فهمه ودراسة خصائصه الحقيقيَّة، وبذلك، فإنَّه لا يمثِّل ـ في الوعي الدّيني ـ «الشخصيّة الغيبيّة»، حتى إنَّه يقف عاجزاًَ أمام التحدّيات التعجيزيَّة الّتي ينطلق بها الكافرون في اقتراحاتهم المتنوّعة المنطلقة من صورة النبيّ في مفهومهم، باعتباره الشّخص القادر على تغيير الكون من حوله، وتقديم المعجزات لكلّ من يطلبها أو يقترحها، ليقول لهم إنّه بشر في قدرته، كما أنّه بشر في خصوصيّات حياته، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً* أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً* أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً[2]، فهو لا يقف موقفاً استعراضيّاً أمام هذه الاقتراحات ـ التحدّيات، بل يقف موقفاً واقعيّاً، من خلال قدرته الذاتيَّة الّتي لا يتميَّز فيها عن قدرات البشر الآخرين، لأنَّه لا يملك أيَّة ميزة عليهم في مدى بشريَّته، بل الميزة الوحيدة هي رسوليَّته، كما أعلن عن ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً[3].

وهو ـ في الصّورة القرآنيّة ـ يتلقّى العلم من ربِّه، فلا يملك أيَّ قدرة ذاتيَّة على العلم بالمغيّبات، كيوم القيامة، أو غيره، مما لا يملك الوسائل الطبيعيّة لمعرفته، كما لا يملك أيّ قوّة خاصّة على دفع الضّرر أو جلب النّفع لنفسه إلاَّ ما شاء الله، وذلك في قوله تعالى:

﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ[4]، ﴿قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[5].

إنَّ كلّ دوره هو أن يبلّغ الرّسالة، فينذر أو يبشّر بها، ويقود النّاس إلى الخطوط التفصيليّة في مناهجها وشرائعها ووسائلها وغاياتها، وذلك من خلال الأساليب الحكيمة الّتي تحترم في الإنسان فكره، فتجادله بالّتي هي أحسن، وتنطلق معه على أساس البرهان والحجّة، ليصل إلى المعرفة اليقينيّة والإيمان الواعي من خلال ذلك كلّه، بعيداً عن أيّ حالة قهرٍ أو اضطهاد.

ثم نلاحظ أنّ النّهج القرآني في تصوير شخصيّة النّبيّ يؤكّد المسؤوليّة الفرديّة للنبيّ في التزامه الفكريّ العقيديّ، وفي أمانته الرّساليّة وفي استقامته العمليّة، تماماً كأيّ مسلم آخر، لتكون له شخصيّة المسلم الملتزم، إضافةً إلى شخصيّة الرّسول المبلِّغ، من دون أن يكون أيّ امتياز خاصّ يبعده عن نتائج المسؤوليّة إذا انحرف عن الخطّ المستقيم في العقيدة والعمل. وهذا ما جاء في قوله تعالى:

﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[6].

﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ* لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ[7].

﴿عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ[8].

﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[9].

وهكذا نجد أنّ الشخصيّة النبويّة في التصوّر القرآنيّ، ليست شخصيّة ضاغطةً على الوجدان الإنساني، بحيث يتطلّع النّاس إليها في حالة انبهارٍ ضبابيّ خفيّ في الآفاق العليا البعيدة عن مدى التصوّر، الغارقة في الأسرار الخفيّة، بل هي شخصيّة إنسانيّة تتميّز بدورها الرّساليّ في الوحي الإلهيّ الّذي يدعو النّاس إلى الإيمان به من خلال العقل الّذي يبحث عن الحجّة، ويفتّش عن اليقين، ما يبرّر له الدّخول في جدلٍ طويل مع النبيّ في الأدلّة القاطعة على رسالته، تماماً كما في أيّة حالة يتطلب فيها الإنسان الحجة القاطعة مع أيِّ شخص آخر. وإذا أردنا أن نصل إلى التجربة الحيّة للنبيّ، فإنّنا نراه يتحرّك مع النّاس بكلّ بساطةٍ وعفويّة، بحيث لا يفرض نفسه عليهم من موقع الدّرجة العليا الّتي يتميّز بها، بل يعيش معهم كأحدهم، ويبحث معهم مشاكلهم، ويعفو عنهم، ويلين في كلامه لهم، ويفتح قلبه لكلّ آلامهم وأحلامهم، ويحرص عليهم ويرأف بهم، ويجالسهم في غير تكلّف، ويقابلهم في غير ترفّع، وكان يشجّعهم على أن يسألوه عن كلّ شيء، ويجادلوه في كلّ قضيّة. وهكذا، لم تكن القداسة الرّساليّة للنبيّ وسيلةً من وسائل تأكيد شخصيّته الذاتيّة، بحيث تكون عنصر ضغط يلغي وجود الآخرين، إلاَّ بقدر ما تتّصل المسألة بالالتزام الرّساليّ الّذي لا يمثّل التزاماً بشخصه، بل يمثّل التزام الإنسان بقناعاته المنطلقة من أسلوب الرّسالة في الإقناع بالحجّة والبرهان.

