اختلفت النظرة إلى المرأة بين الشعوب والأمم المختلفة، ففي الحضارة الهندية، كان المجتمع ينكر إنسانية المرأة، ويُعرض عن الاعتراف بقيمتها الاجتماعية، ويحرمها من كلّ حقوقها، بل هي عند الهنديّ أسوأ من الوباء والجحيم والسمّ والأفاعي.
وفي فارس، أدخل زرادشت تغييراً هامّاً على موقف المجتمع الفارسي منها، فتمتّعت ببعض الحقوق، كاختيار الزوج، وحقّ الطلاق، وملك العقار، وإدارة الشؤون المالية للزوج، ولكنها ما لبثت أن خسرت هذه الحقوق بعد موته، وأصبحت محتقرة منبوذة، ووصل الأمر إلى حدّ احتجابها حتّى عن محارمها، كالأب والأخ والعمّ والخال، فلا يحقّ لها أن ترى أحداً من الرّجال إطلاقاً.
أمّا الرّومان، فكانت نظرتهم إلى المرأة نظرة دونيّة، حيث جعلها القانون الروماني كمخلوق فاقد الأهليّة، تعامل كالأطفال والمجانين، وكانت تباع من قبل ربّ الأسرة.
ولم تكن المرأة أحسن حالاً عند الشّعوب والأمم الأخرى، فقد كانت تعامل باحتقار عند البابليّين والآشوريّين والبربر.
ولكنها كانت تحتلّ مكانة مرموقة في الحضارة المصرية في الطبقة الغنيّة، فتولت الملك، وسطّرت القوانين، ومارست السياسة، واعتبرت سيّدة البيت، ونسب إليها الأبناء في حالات عديدة، ولكنّها كانت تعامل بقسوة في القانون الجنائي، أمّا في الطبقة الفقيرة، فعاشت المرأة ظروفاً قاسية.
وهكذا كانت في الجاهليّة عند العرب، حيث علا شأنها في الأوساط الثريّة الحاكمة عند ذويها، وكانت موضع تقدير الرَّجل ورعايته وعطفه، أمّا في غير هذه الطبقة الاجتماعيّة، فلم تستطع أن تتخلّص من ذلك الوضع الغالب الّذي لقيت فيه أنواعاً من العنت، وألواناً من المهانة، وصوراً بشعة من القسوة.
الحجاب عند الأمم المختلفة:
أمّا في ما يخصّ الحجاب، فنجد أنّه يوغل جذوره في القدم، وهذا ما يظهر جليّاً في آثار الشعوب المختلفة ورسومها وتماثيلها، ولا سيّما عند الرومان والإغريق، حيث كان كلٌ من الرجال والنساء يلبسون غطاءً للرأس في احتفالاتهم الدينيّة، ومن هذه العادات، أخذ اليهود عادة غطاء الرّأس للرّجال والنّساء، وكتبوها في التلمود، وبعد اليهود، استمرّ النصارى في عادة تغطية الرأس.
أمّا في الهند، فيقول جواهر لال نهرو في معرض حديثه عن ظاهرة الحجاب، إنّ هذه الظّاهرة تسرّبت إلى الهند بسبب نفوذ الإمبراطوريّتين الفارسيّة والرومانيّة، حيث كانت عادة الحجاب منتشرة فيهما.
وقد عزا بعض المؤرّخين ظاهرة الحجاب في الأمم والأديان السّابقة إلى انحطاط قيمة المرأة عندهم، وأحصوا أسباباً كثيرة لهذه الظّاهرة، فمنها ما هو اقتصادي، ومنها ما هو أخلاقي، ومنها ما هو فلسفي أو سياسي أو نفسي، في حين اعتبر البعض الآخر أنّه جاء نتيجةً لعدم الأمن والاستقرار، أو أنّه يعود إلى توظيف الرّجل لقوّته الّتي تفوق قوّة المرأة، للاستئثار بها، باعتبارها من ممتلكاته الّتي لا يحقّ للآخرين حتى رؤيتها.
بين الستر والحجاب:
يستعمل كثير من المسلمين كلمة "الحجاب" لوصف ما يسمونه بالزّيّ الإسلامي للمرأة، وخصوصاً غطاء الرأس، وكلمة الحجاب الواردة في القرآن الكريم تكرّرت سبع مرات، ولكنّها في هذه المرّات السبع، لم تستعمل بمعنى زيّ المرأة ولباسها. ولذلك، فإنّ من الدقّة استخدام مصطلح "السّتر" بدلاً من مصطلح الحجاب.
إنّ هذا الالتباس، جعل البعض من الباحثين يخلطون بين ظاهرة الحجاب "السّتر" وظاهرة "الحجب"، أي حجب المرأة عن المجتمع الّذي تعيش فيه، وهاتان الظّاهرتان منفصلتان، ووجود إحداهما لا يعني بالضّرورة وجود الأخرى، ولكن لكثرة اجتماعهما وتلازمهما في الأمم والأديان السّابقة، ولّد عند الباحث في هذا المجال نوعاً من الارتباط بين هاتين الظّاهرتين.
