حاول البعض من الماديين أو العلمانيين، أن يؤكّدوا أن "الدين عامل تخلف وجمود في الذهنية التي ينتجها في الوجود الإنساني" تقريراً للفكرة التي تتحدَّث عن الجمود والتخلف في الحديث عن الدين، لأنَّ المشكلة فيه ـ فيما يقولون ـ أنه يربط الحياة بالغيب عندما ينطلق من فكرة "الله"، الذي يهيمن على الكون كله بطريقةٍ غيبية، وفكرة "النبي"، الذي يتنزل عليه الوحي الإلهي من موقع غيـبي، و"الشريعة" التي تقنّن نظامه في خطٍّ غيـبيّ. ويبقى للغيب دوره الكبير في مسألة الجزاء، عندما يلتقي الناس في يوم القيامة أمام الله في الدار الآخرة، ليتحرك الكافرون المتمرّدون إلى النار، ويتحرّك المؤمنون المتقون إلى الجنة، فلا مجال ـ في ذلك كله ـ للفكر الإنساني ليؤكّد ذاتيَّته وحركيَّته في عقيدة الإنسان ونظامه ومسؤوليَّته، ما يجعله مشدوداً إلى أفق بعيد عن الحياة الحسّية، غارقاً في ضباب الغيب الذي يبتعد عن الوضوح، ويفرض عليه حالةً من الضغط القدسي الذي يهيمن على كل تفكيره، فلا يملك معه أي اختيارٍ للموقع وللموقف وللحركة في الاتجاه الذي يختاره.
إشكالات مادية
وفي ضوء ذلك، يأخذ الفكر الديني صفة "الثابت" الذي لا يتغير ولا يتحول موقعه، ما يجعل من الحياة كلها شيئاً ثابتاً لا يقبل التطور، ولا يملك الحركة، ولا يختزن في داخله أي حيويةٍ للتغيير. وهذا يعني ـ في مفهومه ـ جمود الإنسان في الحياة، وجمود الحياة في داخله، لأن الثوابت تحكم فكره وتحيط به من كل جانب، لتنصب حوله الحواجز التي لا يستطيع أن يتخطاها، فلا يبقى هناك معنى للتنمية التي توحي بالتحوُّل من حالةٍ إلى حالةٍ أخرى تجاه التقدم.
وفي هذا الجوّ، يفقد العلم معناه في حركة الوجود الإنساني، لأنه يعني التحرك في اكتشاف أسرار الكون وقوانينه، وتحريك المعرفة في تجاه الاستفادة من ذلك في مسألة الاختراع والابتكار، التي هي خلاصة تصنيع السنن الكونية في الحياة الإنسانية فيما يمكن للإنسان أن يستخدمه منها في حاجاته وأوضاعه.
وهذا غيرُ منسجمٍ مع الفكرة الدينية التي تختصر التفسير للظواهر الكونية وللسنن الاجتماعية والنفسية والتاريخية بكلمة واحدةٍ يرددها المؤمنون دائماً، وهي إرادة الله الذي يقول للشيء كن فيكون، وقضاء الله وقدره فيما يقدّر للناس وللحياة من أوضاع وأفعال، وفيما يقضي عليهم من أحكام، فلا مجال للحديث عن التفاصيل في سرّ الإرادة وفي عمق القضاء والقدر، لأن الله لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.
أما دور الإنسان في الحياة فتختصره كلمة "العبادة"، التي توحي بأن قمة السموّ الروحي في حركة إيمانه أن يعيش العبادية في كل وجوده، ليكون عبداً خالصاً لله في وجدانه الديني وتقواه، لأن ذلك هو سبيل السعادة في الآخرة، بل هي سرّ خلقهم كما جاء في الآية: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}[1].
أما الأرض والخلود فيها، والدنيا والاستغراق فيها، فهي عناوين سلبية في قضية المصير، لأنها تبعده عن الله وتصرفه عن ذكره، وتؤدي به إلى الضياع في متاهات الأوهام والأهواء والشهوات، فيتحول إلى شخص ضائعٍ ضالّ، مشدودٍ إلى المادة، ومفصولٍ عن معنى الروح.
ويضيف هؤلاء إلى هذا الحديث، أن التنمية تختزن في داخلها معنى الحيوية، وسرّ الحركية، وقابلية التطور، وإرادة التغيير، وحرية الإنسان في فكره وحركته، فكيف تنسجم مع هذا الخط الفكري الغيـبي الثابت في موقع واحد، الذي يحدّق في أفقٍ واحد، ويستغرق في ضبابية الفرضيات التجريدية التي لا تخضع للتجربة، ولا تنسجم مع حركة الواقع؟
وفي ضوء ذلك، لا يكون إنسان الدين هو إنسان التنمية، بل إنسان الجمود والتخلف.