وإذا كانت الممارسات الدينيّة قد جعلت المؤمنين يستغرقون في ذات النبيّ بدرجة أكبر من استغراقهم في الرّسالة، فبدأت التّقاليد الدينيّة تتحرّك في الصورة الغيبيّة لشخصيّة النبيّ، بحيث أصبح شخصاً غامضاً في الوعي الدّيني من خلال الأسرار المحيطة به، إذا كانت المسألة تتحرّك في هذا الاتجاه، فإنّنا نلاحظ أنّ ذلك كان من تأثير الثّقافات الأخرى الّتي امتزج فيها التفكير الدّيني بالاتجاهات الفلسفيّة الإشراقيّة وغيرها، بحيث تحوَّلت العقيدة إلى منهج فلسفيّ بعيد عن النّهج الإسلاميّ فيما يريد التصوّر القرآني للنّاس أن يتمثّلوه في التزامهم الوجداني بالشّخصيّة النبويّة.. وبذلك فلن يكون الدّين مسؤولاً عنه.

أمّا قضيّة الوحي، فإنّه يمثّل الكلمة الإلهيّة الّتي يؤمن بها الإنسان، من خلال عناصر الإيمان الّتي تؤكّد أيّ حقيقةٍ من حقائق الحياة في القناعات الذاتيّة الفكريّة للإنسان، وهو مصدر من مصادر المعرفة المعصومة في مصدرها الّذي هو الله خالق الإنسان، العالم بما يصلحه وما يفسده، فعلى الإنسان أن يلتزمه في مضمونه الفكريّ والتّشريعيّ، من خلال إيمانه بصحّته من ناحية إجماليّة، فليست المسألة بعيدةً عن اختيار الإنسان الفكريّ، بل هي تأكيد لذلك، من خلال التزامه الإيمانيّ الّذي يخضع لمعطياته الحقيقيّة، تماماً ـ من ناحية تقريب الفكرة ـ كما هو الالتزام بالإلهام الّذي قد يفرض نفسه على الذّهن الإنسانيّ في كثير من قضايا الحياة، وكما هو الالتزام العمليّ بالقيادة الحكيمة الّتي يتبعها الإنسان عندما يؤمن بكفاءتها في تخطيط حياته وفي إدارة شؤونه.

الإيمان الواعي

ثم إنّ الملحوظ في مفردات هذا الوحي، أنّها لا تقدّم نفسها للإنسان على أساس دعوته إلى الإيمان الأعمى بمضمونها الفكريّ، بل تقدّم نفسها إليه كفكرةٍ قريبةٍ إلى الوجدان، منفتحةٍ على العقل، متحرّكةٍ في عناصرها الأوّلية في عالم الحسّ، لتدعو الإنسان إلى أن يفتح وجدانه على مضمونها، ويحرّك عقله في قضاياها، ويطوف بكلّ حواسّه في الآفاق الكونيّة، والمواقع الإنسانيّة، ليجمع العناصر الأولى للتّفكير فيها.. ولتتحدّث للإنسان عن المعادلات الفكريّة والبديهيّات الوجدانيّة في طريقة الاستدلال عليه، ولتتحدّى فيه أفكاره العلميّة للحوار وللجدال، والانطلاق بمسؤوليّةٍ كبيرة في الوصول إلى الحقيقة.

وبذلك كان الإيمان بالوحي لا يبتعد عن الاستغراق الفكريّ في قضاياه العقيديّة، وفي مناهجه العمليّة، ما يعني أنّ الوحي مصدرٌ للإيمان من خلال الحقيقة المعصومة في مصدره، ولكنَّ الإيمان حركة في اتجاه الفكر الباحث عن مضمون الحقيقة، في قناعاته الذاتيّة أنّ الوحي لا يلغي فكر الإنسان، بل يؤكّده ويدفعه إلى التّنامي والتّسامي في الآفاق العليا للمعرفة، الأمر الّذي يوحي بأنّه مصدرٌ للمعرفة يضع الإطار للإنسان، ويحدِّد ملامح الصّورة، ويدفع بالفكر الإنسانيّ إلى أن يتعرّف طبيعة الإطار والصّورة بطريقةٍ فكريّةٍ حاسمة.

وهذا ما نلاحظه في المنهج القرآنيّ في الحوار، والخطّ الفكريّ في حركة المعرفة، وتأكيد التجربة كوسيلة من وسائل الوصول إلى الحقيقة وتكوين القناعات، الأمر الّذي جعل الطّابع العام للقرآن طابعاً حواريّاً، بحيث كان التحدّي الكبير الّذي أطلقه في مواجهة أصحاب التيّارات المضادَّة، ما جاء في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[10]. ﴿هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ[11].

حتّى إنّ القرآن يؤكّد أنّ القضيّة بين الله وعباده في خطّ المسؤوليّة، هي قضيّة الحجّة البالغة على عباده ﴿قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ[12]، فلا يعذّب الله عبداً على أيِّ التزام فكريّ مضادّ أو سلوكٍ عمليّ منحرف، إلاَّ بعد إقامة الحجّة عليه من عقله فيما يستقلُّ به عقله، أو من رسله فيما يبلغه رسله، وهذا ما نستوحيه في قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً[13].

﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ[14].

وقد جاء في بعض الكلمات المأثورة: «إنّ العقل رسول من داخل، والرسول عقل من خارج»، كدلالة على قيمة العقل في القيمة الدينيّة، بحيث إنّ العقل يمثّل رسول الله الداخليّ الّذي تقوم به الحجّة على الإنسان، كما أنّ الرّسول يتحوّل في طروحاته إلى حركة عقليّة تملأ الفراغ الّذي لا يستقلّ به العقل. وفي ضوء ذلك، كان العنوان للأسلوب العمليّ الحكيم في الدّعوة، هو الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالّتي هي أحسن، كما في قوله تعالى:

﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ[15].

فإنّ هذه المفردات هي الّتي تنفذ إلى وجدان الإنسان وعقله، لتثير فيهما الرّغبة في التّفكير، ولتقودهما إلى الانفتاح على مواقع الحكمة في الأفكار والكلمات، ومنابع الإحساس في الإيحاءات واللّفتات، ومواطن الحوار العقلاني الهادئ بالطّريقة الفضلى في الأسلوب والجوّ والموقف في مجالات الصّراع.. وهكذا كان الجدال عنواناً من عناوين الرّسالة في حركتها الفاعلة مع الّذين يقفون ضدها.

ثم كانت المسألة ـ في مضمون الوحي ـ الدّعوة المتكرّرة إلى التّفكير في خلق السّموات والأرض وما فيهما، وفي خلق الإنسان في استغراقه في تكوينه الذّاتيّ، في الجانب الجسديّ والعقليّ وفي كلّ شيء، ليكون ذلك هو الأساس في الإيمان بالله وبوحدانيّته وقدرته، الأمر الّذي يوحي بأنّ الوحي يؤكّد الإيمان من خلال الفكر، فلا مجال لديه للإيمان الأعمى الخاضع للتّقليد والاستسلام للمسلّمات التاريخيّة المتوارثة عن الآباء والأجداد، ليكون الطّابع العام للإنسان المسلم، هو الإنسان المفكِّر الباحث عن الحقيقة في كتاب الكون، بحيث يتحرّك في كلّ حياته، لتتحرّك كلّ علامات الاستفهام في كلّ شيء يراه أو يسمعه أو يلمسه أو يشمّه أو يذوقه، لتنطلق المعرفة في البحث عن الجواب هنا وهناك في الطّريق إلى التنمية الفكريّة والروحيّة والعمليّة.

وبذلك كانت القيمة الإنسانيّة تلتقي بالقيمة العلميّة في المستوى الكبير عند الله.

﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾[16].

  *مجلّة المنطلق الفكريّة


[1] ـ [التّوبة: 105].

[2] ـ [الإسراء:90-93].

[3] ـ[الكهف:110].

[4] ـ[الأعراف:187].

[5] ـ[الأعراف: 188].

[6] ـ[الإسراء: 65].

[7] ـ[الحاقة:44ـ47].

[8] ـ[التوبة: 43].

[9] ـ[الأنفال: 67].

[10] ـ[النّمل: 64].

[11] ـ[آل عمران: 66].

[12] ـ[الأنعام:149].

[13] ـ[الإسراء: 15].

[14] ـ[الملك:10].

[15] ـ[النّحل: 125].

[16] ـ[الزّمر: 9].

هل الدّين عامل تخلف وجمود في الذهنية التي ينتجها في الوجود الإنساني، أو هو عامل حركة وتنمية فيه؟

هذا هو السّؤال الكبير الّذي لا يزال يطرح نفسه أو يطرحه الكثيرون في ساحة الصّراع بين الدّين والعلم، أو بين الدّين والحياة، أو بين الدّين والتطوّر.

  وهكذا رأينا أنّ الوحي الّذي هو حالة غيبيَّة، يؤكّد في الإنسان التجربة الحيّة في الخطِّ الفكري والعملي، ليقوده إلى الإيمان من موقع النّتائج العقليّة في آفاق الفكر، والنّتائج العلميّة في آفاق التجربة، فكيف تكون السلبيّة الّتي تؤدّي إلى الجمود والتخلّف، وتبتعد عن خطّ التّنمية في الإيمان بالوحي؟!

ثم الحديث عن الشّريعة؛ هل هي خط تخلّف أم خط تنمية؟ قد يلاحظ البعض ثبات النصّ فيما تعنيه مسألة النطاق التشريعي في استمرارها في امتداد الزّمن، على هدى الكلمة المأثورة: «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرامٌ إلى يوم القيامة»، فيؤكّد أنّ مدلول ذلك هو أن الزمن يتغيّر والشريعة ثابتة، وأنّ الحاجات تتطوَّر والأحكام جامدة، ما يوحي بأنّ الشّريعة تقف ضدّ تغيير الزّمن وتطوّر الحاجات، بحيث تقف لتحارب كلّ حركةٍ للتّغيير أو انطلاقةٍ للتطوّر، باعتبار أنّ التغيير في الواقع يفرض التّغيير في الحلول التي تعالج مشاكل الواقع. فكيف يمكن للتنمية الاقتصاديّة أن تتحرّك في دائرة التّشريعات التي انطلقت في المجتمع الرّعويّ أو الزراعيّ، فعالجت مشاكله من خلال الخصوصيات المتصلة بمشاكل المرحلة الّتي كان يعيشها الناس هناك؟ وكيف يمكن أن يواجه التّشريع حاجات المجتمع الصّناعي ومشاكله، وقضايا الاقتصاد العام المرتبط بعلاقة الدّولة بالنّاس وبالدّول الأخرى في مسائل الإنتاج والتوزيع في دائرة القطاع الخاصّ والقطاع العامّ، وفي التعقيدات الجديدة للعلاقات الاقتصاديّة التي لم تكن مطروحة في المجتمعات السابقة، إلاَّ في الخطوط العامّة التي تحتاج إلى آلاف الخطوط التفصيليّة الباحثة عن آلاف الأحكام الجديدة التي تنظّم للنّاس أوضاعهم من خلالها؟ وهكذا نشعر بالحاجة إلى استبدال كثير من الأحكام القديمة بأحكام جديدة، كما نحتاج إلى تشريع أحكام مستحدثة في الحالات الّتي لم يأت فيها تشريعٌ في نصّ قرآني أو نبويّ، الأمر الّذي يوحي بأن الشريعة ليست خطّاً ثابتاً مستمرّاً شاملاً لكلّ قضايا الحياة في كلياتها وجزئياتها.

ولكن قد يلاحظ الفقيه الباحث عن أحكام الله في الحياة، أنّ ثبات النصّ الّذي هو حقيقة حاسمة في مصدره القرآني أو النبويّ القطعيّ، لا يعني ثبات الاجتهاد في فهم عناصر النصّ، لأنّ الاجتهاد لا يمثّل الحقيقة الحاسمة، بل يمثِّل رأي المجتهد فيما يملكه من عناصر الفهم للنصوص، فيبقى في مستوى الشرعيّة، حتى يأتي هناك رأي أكثر صواباً وأقرب إلى الواقع من وجهة النّظر الجديدة.. وهكذا يبقى للبحث عن الحقيقة موقعٌ في خطِّ الاجتهاد الخاضع للظنون أكثر مما هو خاضع لليقين، أو الّذي قد يستيقن برأي في وقت ثم ينكشف له خطأه في وقت آخر. ثم إنّ مسألة تغير الحاجات قد تختزن في داخلها تغيّر الموضوعات، فيتبدّل الحكم بتبدّل الموضوعات، وقد تفرض اختلاف الظروف والشروط اختلاف بعض خصوصيّات الحكم تبعاً لذلك، كما هو الشّأن في العناوين الأوليّة والعناوين الثانويّة التي تختلف الأحكام باختلافها. وربما تكون المسألة أنّ تغيّر الحاجات لا يمثّل التّغيير في العناوين الكبيرة للحكم الشّرعيّ، بل يمثّل التّغيير في الجزئيّات الخاضعة لقاعدة واحدة تنطبق على الجزئيّات القديمة والجديدة.

وهناك إمكانات كبيرة للاجتهاد في معالجة كثير من المشاكل والأوضاع المستحدثة لاستنباط أحكام شرعيّة على أساس المرونة الحيويّة للقواعد الاجتهاديّة، فيما توحي به النّصوص المتنوّعة في مواجهة كلّ جديد.

وإذا كانت بعض النصوص قد عالجت مفردات الواقع الاقتصادي في المجتمع الرّعويّ والزّراعيّ، فإنّ هناك قواعد عامّة تنفتح على المجتمع الصّناعيّ في كلّ مفرداته، على مستوى العلاقات الاقتصادية في قضايا الإنتاج والتوزيع، وهذا ما نلاحظه في حركة الاجتهاد الفقهي الّتي واكبت كل التطوّرات الأخيرة، فاستنبطت لكلّ واقعة حكماً شرعيّاً، فلا فراغ في الساحة الفقهيّة فيما يمكن أن يقف فيه المسلم على مسألة من المسائل.

لقد تحرّكت ذهنيّة التّنمية في المسائل الفقهيّة في مواجهة كلّ المتغيّرات على صعيد المشاكل الإنسانيّة في الواقع المعاصر المتطوِّر، وانطلقت في اتجاه الواقع العمليّ لتواكب حركة التنمية الاقتصاديّة على صعيد التّجربة الإسلاميّة الاجتهاديّة.

حيويّة الشّريعة وغناها

هذا في الإطار العام، أمّا في الإطار التفصيليّ الخاصّ، فإنّنا نجد في مفردات الشريعة الكثير من التشريعات التي تدعو إلى العمل المنفتح على كلّ حاجات الحياة، فتعتبر العمل المادّيّ عبادةً وجهاداً وانطلاقةً في مواقع رضا الله ومحبّته، كما ترى في البطالة والكسل والضّجر أخلاقاً سلبيّةً يبغضها الله، وتتحدّث عن عمليّة صنع القوّة في كلّ المجالات الّتي تنفتح على الحريّات بكلّ ألوانها وأشكالها في المواقع السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، بحيث تتحرّر حاجات الإنسان من سيطرة الآخرين على أساس سياسة الاستقلال والاكتفاء الذّاتيّ، وتلتفت إلى الزّمن لتوحي بأنّه يمثّل مسؤوليّة الإنسان في إنتاج العمل الخيّر الذي يبني الحياة على أساس القوَّة الفردية والاجتماعية للذات وللأمّة، في حركة تصاعدية تجعل الزمن المستقبل خيراً من الماضي، والعمل الأخير خيراً من العمل الأوَّل، وتنطلق بالكلمة المأثورة عن الإمام عليّ(ع): «اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً»، ليتوازن الإنسان في الحياة بين خطّ العمل كما لو كان خالداً، وخطّ المسؤوليّة كما لو كان ينتظر الموت غداً.. بحيث يبقى العمل المتحرّك قضيّة الإنسان في الحياة، ومسؤوليّة الحياة في الإنسان.

إنّ الدّراسة الدّقيقة الشّاملة المقارنة للشّريعة الإسلاميّة، توحي للباحثين بأنَّ الإسلام في شريعته يمثّل الخطّ الأصيل الّذي يمنح الفرص الكثيرة لكل قضايا التنمية في جميع المجالات، ليجعل من الإنسان إنسان الله الّذي يجسّد إرادة الله في الكون، في تنميته بما يحقّق للحياة نموّها وازدهارها، وللإنسان تقدّمه وتطوّره، لأنّ الإنسان هو العنصر الأساس في حركة الشّريعة الّتي جاءت لخدمة الإنسان في مسؤوليّته في إدارة الحياة على الصّورة الّتي يرضاها الله.

ولكنّ المشكلة هي في التخلّف الّذي يعيشه بعض الدّارسين للإسلام، في تجزيئيّة المواقع والمجالات والأحكام، ما يبعد البحث عن الوصول إلى إعطاء الصّورة الكاملة الصّحيحة المتوازنة.

ويبقى الحديث عن اليوم الآخر، عندما يقوم النّاس لربِّ العالمين، ليجسِّد أعلى مواقف الذهنيّة المسؤولة الّتي لا تستريح لقضايا الجزاء في الدّنيا، بل تتجاوزها لتضمّ إليها قضايا الجزاء في الآخرة، ليشعر الإنسان بأنّه المسؤول عن كلّ طاقاته وطاقات الحياة، ليفجِّرها بما ينفع النّاس في كلّ المجالات، ليتلقّى جزاءه الكبير عند الله.

إنّ المسؤوليّة الشّاملة المتحرّكة، الّتي تمثّل ـ في بُعدها الإسلامي ـ معنى الأمانة في حياة الإنسان، تدفعه إلى الانطلاق في حالة طوارئ منفتحة على كلّ حاجات الحياة وقضاياها، وعلى كلِّ طاقات الإنسان وثرواته، ليتحرّك بها نحو العمل المجدي المتنوّع الذي يبني للحياة قوَّتها في خطِّ الله، ويحقّق للإنسان أهدافه في الحصول على رضا الله، استجابةً للنّداء الإلهيّ الشّامل: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ[1].

حركة النبيّ في الواقع

ويبقى الحديث عن الغيب في فكرة النبيّ(ص) الّذي يتلقّى الوحي من الله، أو فكرة الشّريعة الّتي هي نتيجة للوحي الإلهيّ.

والسّؤال الّذي يفرض نفسه في هذه الدّائرة: ما هي السلبيّة في ذلك؟

وقد يلاحظ البعض، أنّ فكرة «النبيّ» و«الوحي» و«الشّريعة الإلهيّة»، تحبس الإنسان في زنزانةٍ ضيِّقةٍ من الحياة، على أساس القداسة الّتي تمثّلها هذه المفردات، فلا بدَّ من الخضوع للنبيّ الّذي يتّصل بالله بطريقةٍ غيبيّةٍ، فلا مجال للاعتراض عليه في أيّ مناقشةٍ أو جدال، لأنّ ذلك يمثّل الضّلال والكفر والهرطقة الدّينيّة، ولا بدَّ من الانفتاح على الوحي كحقيقةٍ إلهيّةٍ مقدّسة في كلّ المفاهيم والمناهج والقضايا العامّة في الحياة، كما لا بدَّ من الالتزام بالشّريعة على أساس أنّها تمثّل إرادة الله، فيما يتمثّل فيها من مفهوم «حكم الله» الّذي يمثّل الانقياد له معنى الإيمان في بعده العمليّ. ويقولون إنّ هذا يعني الجمود الّذي يمتنع الفكر معه من الحركة في مواجهة الفكر الدينيّ، كما يمنع الإنسان من التّفتيش عن حلول لمشاكله المعقَّدة في تطوّرات الواقع في قضاياه ومشاكله، إلاَّ في نطاق الاجتهادات والتّأويلات المتنوّعة في دائرة الشّريعة. ولا يبقى للإنسان مجالٌ لحركة الفكر إلاَّ في الفراغات الفكريّة الّتي لم يعالجها الفكر الدّينيّ بطريقةٍ تفصيليّةٍ، أو في المجالات العلميّة الّتي لم يأتِ في تحديدها نصّ معيّن.