كما أنّه يجب التّفريق بين نظرة الإسلام وبين غيرها من النّظرات حول المسألة، بل يجب أن يفصل بين المجتمعات الّتي كانت مسألة الحجاب فيها ذات منشأ ديني، وبين تلك الّتي كانت المسألة فيها ذات مناشئ أخرى، بل ويجب أيضاً الفصل بين نظرة الأديان في هذه المسألة، كلّ على حدة، ومن غير الموضوعيّ أن يخرج الباحث بنظرة واحدة تشمل الكلّ على اختلاف المناشئ، ثم تعمّم النتيجة تلقائيّاً على أيّ مجتمع توفّرت فيه ظاهرة الحجاب.
ولعلّ النموذج اليهوديّ للحجاب هو أكثر النّماذج تشدّداً أو تخلّفاً، وأكثرها حجباً للمرأة عن المجتمع، حيث إنهم عزلوا المرأة نهائيّاً عن المشاركة في الحياة الاجتماعيّة، وحمّلوها ضريبة قاسية فيما لو فعلت ذلك. يقول المؤرّخ والفيلسوف الأمريكي ويل ديورانت: "كان في وسع الرّجل أن يطلّق زوجته إذا عصت أوامر الشريعة اليهوديّة، بأن سارت أمام الناس عارية الرّأس، أو غزلت الخيط في الطريق العام، أو تحدّثت إلى مختلف أصناف النّاس، أو إذا كانت عالية الصّوت، أي إذا كانت تتحدّث في بيتها بحيث يستطيع جيرانها سماعها، ولم يكن عليه ـ أي الزّوج ـ في هذه الأحوال أن يدفع لها بائنتها".
كما ينقل أنّ اليهود كانوا إذا حاضت المرأة، أخرجوها من البيت، ولم يؤاكلوها أو يشاربوها أو يجتمعوا معها في مكان واحد، وهذا بخلاف ما كان عليه الإسلام، إذ كانت المرأة عندما تحيض، تبقى في دائرة الاجتماع الإنساني، وتمارس حياتها بشكل اعتياديّ ما عدا النّكاح.
ولعلّ عدم الفصل بين الستر والحجب، قد أساء إلى الإسلام كثيراً، فمفهوم الحجب إنما يستبطن نظرة دونيّة إلى المرأة، تدفع الرّجل إلى عزلها عن محيطها الاجتماعي، وهو ما لا يقرّه الدّين الّذي أمر بالسّتر، ولا شكّ في أنّ النظرة الدونيّة إلى المرأة، يجعلها تحسّ بالنّقص، وقد يدفعها هذا الوضع الاجتماعيّ إلى أن تقبل لنفسها هذه العزلة المفروضة عليها، فيما الإسلام يرفض ذلك.
اللّباس المتعارف للمرأة في الجاهلية:
يظهر بعد مراجعة بعض المصادر، أنّ المرأة في زمن الجاهليّة وإلى ما بعد الهجرة، لم تكن دقيقة في مسألة السّتر. قال الزّمخشري: "كانت جيوبهن* واسعةً، تبدو منها نحورهن وصدورهن وما هو إليها، وكنّ يسدلن الخمر من ورائهنّ فتبقى مكشوفة".
ويقول أيضاً: "كانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقطّع خلخالها".
قال الغرناطي: "كنّ في ذلك الزّمان يلبسن ثياباً واسعات الجيوب، يظهر منها صدورهنّ، وكنّ إذا غطّين رؤوسهنّ بالأخمرة، يسدلنها من وراء الظّهر، فيبقى الصّدر والعنق والأذنان لا ستر عليها".
وقال الفخر الرّازي: "إنّ نساء الجاهليّة كنّ يشددن خمرهنّ من خلفهنّ، وإنّ جيوبهنّ كانت من قدّام، فكان ينكشف نحورهن وقلائدهن".
ومن خلال هذه النّصوص، تظهر لنا صورة ما كان عليه لباس المرأة في ذلك الوقت، مع الإشارة إلى أنّ الخمار نفسه لم يكن ملزماً على المرأة، بل إنّ بعض النّسوة كنّ يخرجن من دون خمار في غير أيّام الحرّ، ولم يكن الخمار أمراً مشرّعاً في دينهم أو عرفهم، ولذلك قال الغرناطي: "كنَّ إذا غطّين رؤوسهنّ بالأخمرة..."، فإنّه يظهر أنّ المرأة لم تكن تخرج بالخمار دائماً.
وهكذا نصل إلى نتيجة مفادها أنّ الحجاب كلمة عامّة، تختلف النظرة إليها بين مجتمع وآخر، وربما في داخل المجتمع الواحد، ولذلك يجب التّفريق بين الحجاب الإسلامي والحجاب عند الأمم الأخرى، كما أنّه يجب الفصل بين المجتمعات الّتي كانت ظاهرة الحجاب فيها ذات منشأ دينيّ، وبين تلك الّتي كانت الظّاهرة فيها ذات مناشئ أخرى. ولذلك، ينبغي أن لا تكون النظرة تعميميّة وتأخذ أبعاداً تنحرف بها عن المسار الحقيقيّ للحجاب، وذلك باعتبار أنّ النظرة إلى المرأة تختلف بين مجتمع وآخر، وبما أنّ الحجاب "الستر" هو الّذي يملي على المرأة المسلمة شكل لباسها، فإنّ ذلك ينعكس لا محالة على معنى الحجاب من النّاحيتين الشكليّة والقيميّة.
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .