لا تزال قضيّة الإسلام في مضمونه الفكري، على مستوى العقيدة والشريعة والمفاهيم الإنسانيّة وشخصيّة الرسول محمّد(ص)، تتعرّض بين وقتٍ وآخر لحملات الإساءة والتَّشويه، التي يتحرّك بها كثير من وسائل الإعلام وإنتاج الأفلام، فضلاً عمّا تتحرّك به مراكز الدراسات وأجهزة الاستخبارات، في التَّخطيط لإضفاء صورة مشوّهة عن الإسلام، تصوّره دين العنف و"الإرهاب"، من خلال تعميم سلوك جماعة محدّدة منتمية إلى المجال الإسلامي على الإسلام كلّه والمسلمين كلّهم.
واللافت أنّ هذه الحملات لم تقتصر على مفردات بعض الوسائل الإعلاميّة أو الفنّية، بل أصبح يتحرّك بها بعض أهل السياسة، حيث يُراد من خلالها التحريض ضدّ المسلمين، ليُطردوا من أوطانهم في كثير من الدول، ولا سيّما الأوروبّية منها، والذين كان آخرهم نائبٌ هولندي انطلق في حملة ضدّ القرآن الكريم عبر إنتاج فيلم لهذه الغاية، داعياً المسلمين إلى أنّهم إذا أرادوا البقاء في هولندا، فما عليهم إلا تمزيق نصف القرآن ورميه؛ لأنّه ـ بحسب زعمه ـ جوهر الشرّ، وأكثر من ذلك، مطالباً في الوقت ذاته الدولة الهولندية بمنعه، كما منعت بعض كتب النازية.
وإنّنا في هذا المجال، نثير بعض النقاط أمام الرأي العام الغربي والإسلامي على حدّ سواء، وهي:
أوّلاً: إننا نؤكّد مسألة حرّية التعبير، كأساسٍ إنسانيّ حضاري، إلا أنّنا نشدّد على أنّ هذه الحرّية لا بدّ من أن تسير جنباً إلى جنبٍ مع الاحترام، وإلا فقدت مضمونها الإنسانيّ الحضاري، وتحوّلت إلى نوعٍ من أنواع الاعتداء على الإنسان الآخر، من خلال الاعتداء على مقدّساته، بقطع النظر عن الاختلاف في تحديد المقدّس لدى هذه الفئة أو تلك. ولذلك، فإنّ ما تحرّكت به بعض وسائل الإعلام سابقاً، في نشرها الصور المسيئة إلى النبيّ محمّد(ص)، لا تدخل في إطار حرّية التعبير، بل في إطار العدوان المسيء إلى مشاعر خُمس سكّان الكرة الأرضيّة، فضلاً عن إساءتها إلى مقدّسات جزء من المواطنين في هذه الدولة أو تلك. والقرآن الكريم يؤكّد لنا مبدأ حضاريّاً إنسانيّاً يقول: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}[1]، بمعنى أنّ لكلّ أمّة أو جماعةٍ مقدّساتها التي ينبغي أن لا يُعتدى عليها؛ لأنّ ذلك سيجتذب ردود فعل مضادّة انفعاليّة، في الوقت الذي يُريد الإسلام أن يُلغي عنصر الإثارة، لتتحوّل المسألة إلى حوارٍ فكريّ موضوعيّ مُنتج، لا إلى حالةٍ غرائزيّة انفعاليّة.
ثانياً: إنّنا إذ نؤكّد أنّ هذه الأساليب لا تتّصل بحرّية التعبير، نتساءل: لماذ لا يتجرّأ أمثال هؤلاء على انتقاد التعاليم التي يطلقها اليهود، والتي تزخر بها كتبهم، في احتقار الشعوب الأخرى، كما في الاتهامات التي وجّهها بعض حاخامات اليهود لغيرهم بأنّهم "حشرات وأفاعٍ"، كما الكلمات التي تنطلق في تمجيد العنف ضدّ الشعوب الأخرى؟ ولماذا لا يتمّ نقد القوانين الغربيّة التي لا تسمح بمناقشة أدنى التفاصيل المتعلّقة باليهوديّة تحت مبدأ رفض "معاداة الساميّة"؟
ثالثاً: إنّنا ندعو إلى دراسة القرآن الكريم دراسة علميّة موضوعيّة، ليجد القارئ المنصف أنّ القرآن فيه تأكيد للكرامة الإنسانيّة، من حيثُ اعتباره الإنسان يجسد خلافة الله على الأرض، وأنّه دعوةٌ إلى المحبّة والرحمة، واتّباع الأحسن في الكلمة والأسلوب، وأنّه يمثّل حركةً في الحوار بين الأديان، داعياً إلى اجتماع الأديان على قاعدة وحدة الإله ووحدة الإنسانيّة، مؤكّداً أنّ النصارى هم من أقرب الناس إلى المسلمين، انطلاقاً من قيم الروحانيّة والتواضع الإنسانيّ. ولم يكن ـ مع ذلك ـ القرآن بُدعاً من الحركة الإنسانيّة فـي إدارة الصراع، فكان القتال والجهاد ردّ فعل لعدوان الآخر، كما قال الله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[2]؛ وهذا الاتـجاه كان ولا يزال يمثّل الخطّ الحضاري المتمثّل في شـــرعيّة الـدفاع عن النفــس أو الوقـاية مـن العـدوان.
رابعاً: بدلاً من توجيه الجهود المسيئة نحو الإسلام والقرآن الكريم الذي يتحرّك بقيم الخير والعدل، ينبغي أن تتوجّه الجهود نحو قضايا العُنف الوحشيّ الذي يُمارس فعلاً ضدّ الشعوب الفقيرة، قتلاً، وتدميراً، ونهباً للثروات، ومصادرةً للمستقبل، في ظلّ اتّجاه العالم لشرعنة الغصب والاحتلال للقائمين على الإبادة الجماعيّة للشعوب، كما حصل ويحصل في فلسطين، التي أقيمت عليها دولةٌ على أنقاض شعبٍ بكامله، بحجّة حقّ دينيّ تاريخيّ.
خامساً: نحن إذ نرفض أسلوب التكفير في مجتمعنا الإسلامي، والذي ينطلق من ذهنيّة إلغائيّة للآخر المختلف في الدين أو في المذهب أو في السياسة أو ما إلى ذلك، نرى أنّ أسلوب التكفير أصبح منهجاً ممارساً لدى كثير من الجهات العلمانيّة ضدّ الإسلام والمسلمين؛ وإذا كان ذلك الأسلوب يُنتج عنفاً لدى الفئات التكفيرية في المجال الإسلامي ضدّ المسلمين أو غيرهم، فإنّنا نلمح في حركة التكفير الغربيّة مشروعاً لتبرير أيّ عنفٍ قد يُمارس ضدّ المسلمين في داخل المجتمعات الغربيّة التي احتضنتهم مواطنين ومقيمين، وخصوصاً أنّ هذه الدعوات ترافقت مع تحذيرات إسرائيليّة أطلقها الرئيس الإسرائيلي الحالي قبل سنوات، من أنّ دول أوروبا قد تتحول إلى دول إسلاميّة، وأنّ المسلمين قد يبلغون 30 مليوناً في غضون سنوات.
سادساً: علينا أن نلتفت إلى أنّ بعض الحملات المسيئة التي تنطلق في الوسط الإعلامي الغربي، قد يكون منشؤها حركة تحريض صهيوني، لوضع الحواجز أمام أيّ تقارب مسيحي ـ إسلامي جدّي على المستوى العالمي؛ لأنّ الذين عملوا للحصول على براءة مسيحية في شأن اعتدائهم التاريخي على السيّد المسيح(ع)، عملوا في المقابل على تسهيل نظريّة الصدام المسيحي ـ الإسلامي، للحؤول دون تشكيل المسلمين والمسيحيّين معاً جبهة روحيّة قيمية إنسانيّة تمثّل ـ بحدّ ذاتها ـ تحدياً للمشروع الصهيوني القائم على العنف واحتقار الشعوب والاستكبار.
سابعاً: بات معلوماً لدى الجميع ما يُمكن أن تحدثه أمثال هذه الأساليب العدوانيّة على مقدّسات المسلمين من ردود فعل لا تصبّ في مصلحة أحد، والتي قد تشكّل موطئ قدمٍ للحركات التكفيريّة لمحاولة تبرير قيامها بالعنف لدى الجاليات الإسلاميّة في الغرب، ولسعيها إلى استقطاب شباب متحمّس لرد العدوان على مقدّسات المسلمين وتبريره تحت عنوان حرّية التعبير، في الوقت الذي يشهد العالم كلّه توقف مبدأ حرّية التعبير عند كلّ ما هو إسرائيلي وصهيوني ويهودي؛ ولذلك لا بدّ للحكومة الهولنديّة وغيرها من أن تقف بمسؤوليّة أمام عرض مثل هذه الأفلام المسيئة وغيرها، في الحاضر أو في المستقبل، حفاظاً على السلام الذي ننشده للعالم كلّه.
ثامناً: إننا نتوجّه إلى المسلمين في العالم، وخصوصاً الجاليات الإسلامية التي تعيش في الغرب، لأن تلاحق كلّ حركة تحاول تشويه الإسلام أو الإساءة إلى مقدّساته، تحت أيّ عنوان من العناوين، لتنبري بمثقّفيها ونخبها وعلمائها وكلّ طاقاتها الشعبيّة، للقيام بمسؤوليّاتها على المستوى الإعلامي والسياسي والقانوني والأدبي والفنّي؛ لإيقاف مثل هذه الحملات المسيئة، وكشف أهدافها وغاياتها، وتفويت الفرصة على الذين يحاولون أن يوجدوا شرخاً بين المسلمين ومجتمعاتهم الغربيّة؛ وكلّ ذلك باعتماد الوسائل والأساليب الحضاريّة التي تضمنها قوانين تلك البلدان، وتؤدّي إلى مزيد من تعاطف الرأي العام مع قضايانا المحقّة.
كما نشدّد على ضرورة أن يتحرّك الإنتاج الفنّي على أوسع مدىً، في حركةٍ فاعلةٍ لمخاطبة الرأي العام الغربي بالمضامين الحضاريّة الإسلاميّة، والتعريف بالإسلام ديناً ينفتح على كلّ الأديان، ويمتلك إسهامات جبّارة في النقلة الإنسانيّة الحضاريّة، ولا يتحرّك بالعدوان، بل يتحرّك في نطاق الجهاد الدفاعي عندما يُعتدى عليه.
وإنّنا في هذا المجال، نؤكّد ضرورة أن يتحرّك المسلمون الواعون للقيام بمبادرات ذاتيّة، وإنشاء علاقات واسعة النطاق مع المفكّرين الغربيّين ومراكز الأبحاث والدراسات والجهات الفاعلة على المستوى السياسي، وغيرهم، حتّى يقطعوا الطريق على كلّ الذين يتحرّكون لتضليل الرأي العام الغربي تجاه قضايانا الإسلاميّة.
أخيراً: إنّنا نطلب من الأمم المتّحدة والدول المنضوية تحت لوائها، أن تؤكد على الصعيد العملي، ما أعلنت الالتزام به من رفض العداء للإسلام، الذي كان الأمين العام السابق للأمم المتّحدة قد أكّده، إلى جانب رفضها العداء للساميّة؛ فلا يكوننّ هناك صيف وشتاء على صعيد واحد. ولقد كنّا ولا نزال نُطلق الدعوة إلى الصداقة العالميّة بين الإنسان كلّه، وإلى أن يلتقي أتباع الأديان على قيم العدالة والمحبّة والاحترام والخير للإنسان كلّه.
[المصدر: جريدة الحياة اللندنية، التاريخ: 1 صفر 1429هـ/ 07 - 02 - 2008م].
[1] [الأنعام: 108].
[2] [البقرة: 190].