وقد نلاحظ ـ أمام هذه الفكرة ـ أنّ هذه المناقشة لا تنظر إلى هذه المفردات في حركة الواقع، بل تنظر إليها في آفاق التّجريد، كما لو كانت من القضايا الّتي تنطلق في أجواء الإيحاءات الفكريّة الذاتيّة في مدلولها المطلق، بعيداً عن طبيعتها الواقعيّة.

سلاح النبيّ البرهان والحجّة

فالنبي، في المفهوم الديني الإسلامي، شخصيّة واقعيّة بشريّة، لا يملك في تكوينه الذاتي أيّ سرّ إلهيّ،ٍ فيما تعنيه هذه الكلمة من اختزان النبيّ لبعض خصائص الألوهة، ولا يعيش في الضّباب الغيـبيّ الّذي يجعل منه شخصيّةً تحيط بها الأسرار الخفيَّة المقدَّسة الّتي تمنع من فهمه ودراسة خصائصه الحقيقيَّة، وبذلك، فإنَّه لا يمثِّل ـ في الوعي الدّيني ـ «الشخصيّة الغيبيّة»، حتى إنَّه يقف عاجزاًَ أمام التحدّيات التعجيزيَّة الّتي ينطلق بها الكافرون في اقتراحاتهم المتنوّعة المنطلقة من صورة النبيّ في مفهومهم، باعتباره الشّخص القادر على تغيير الكون من حوله، وتقديم المعجزات لكلّ من يطلبها أو يقترحها، ليقول لهم إنّه بشر في قدرته، كما أنّه بشر في خصوصيّات حياته، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً* أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً* أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً[2]، فهو لا يقف موقفاً استعراضيّاً أمام هذه الاقتراحات ـ التحدّيات، بل يقف موقفاً واقعيّاً، من خلال قدرته الذاتيَّة الّتي لا يتميَّز فيها عن قدرات البشر الآخرين، لأنَّه لا يملك أيَّة ميزة عليهم في مدى بشريَّته، بل الميزة الوحيدة هي رسوليَّته، كما أعلن عن ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً[3].

وهو ـ في الصّورة القرآنيّة ـ يتلقّى العلم من ربِّه، فلا يملك أيَّ قدرة ذاتيَّة على العلم بالمغيّبات، كيوم القيامة، أو غيره، مما لا يملك الوسائل الطبيعيّة لمعرفته، كما لا يملك أيّ قوّة خاصّة على دفع الضّرر أو جلب النّفع لنفسه إلاَّ ما شاء الله، وذلك في قوله تعالى:

﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ[4]، ﴿قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[5].

إنَّ كلّ دوره هو أن يبلّغ الرّسالة، فينذر أو يبشّر بها، ويقود النّاس إلى الخطوط التفصيليّة في مناهجها وشرائعها ووسائلها وغاياتها، وذلك من خلال الأساليب الحكيمة الّتي تحترم في الإنسان فكره، فتجادله بالّتي هي أحسن، وتنطلق معه على أساس البرهان والحجّة، ليصل إلى المعرفة اليقينيّة والإيمان الواعي من خلال ذلك كلّه، بعيداً عن أيّ حالة قهرٍ أو اضطهاد.

ثم نلاحظ أنّ النّهج القرآني في تصوير شخصيّة النّبيّ يؤكّد المسؤوليّة الفرديّة للنبيّ في التزامه الفكريّ العقيديّ، وفي أمانته الرّساليّة وفي استقامته العمليّة، تماماً كأيّ مسلم آخر، لتكون له شخصيّة المسلم الملتزم، إضافةً إلى شخصيّة الرّسول المبلِّغ، من دون أن يكون أيّ امتياز خاصّ يبعده عن نتائج المسؤوليّة إذا انحرف عن الخطّ المستقيم في العقيدة والعمل. وهذا ما جاء في قوله تعالى:

﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[6].

﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ* لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ[7].

﴿عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ[8].

﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[9].