هذه بعض الملاحظات التي يثيرها الآخرون أمام المفردات الدينية في الفكر وفي الواقع، كأساسٍ للنظرة السلبية عن الدين في هذه المسألة، ولكن للإسلاميين في التعامل مع هذه المفردات الدينية تفسيراً مختلفاً، بحيث تأخذ المسألة في الذهنية الإسلامية بُعداً آخر.
ولنبدأ بالغيب في الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، وعلاقته بالجمود والتخلف في مفهومه الإيحائي في داخل فكر الإنسان وشعوره.
الغيب العقلاني
فالغيب في فكرة الإيمان بالله هو غيب عقلاني يرتبط في جذوره الفكرية بالحسّ، لأنه ينطلق من دراسة الظواهر الكونية والإنسانية فيما تختزنه من نظام داخلي أو خارجي يوحي بالحكمة والقدرة والإبداع، بحيث يكتشف الوعي الإنساني القائم على ربط المسببات بأسبابها، من خلال الذهنية التجريبية في ملاحظاتها الدقيقة، أن هذه الظواهر خاضعة في كيانها الذاتي وفي وجودها المتحرك إلى قوَّة خفية حكيمةٍ قادرة خارج نطاق الحس، تماماً كما هي الاستنتاجات الفكرية أو العلمية التي تربط الظاهرة بسبب ما، انطلاقاً من وعي المسألة السببية في الوجود، لتقرر أن هناك سراً وراءها، الأمر الذي يدفع الإنسان إلى البحث عن التفاصيل في نوعية السبب الذي قد يتوصل إلى إدراك حقيقته وقد لا يتوصل إليه، من دون أن يُفقده ذلك الشعور بوجوده.
وفي ضوء ذلك، لم يكن الغيب في المسألة الإلهية غيباً تجريدياً غارقاً في الضباب، بل هو غيب ذاتي منفتح على الوعي للمسألة الحسية في دراسته للجانب الخفي منها بشكل دقيق، وذلك بما يحوّل الغيب في الوجدان إلى ما يشبه الحضور الذي قد يكون تأثيره الداخلي، في بعض إيحاءاته، أقوى من الحس.
وقد يلاحظ الإلهيون في هذه الدائرة، أن الماديين الذين لا يؤمنون بالغيب في المسألة الإلهية، لا يبتعدون عن الاستغراق في الغيب الحائر في مواجهة علامات الاستفهام التي تتطلب تفسير السرّ في سببية السبب في الظاهرة، وفي العوامل الطبيعية أو غير الطبيعية التي منحت السبب حيويته وحركيته في التأثير، فيتجمَّدون ولا يحاولون التقدم خطوةً إلى الأمام، لأن المعادلات العقلية لا تنتج علماً، والعلم هو حصيلة التجربة التي لا مكان لها في هذه المسألة.
ولكنّ النتيجة في ذلك هي أنهم يستشعرون وجود شيء ما في عمق الوعي، بحيث يطلّون على غيبٍ غامض حائر لا يملكون معرفة ملامحه وخفاياه، ما يجعلهم غيبيّين حائرين في مواجهة الإلهيين الذين يتحركون في الغيبية المنفتحة على المعرفة الإلهية.
وعلى أي حالٍ، فإن القضية المهمة هي تأثير هذا الإيمان في حركة الإنسان في الحياة، وفي مواجهته لظواهرها المتحركة، فهل يقف من ذلك كله موقف المستسلم الحائر الذي يهرب من المواجهة ويبتعد عن التحرك معها، أو يقف وقفة الوجود الفاعل الحيّ الذي يستشعر المسؤولية العميقة في ملاحقة كلّ الجزئيات والكليات المتّصلة بالكون من حوله، في خطة مدروسة تجعل لكلّ طاقةٍ من طاقاته دوراً في الحركة والمسؤولية، ليكون الإيمان انطلاقةً في الفعل، بدلاً من أن يكون حيرة في الفراغ؟
ربما يطرح البعض الفكرة في الفرضية الأولى في السؤال، لأن الفكرة الدينية تعني الاستسلام المطلق للقوّة الإلهية الغيبية القادرة القاهرة المهيمنة على كلّ شيء، فلا يملك أي موجود أمامها شيئاً، ما يعني أن الإنسان ينطلق في معنى وجوده من موقع الإحساس بالعجز الكلي الذي لا يملك معه لنفسه ضُرّاً ولا نفعاً إلا بالله، فليس له وجود أصيل، بل هناك وجودٌ هامشيّ لا فاعلية له، وإن الدين يقرّر أن الفعل الإنساني ليس فعل الإنسان بذاته، بل هو فعل الله، كما جاء في الآية الكريمة: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}[2]، {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ}[3]، أو في الكلمة المأثورة: "لا حول ولا قوة إلا بالله".
ويتابع أصحاب هذا المنطق، فيلاحظون أن حركة الإنسان في الحياة تابعة لقوَّة الإحساس بقيمة وجوده، وبأصالة ذاته، فكلَّما تعاظم هذا الإحساس في وعيه، ازدادت حيويته في حركته، وانطلق إنتاجه في واقعه، أمّا إذا ضعف هذا الشعور وتبدَّل إلى شعور مضادٍّ يختزن الهامشية والتبعية والدونيّة، فإنه ينعكس سلباً على كل أوضاعه في إيحاء دائم بالشلل والعجز والسقوط.
وربما كان هذا الجو الداخلي الذي تصنعه العقيدة الإلهية الغيبية هو المسؤول عن التخلف الذي تعيشه المجتمعات الدينية في جمودها وابتعادها عن حركة التطور، وبالتالي عن واقع التنمية في المستوى الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، انطلاقاً من الانتظار الدائم لحركة الغيب في حركة الوجود، وانفتاحاً ضبابياً مذعوراً على القضاء والقدر الذي يوحي للناس بأن حاضرهم ومستقبلهم مكتوب في الغيب، فلا حرية لهم في اختيار مصيرهم، ولا قدرة لهم على تجاوز أوضاعهم المقدّرة لهم، تماماً كما هي الورقة في مهبِّ الريح أو الخشبة في مجرى التيار.
الإنسان خليفة الله
ويلاحظ الإلهيون أن المسألة في بُعدها العقيدي لا تختزن مثل هذه النتائج، بل ربما توحي بالعكس، لتكون النتائج إيجابيةً على صعيد الحركة والتطور والتنمية، لأن قضية القوة الإلهية المطلقة القادرة القاهرة المهيمنة على كل شيء، في مقابل العجز الإنساني المطلق، لا تعني إلغاءً للإرادة الإنسانية، ولا مصادرةً للفعل الإراديّ، بل تعني ـ بدلاً من ذلك ـ انفتاحاً على عمق القوة في الإرادة، وانطلاقاً في تقوية عنصر الاختيار في الفعل، لأن الله لا يصادر قوة خلقه، ولا يلغي إحساسهم بإنسانيتهم، كما يفعل البشر المسيطرون الذين يملكون القوة المهيمنة على الناس، وذلك لأن الله هو مصدر القوة كما هو مصدر الوجود، ما يعني أن الانفتاح عليه يمثل الانفتاح على القوة التي لا تقف عند حدّ، ولذلك فإن عطاءها لا يتوقف عند مدى معين، بل يمتدُّ ما امتدت المشيئة الإلهية، الأمر الذي يجعل الوعي الإنساني منطلقاً في آفاق القوة، بحيث ينتقل من أفق محدودٍ إلى أفقٍ واسع تبعاً للقدرة الإلهية.. بل إن هذه العقيدة تربِّي في الإنسان الشعور بأن يطوّر قوته وينميها، على أساس أنه لا يخضع لأي قوةٍ كونية أخرى إلا بمقدار ما تضغط به القوانين الطبيعية على الموجودات في دائرتها، في الوقت الذي يثير الدين الفكرة التي تؤكد تسخير الكون كله للإنسان في قدرته على تحريك طاقاته لخدمة الحياة من حوله، وللوصول إلى أهدافه الكبرى في الوجود، بأسلوب إيحائيّ بأنَّ قوته الذاتية المنفتحة على الإمداد الإلهي، تتيح له أن يندفع في عملية إدارة شؤون الكون من حوله من دون أي مشكلة عجز ضاغط، إلا فيما تثيره حركة القوة من المشاكل الطبيعية التي تفرضها الأمور العامة في مفردات الواقع.
وحتى إن الضعف الطارئ أو الطبيعي، لا يمثل القضاء والقدر الذي ينسحق تحته الإنسان، لأن الله هيّأ له من الإمكانات التي يستطيع تحريكها لتنمية عناصر القوة من جديد، كما أن إيحاءات الإيمان بالله تثير في داخله الشعور بأن اللجوء إلى الله في الحصول على القوة سبيله الواسع للتخلص من ضعفه.
وفي ضوء ذلك، فإنَّ القوة الإلهية القادرة ـ في المضمون الديني الفكري ـ تمثل مصدر القوة للإنسان، الدائم العطاء، الممتدّ في حياته، ولا تمثل مصدر القمع والقهر والتجميد، لأنه مصدر الوجود في الذات، وفيما حولها وفيما بين يديها من الإمكانات التي تتلاحق باستمرار. وبذلك، فإنها في بُعدها الايماني، تدفع إلى الحركة والتنامي والتطور في خط المسؤولية المرتكزة على القوة التي وهبها الله للإنسان، بحيث كانت القوة والمسؤولية تتحركان في اتجاه واحدٍ، فإنه يكون مسؤولاً بمقدار ما يكون قوياً، كما أن القوة في أبعادها تخضع للإرادة الإنسانية في مسؤوليتها عن صنع القوة وتطويرها، لتتنامى مسؤوليته في الدائرة الكونية في الحياة.
وعلى هذا الأساس، فإن هامشية الوجود في الإحساس الإيماني للإنسان لا تبتعد عن الإحساس بالأصالة، لأنها ليست شيئاً يتصل بقدراته الذاتية، بل يتصل بمصدر وجوده، تماماً كما هي الطبيعة التي تنتج الوجود الإنساني في نظر الماديين الذي يتحركون في أسرار الغموض الكوني عندما يتحدثون عن سرّ الوجود الإنساني في كلماتٍ مبهمةٍ، توحي في أكثر من معنى بالوجود الهامشيّ أمام سيطرة العناصر الأساسية التي يختزنها النظام الكوني في مسألة الوجود، باعتبار القوة التي تمنحه قوة الحياة وتمدّه ـ من خلال قوانينها المودعة في ذاتياتها ـ بالاستمرار والنموّ في رحلة الحياة.
إن الدين لا يوحي للإنسان بالضعف أمام الكون، فهو خليفة الله في الأرض، على هدي قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}[4]، بل يوحي له بالضعف أمام الله باعتباره القوة التي هي سرّ وجوده، تماماً كأيّ قوة مفروضةٍ لدى المادي في سر وجوده، بل ربما نجد الإحساس الإيماني بالقوة للمؤمن، أعمق وأقوى من إحساس المادي بها، لأن المؤمن يحسّ بوجود قوة عاقلة حكيمة قادرةٍ رحيمة ترعى الإنسان والكون والحياة في عملية تكاملٍ وانسجامٍ فيما أودعته في كل هذه الوجودات من سننٍ وقوانين، بحيث يشعر معه الإنسان بأنه يملك القوة الهائلة التي يمنحها للكون من حوله في حركته فيه، كما أنه يأخذ من الكون والحياة قوَّةً جديدة، من خلال وسائل العطاء الكوني والإرادة الذاتية للإنسان، بينما يفكر المادي بمفهوم الصراع مع الكون والحياة، وبالسقوط أمام القوى الهائلة الضاغطة في الوجود، من دون أن يملك أية فرصة للخلاص من الفرص التي يملكها المؤمن في إحساسه عندما يتطلع إلى الله القادر على كل شيء، الرحيم بعباده، الذي يجيب المضطر، ويكشف السوء عنه، وينجيه من ظلمات البرّ والبحر.
فأين هو الشعور بالضعف والعجز والدونيّة؟ وكيف يلتقي هذا الشعور مع الإحساس الإيماني بأن الإنسان يستطيع أن يصل إلى مستوى القدرة على الخلق بإذن الله، كما جاء في قصة عيسى(ع) فيما حكاه الله عنه في قوله تعالى: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ}[5]؟
إن القدرة الإنسانية ـ في عيسى(ع) ـ ارتفعت بفعل قدرة الله إلى المستوى الذي تجاوزت فيه الحدود الطبيعية للقدرة العادية، وإذا كان الله هو الذي أعطى القدرة، فإن الملحوظ أنها لم تبتعد عن أن تكون قدرة الإنسان الذي لم يخرج عن حدود إنسانيته عندما قام بهذه الأمور بإذن الله.
وإذا كانت المعجزة هي التي فرضت ذلك، فإنها تحمل معنى إيحائياً بأن الانفتاح على قدرة الله قد يهيئ له ما يشبه ذلك في مجال آخر، على أساس ما قد تقتضيه حكمة الله في الوجود، ما يعني أن مدى القدرة الإنسانية ـ في المسألة الإيمانية الإيحائية ـ هو مدى القدرة الإلهية فيما يمكن أن يتطلبه الإنسان منها بإذن الله، فأين يكون موقع الإحساس بالعجز والدونية في هذا المجال؟
كيف نفهم القضاء والقدر؟
أمّا الحديث عن القضاء والقدر، فهو حديث التخطيط الإلهي في هندسة الحركة الكونية التي يتحرك الوجود الإنساني معها، بالوسائل التي يملكها في ذاته وفي المعطيات التي تعيش في دائرته، بحيث انطلق تخطيط الحركة على خطِّ تخطيط الوجود في نطاق الأسباب التي تنتج المسبّبات، فلا يكون القضاء والقدر مجرد عنوانٍ طائرٍ في الفراغ لا يرتكز على أساسٍ في عملية التكامل الوجودي، بل هو جزء من نظامٍ كاملٍ خاضعٍ لحكمة الله في حركة إرادته في مواقع قدرته.
ولم تكن الإرادة الإنسانية بعيدةً عن مواقع القضاء والقدر، بل هي مرتبطةٌ بها ارتباط السبب بالمسبِّب، فالإنسان هو الذي يصنع قضاءه وقدره بإذن الله، فيما ركَّبه فيه من العناصر التي تنتج أحداث الحياة في المجال الخاص والعام، إضافةً إلى العناصر الموجودة في الظواهر الكونية، بحيث تتكامل الإرادة الإنسانية مع النظام الكوني في عملية تكوين الأحداث، وإذا كانت الحاجة إلى القوة تفرض على الإنسان الخضوع للمفردات الكونية في الوجود في ارتباطه بها، فإن هذه المفردات خاضعة للإرادة الإنسانية بقدر ارتباطهما بالإنسان في مواقع الفعل، كما أنهما خاضعان للأسباب المنتشرة في أنحاء الوجود في عملية النظام الكوني، فأين هي الغيبية والقهر والانسحاق في ذلك كله؟ وما هو الفرق بين القضاء والقدر كمفهومين متصلين بالعوامل الطبيعية والقوانين الكونية والإرادة الإنسانية، وبين الحتمية التي تفرضها طبيعة الوجود في القوانين العامة التي تحكم حركة الإنسان في إرادته وقوته وفعله، فيما يعبر به الماديون؟ وهل الحتمية مسألة اختيار وحريّة وأصالة في المعنى الوجودي للإنسان؟
أما حكاية التخلف في المجتمعات الدينية، فإنها كحكاية التخلف في المجتمعات غير الدينية، لم تنطلق من أصالة المفهوم الديني في نفس الإنسان، بل انطلقت من إساءة استيعاب حركته في الوعي، أو من الانحراف والابتعاد عنه، بفعل العوامل الطارئة التي قد تشوّه الفكر، وتربك الشعور، وتسقط الإرادة.
وربما كانت فكرة القضاء والقدر، حتى في مفهوم التخلف، عنصراً إيجابياً في صلابة الموقف أمام التحديات القوية والضغوط القاسية، عندما كانت توحي للإنسان بالاندفاع على قاعدة {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا}[6]، فلا يبقى هناك أي مجال للضعف في الموقف أو الاهتزاز في الموقع.
وفي هذا الجو الفكريّ الذي يؤكد جو الحرية الإنسانية في الإرادة في داخل النظام الكوني، كيف يمكن أن يتحدث الناس عن الجمود والتخلف، بدلاً من أن يتحدثوا عن التطور والتنمية؟ لأن حركة الوجود الإرادية هي صنع الإنسان في حركته الفاعلة التي تملك كل إمكانات الاندفاع والتطوير والإبداع، تماماً كما هي الشمس في إنتاجها المستمر للنور والدفء والحرارة، وكما هي الينابيع في تفجرها بالماء الذي يعطي الحياة والنموّ، فكما كانت بإذن الله حركة في التنمية الوجودية، كانت الإرادة الإنسانية، بإذن الله، حركة في التنمية العمليّة الحياتيّة.
ولكن مشكلة الكثيرين من الناس أنهم يستغرقون في الواقع المتخلِّف من حولهم عندما يتحدثون عن العناوين الكبيرة التي قد تكون واجهاتٍ للواقع من دون أن تكون حركة واعيةً في العمق الإنساني في حركة الحياة، ولا يستغرقون في الحقائق الأصيلة للقضايا الفكرية والعملية في مصادرها الأصيلة في الوحي وفي الفكر وفي الواقع.
* مجلة المنطلق الفكرية
[1] [الذاريات: 56]
[2] [الأنفال: 17]
[3] [الإنسان: 30]
[4] [البقرة: 30]
[5] [آل عمران: 49]
[6] [التوبة: 51]