وهكذا نجد أنّ الشخصيّة النبويّة في التصوّر القرآنيّ، ليست شخصيّة ضاغطةً على الوجدان الإنساني، بحيث يتطلّع النّاس إليها في حالة انبهارٍ ضبابيّ خفيّ في الآفاق العليا البعيدة عن مدى التصوّر، الغارقة في الأسرار الخفيّة، بل هي شخصيّة إنسانيّة تتميّز بدورها الرّساليّ في الوحي الإلهيّ الّذي يدعو النّاس إلى الإيمان به من خلال العقل الّذي يبحث عن الحجّة، ويفتّش عن اليقين، ما يبرّر له الدّخول في جدلٍ طويل مع النبيّ في الأدلّة القاطعة على رسالته، تماماً كما في أيّة حالة يتطلب فيها الإنسان الحجة القاطعة مع أيِّ شخص آخر. وإذا أردنا أن نصل إلى التجربة الحيّة للنبيّ، فإنّنا نراه يتحرّك مع النّاس بكلّ بساطةٍ وعفويّة، بحيث لا يفرض نفسه عليهم من موقع الدّرجة العليا الّتي يتميّز بها، بل يعيش معهم كأحدهم، ويبحث معهم مشاكلهم، ويعفو عنهم، ويلين في كلامه لهم، ويفتح قلبه لكلّ آلامهم وأحلامهم، ويحرص عليهم ويرأف بهم، ويجالسهم في غير تكلّف، ويقابلهم في غير ترفّع، وكان يشجّعهم على أن يسألوه عن كلّ شيء، ويجادلوه في كلّ قضيّة. وهكذا، لم تكن القداسة الرّساليّة للنبيّ وسيلةً من وسائل تأكيد شخصيّته الذاتيّة، بحيث تكون عنصر ضغط يلغي وجود الآخرين، إلاَّ بقدر ما تتّصل المسألة بالالتزام الرّساليّ الّذي لا يمثّل التزاماً بشخصه، بل يمثّل التزام الإنسان بقناعاته المنطلقة من أسلوب الرّسالة في الإقناع بالحجّة والبرهان.

وإذا كانت الممارسات الدينيّة قد جعلت المؤمنين يستغرقون في ذات النبيّ بدرجة أكبر من استغراقهم في الرّسالة، فبدأت التّقاليد الدينيّة تتحرّك في الصورة الغيبيّة لشخصيّة النبيّ، بحيث أصبح شخصاً غامضاً في الوعي الدّيني من خلال الأسرار المحيطة به، إذا كانت المسألة تتحرّك في هذا الاتجاه، فإنّنا نلاحظ أنّ ذلك كان من تأثير الثّقافات الأخرى الّتي امتزج فيها التفكير الدّيني بالاتجاهات الفلسفيّة الإشراقيّة وغيرها، بحيث تحوَّلت العقيدة إلى منهج فلسفيّ بعيد عن النّهج الإسلاميّ فيما يريد التصوّر القرآني للنّاس أن يتمثّلوه في التزامهم الوجداني بالشّخصيّة النبويّة.. وبذلك فلن يكون الدّين مسؤولاً عنه.

أمّا قضيّة الوحي، فإنّه يمثّل الكلمة الإلهيّة الّتي يؤمن بها الإنسان، من خلال عناصر الإيمان الّتي تؤكّد أيّ حقيقةٍ من حقائق الحياة في القناعات الذاتيّة الفكريّة للإنسان، وهو مصدر من مصادر المعرفة المعصومة في مصدرها الّذي هو الله خالق الإنسان، العالم بما يصلحه وما يفسده، فعلى الإنسان أن يلتزمه في مضمونه الفكريّ والتّشريعيّ، من خلال إيمانه بصحّته من ناحية إجماليّة، فليست المسألة بعيدةً عن اختيار الإنسان الفكريّ، بل هي تأكيد لذلك، من خلال التزامه الإيمانيّ الّذي يخضع لمعطياته الحقيقيّة، تماماً ـ من ناحية تقريب الفكرة ـ كما هو الالتزام بالإلهام الّذي قد يفرض نفسه على الذّهن الإنسانيّ في كثير من قضايا الحياة، وكما هو الالتزام العمليّ بالقيادة الحكيمة الّتي يتبعها الإنسان عندما يؤمن بكفاءتها في تخطيط حياته وفي إدارة شؤونه.

الإيمان الواعي

ثم إنّ الملحوظ في مفردات هذا الوحي، أنّها لا تقدّم نفسها للإنسان على أساس دعوته إلى الإيمان الأعمى بمضمونها الفكريّ، بل تقدّم نفسها إليه كفكرةٍ قريبةٍ إلى الوجدان، منفتحةٍ على العقل، متحرّكةٍ في عناصرها الأوّلية في عالم الحسّ، لتدعو الإنسان إلى أن يفتح وجدانه على مضمونها، ويحرّك عقله في قضاياها، ويطوف بكلّ حواسّه في الآفاق الكونيّة، والمواقع الإنسانيّة، ليجمع العناصر الأولى للتّفكير فيها.. ولتتحدّث للإنسان عن المعادلات الفكريّة والبديهيّات الوجدانيّة في طريقة الاستدلال عليه، ولتتحدّى فيه أفكاره العلميّة للحوار وللجدال، والانطلاق بمسؤوليّةٍ كبيرة في الوصول إلى الحقيقة.

وبذلك كان الإيمان بالوحي لا يبتعد عن الاستغراق الفكريّ في قضاياه العقيديّة، وفي مناهجه العمليّة، ما يعني أنّ الوحي مصدرٌ للإيمان من خلال الحقيقة المعصومة في مصدره، ولكنَّ الإيمان حركة في اتجاه الفكر الباحث عن مضمون الحقيقة، في قناعاته الذاتيّة أنّ الوحي لا يلغي فكر الإنسان، بل يؤكّده ويدفعه إلى التّنامي والتّسامي في الآفاق العليا للمعرفة، الأمر الّذي يوحي بأنّه مصدرٌ للمعرفة يضع الإطار للإنسان، ويحدِّد ملامح الصّورة، ويدفع بالفكر الإنسانيّ إلى أن يتعرّف طبيعة الإطار والصّورة بطريقةٍ فكريّةٍ حاسمة.

وهذا ما نلاحظه في المنهج القرآنيّ في الحوار، والخطّ الفكريّ في حركة المعرفة، وتأكيد التجربة كوسيلة من وسائل الوصول إلى الحقيقة وتكوين القناعات، الأمر الّذي جعل الطّابع العام للقرآن طابعاً حواريّاً، بحيث كان التحدّي الكبير الّذي أطلقه في مواجهة أصحاب التيّارات المضادَّة، ما جاء في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[10]. ﴿هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ[11].

حتّى إنّ القرآن يؤكّد أنّ القضيّة بين الله وعباده في خطّ المسؤوليّة، هي قضيّة الحجّة البالغة على عباده ﴿قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ[12]، فلا يعذّب الله عبداً على أيِّ التزام فكريّ مضادّ أو سلوكٍ عمليّ منحرف، إلاَّ بعد إقامة الحجّة عليه من عقله فيما يستقلُّ به عقله، أو من رسله فيما يبلغه رسله، وهذا ما نستوحيه في قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً[13].

﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ[14].

وقد جاء في بعض الكلمات المأثورة: «إنّ العقل رسول من داخل، والرسول عقل من خارج»، كدلالة على قيمة العقل في القيمة الدينيّة، بحيث إنّ العقل يمثّل رسول الله الداخليّ الّذي تقوم به الحجّة على الإنسان، كما أنّ الرّسول يتحوّل في طروحاته إلى حركة عقليّة تملأ الفراغ الّذي لا يستقلّ به العقل. وفي ضوء ذلك، كان العنوان للأسلوب العمليّ الحكيم في الدّعوة، هو الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالّتي هي أحسن، كما في قوله تعالى:

﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ[15].

فإنّ هذه المفردات هي الّتي تنفذ إلى وجدان الإنسان وعقله، لتثير فيهما الرّغبة في التّفكير، ولتقودهما إلى الانفتاح على مواقع الحكمة في الأفكار والكلمات، ومنابع الإحساس في الإيحاءات واللّفتات، ومواطن الحوار العقلاني الهادئ بالطّريقة الفضلى في الأسلوب والجوّ والموقف في مجالات الصّراع.. وهكذا كان الجدال عنواناً من عناوين الرّسالة في حركتها الفاعلة مع الّذين يقفون ضدها.

ثم كانت المسألة ـ في مضمون الوحي ـ الدّعوة المتكرّرة إلى التّفكير في خلق السّموات والأرض وما فيهما، وفي خلق الإنسان في استغراقه في تكوينه الذّاتيّ، في الجانب الجسديّ والعقليّ وفي كلّ شيء، ليكون ذلك هو الأساس في الإيمان بالله وبوحدانيّته وقدرته، الأمر الّذي يوحي بأنّ الوحي يؤكّد الإيمان من خلال الفكر، فلا مجال لديه للإيمان الأعمى الخاضع للتّقليد والاستسلام للمسلّمات التاريخيّة المتوارثة عن الآباء والأجداد، ليكون الطّابع العام للإنسان المسلم، هو الإنسان المفكِّر الباحث عن الحقيقة في كتاب الكون، بحيث يتحرّك في كلّ حياته، لتتحرّك كلّ علامات الاستفهام في كلّ شيء يراه أو يسمعه أو يلمسه أو يشمّه أو يذوقه، لتنطلق المعرفة في البحث عن الجواب هنا وهناك في الطّريق إلى التنمية الفكريّة والروحيّة والعمليّة.

وبذلك كانت القيمة الإنسانيّة تلتقي بالقيمة العلميّة في المستوى الكبير عند الله.

﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾[16].

  *مجلّة المنطلق الفكريّة


[1] ـ [التّوبة: 105].

[2] ـ [الإسراء:90-93].

[3] ـ[الكهف:110].

[4] ـ[الأعراف:187].

[5] ـ[الأعراف: 188].

[6] ـ[الإسراء: 65].

[7] ـ[الحاقة:44ـ47].

[8] ـ[التوبة: 43].

[9] ـ[الأنفال: 67].

[10] ـ[النّمل: 64].

[11] ـ[آل عمران: 66].

[12] ـ[الأنعام:149].

[13] ـ[الإسراء: 15].

[14] ـ[الملك:10].

[15] ـ[النّحل: 125].

[16] ـ[الزّمر: 9].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية