كتابات
16/02/2014

حول الحكم والدَّولة الإسلاميَّة والعدالة الاجتماعيَّة

حول الحكم والدَّولة الإسلاميَّة والعدالة الاجتماعيَّة

يتناول سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) في هذا الحوار عناوين عديدة، منها الحديث عن الجمود في فقه الدَّولة الإسلاميّة، وسبب الاختلاف في ذلك بين المذهبين السنّيّ والشّيعيّ، إضافةً إلى الحديث عن شكل الدّولة الإسلاميّة، والرّأي الإسلاميّ في بعض المصطلحات السياسيّة الحديثة، كالدّيمقراطيّة، كما يتناول مفهوم العدالة الاجتماعيَّة، وغيرها من العناوين. وهذا نصّ الحوار.

جمود في فقه الدّولة

* بالنّسبة إلى فقه الدّولة، ثمّة جمود ملموس في الاجتهادات المعاصرة، يمكن ملاحظته من خلال النّتاج المتوفّر في المكتبة الإسلاميّة. إلامَ نعزو هذا الأمر، في رأيكم؟

- ربما نجد الكثير من فروع فقه الدّولة في الفقه الإسلامي السنّيّ، لأنّ الدّولة الإسلاميّة كانت تتبع المذهب السنّيّ في كلّ قوانينها، باعتبار أنّ التزامها بالإسلام يفرض عليها ذلك. ولهذا، فقد انشغل الفقهاء المسلمون بالأوضاع والمستجدّات الّتي كانت تعيشها الدّولة، وألَّفوا الكتب المتّصلة بمسائل الأموال والخراج، وبالقضايا المتعلّقة بأهل الذمّة في داخل البلاد الإسلاميّة، وبالدّول والجماعات الموجودة خارجها، وخصوصاً بالعلاقات مع أهل الكتاب أو غير أهل الكتاب. كما رأينا الكتابات الّتي تتحدّث عن مسألة العلاقة مع الحاكم في الطّاعة والرّفض، وما إلى ذلك من المفردات المتناثرة في الفقه السنّيّ.

أمّا في الفقه الإسلامي الشيعي، فربما تضاءل الاهتمام بهذه القضايا، لأنّ الفقه عندنا لم يبتل بالدّولة. ومن هنا، لم يجد الفقهاء الشيعة ضرورةً لتحريك الاجتهاد في هذا الاتجاه، إلا فيما يتعلّق بالأراضي الخراجيّة والعلاقة مع السّلطان الجائر، وما إلى ذلك، مما كان يبتلى به أهل المذهب في تعاملهم مع الدّولة، لا في ما هو تكليف الدّولة تجاه النّاس.

على أنّنا نجد بعض الالتفات الفقهيّ، إذا صحّ التعبير، من قبل قلّة من الفقهاء الّذين عاشوا زمن الدّولة الصفويّة، والّذين كانوا يصدرون الفتاوى للسّلطان أو الدّولة، مما لم يحفظ ولم يأخذ حيّزاً في الكتب الفقهيّة، وربما صدرت عن بعض الفقهاء إجازات في الحكم للسّلطان، باعتبار حاجة هذا الأخير إلى إذن الفقيه الّذي هو الحاكم الشّرعيّ الأصيل في هذا المجال، الأمر الّذي يظهر في تراث المرحوم الشّيخ جعفر كاشف الغطاء. لذلك، فإنّ فقه الدّولة، بمعنى التّأسيس الفقهيّ، غير موجود، وقد بقي ضمن الدّائرة الّتي أسلفنا.

أمّا إذا ما قرأنا الأحاديث، فإنّنا نجد فيها الكثير المتعلّق بفقه الدّولة، فتراث الإمام عليّ(ع) غنيّ في دلالته، ومثاله ما جاء في عهده إلى مالك الأشتر، وما ورد في كتبه إلى الولاة.

وفي الانتقال إلى زمننا الحاضر، نجد أنّ الفقه المختصّ بالدّولة، قد أخذ منحى آخر، لجهة مبادئ السّلطة والولاية ومنطلقاتهما ومشروعيّتهما. في هذا الإطار، تتفرّع المسألة إلى اتجاهين:

أ ـ اتجاه ولاية الفقيه الّذي يعتبر الحاكميّة هي للوليّ الفقيه طالما هو محرز للشّرائط، باعتبار أنّ للفقيه ما للإمام من مشروعيّة الحكم، وإن كان ثمة فرق في طبيعة الموقع، ذلك أنّ الفقيه لا يقوم منصبه على التّعيين كالإمام، ولهذا نصّ الدستور الإسلامي في إيران على آليّة معيّنة لاختيار الفقيه، تمنح الشّعب دوراً مباشراً أو غير مباشر، مع وجود فارقٍ بين اختيار الفقيه والاستفتاء على الدّستور، أو اختيار أعضاء مجلس الشّورى، ورئيس السلطة التنفيذيَّة ـ رئيس الجمهوريَّة ـ، ذلك أنّ تداول السّلطة يتمّ في السّلطتين الأخيرتين دون رأس الحكم، مع وجود خصوصيّة في آليّة التّداول ومشروعيّته، تكمن في تعليق الاختيار الشعبي على موافقة الفقيه.

ب ـ أمّا الاتجاه الثّاني، فيقوم على نظريَّة حفظ النِّظام، وبذلك يلتقي هذا الاتجاه مع نظريَّة الشّورى، والّذين يقولون بهذه النّظريَّة، لم تثبت لديهم نظريَّة محدَّدة للحكم في الشَّريعة زمن الغيبة، فهم لا يرون كفاية الأدلّة على ولاية الفقيه.

فحسب هذه النظريّة، فإنّ الإمام هو الغائب المهدي المنتظر، وأنّه لم يرد في ما تراه هذه النظريّة أيّ تفصيل في ما يتوجّب على المسلمين القيام به في عصر الغيبة، سوى أن يرجعوا إلى العلماء في أخذ الأحكام. أمّا كيف يكون الحكم؟ وما هي الآليّة الواجب التزامها في إدارة السّلطة، فهذا ما لم يثبت نصّ واضح بخصوصه.

وربما نجد هناك بعض النفوس القلقة الّتي تتحدّث عن حرمة إقامة حكم في عصر الغيبة، وترى أنّ كلّ راية ترتفع قبل راية الإمام المهدي هي راية ضلال. أمّا نحن، فنعتقد أنّ من المسلّمات الفقهيّة، ضرورة إقامة سلطة تحفظ للنّاس توازنهم، وتحقن دماءهم، وتصون أعراضهم وأموالهم، بحيث يكون حفظ النّظام هو القاعدة الّتي تتحرّك فيها الشرعيّة على مستوى التّشريع، فإذا ارتكزنا إلى مسألة وجوب حفظ النّظام، سلّمنا تالياً بلابدّية قيام دولة، إذ لا نظام بلا دولة، وخصوصاً في العالم الّذي أصبحت فيه الدّولة ضرورة سياسيّة واقتصاديّة وأمنيّة وثقافيّة وتربويّة وحياتيّة... إلخ.

شكل الدّولة الإسلاميّة

* كيف ترى طبيعة هذه الحكومة؟

ـ لا شكَّ في أنّ واجب المسلمين هو تطبيق الشّريعة الإسلاميّة، وذلك انطلاقاً من مسؤوليّتهم في إطاعة الله في أوامره ونواهيه، وتقتضي الضَّرورة في هذا الميدان وجود حاكم.

يبقى السّؤال: كيف نقيم الدَّولة؟ هنا، لا بدّ لنا من دراسة شكل الدّولة الّذي يمكن أن يحفظ نظام الناس، وطالما أنّه لم تكن ثمة صيغة محدّدة، فيمكننا أن نختار الشّكل المناسب، وبالتّالي، قد يكون الأنسب هو النظام الديمقراطي في إطار الخطوط الإسلاميّة العامّة الّتي ترسم حدود الحلال والحرام. وفي ضوء هذا، يمكن الحديث عن مشروعيّة تداول السّلطة، أي يمكن أن يكون حفظ النّظام مرتكزاً على أساس أن يكون الحاكم منتخباً لمدّة معيّنة، يخلفه حاكم آخر، ويمكن بذلك مثلاً أن تتناوب الاتجاهات الإسلاميّة السّلطة داخل دائرة النظام، من أجل أن تجعل الحكم على حسب اجتهادها، أي حسب الخطّ الاجتهاديّ الّذي تراه.

وهنا بالطبع، نحن نتحدّث عن المسلمين الّذين يشكّلون الأكثريّة في بلدٍ ما، ويكون النظام الّذي يمثّلهم يستند إلى دستور إسلاميّ يقوم على رأسه حاكم مسلم قادر على ممارسة السّلطة ورعاية القوانين وفق الشّريعة، تماماً كما هو النّظام العلمانيّ الّذي يقوم دستوره على العلمانيّة، ويرأسه مسؤول مؤمن بالعلمانيّة، يحرص على حفظها من خلال قدرته على إدارة الحكم وتطبيق الدّستور وحمايته وحفظه. وفي الواقع، قد يتماثل الاتجاهان في الموقف نفسه من الاتجاهات الأخرى، فكما أنّ العلمانيّة لا تتيح المجال لتداول السّلطة لمعادين لدستورها العلماني، كذلك يتعامل المجتمع الإسلاميّ مع الاتجاهات المعادية.

إنّنا في الواقع نختلف مع الديمقراطيّة في نقطة فلسفيّة أساسيّة، وهي أنّ الديمقراطية تعتبر أن الأكثرية هي الّتي تحدد الشرعيّة، وأنّ الحقّ هو ما تقوم به الأكثرية من دون أيّ ضوابط أخرى، إذ ليس لأحد في هذا الإطار أن يفرض على الأكثريّة أيّ قيود وأيّ حدود معيّنة، ولكنّ الإسلام لا يؤمن بهذه النّظرة. ولذا كنّا نقول إنّنا نأخذ بالديمقراطيّة أو بالأكثريّة كآليّة، ولكنّنا لا نتبنّى فلسفتها، وهذا ما يجعلني دائماً لا أتحدّث عن المسألة بعنوان الديمقراطيّة، ولكن بعنوان الأكثريّة، والسّبب هو أنّ الدّيمقراطيّة كمفهوم، هي ذات دلالات فكريّة لا نلتقي معها، وهذا ما يجعلنا نقف موقفاً متحفّظاً عن استعمال الكلمات المطروحة في السّاحة السياسيّة، مما يكون محمَّلاً بإيحاءات وبمفاهيم تختلف عمّا نؤمن به.

قوام الدّولة الإسلاميّة

* سنعود إلى نقطة فقه الدّولة، ومسألة إدارة السّلطة. إذا كان هناك دستور محدّد، وتصدّى لتطبيقه مسؤولٌ ما، قد يكون نصرانيّاً أو غير نصراني، فما المانع من أن يكون رئيساً للجمهوريّة إذا التزم بالدّستور؟

- المسألة المطروحة في الفقه تتمثّل في هل يجوز أن يكون غير المسلم حاكماً على المسلمين أو لا يجوز، تماماً كما هي موجودة في كلّ الدّول الوطنيّة، فمثلاً، لا يمكن أن يكون رئيس الجمهوريّة في أمريكا غير أمريكيّ، أو في فرنسا غير فرنسيّ، وحتّى الآن في إيران، لا يمكن أن يكون رئيس الجمهوريّة أو حتّى الوليّ الفقيه غير إيراني.

الفرق بين الإسلام والدّول الأخرى، أنّ المساحة الإسلاميّة ليست هي المساحة الجغرافيّة، ولكنّها العقيدة، أي أنّ الجانب العقدي له دور كبير في هذا المجال. ولذلك، كما أنّه لا يمكن لغير الإيراني أن يتولّى المسؤوليّة باعتبار الحالة الوطنيّة، لأنّ المفهوم الوطني هو الّذي يجعل لكلّ مواطن الحقّ في أن يكون رئيساً للدّولة، كذلك عندما تكون الإسلاميّة شرطاً، فالإسلاميّة تلتقي مع الوطنيّة، ولكن في نطاق الإسلام، وهذا هو الفرق.

أذكر أنّ مراسلاً لجريدة أجنبيّة سألني مرّة عن طريقة تفكيرنا في الجمهوريّة الإسلاميّة، فأجبته بأنّنا نفكّر كما يفكّر الآخرون، فإذا قبل النّاس أن يصبح الإسلام هو دين الدّولة، فغير المسلمين لا يحقّ لهم أن يكونوا في موقع القرار، لأنّ من يكون في موقع القرار، لا بدّ من أن يكون ملتزماً فكريّاً بالقاعدة الّتي تقوم عليها الدولة.

وقلت: أليس وفق مفهومكم للدّيمقراطيّة، أنّ الأكثريّة إذا انتخبت غير الإسلام، فإنّه يعتبر غير "شرعيّ"، ولو انتخبت الإسلام، فإنّه يكون "شرعيّاً"، لأنّ الأكثريّة اختارته؟!

وفي هذا الجوّ بادرته بالسّؤال: لو أنّكم ـ وكان هو ديغوليّاً ـ حصلتم على الأغلبيّة السّاحقة في الانتخابات البرلمانيّة، فهل تقبلون بتقاسم السّلطة مع الشيوعيّين أو الاشتراكيّين؟ قال: لا.

فالقضيّة طبيعيّة، وقوام الدّولة في المفهوم الإسلاميّ هو العقيدة، وليس حدود الدّولة الجغرافيّة فحسب.

* هذه مفردة من المفردات الّتي حاولنا إثارتها في الفقه، لأنّ هناك فراغاً في فقه الدّولة، وثمة مفردات أخرى غير الدّيمقراطيّة أو تداول السّلطة تستوجب التّوضيح...

- أعتقد أنّنا لن نختلف في هذه النّقطة، نحن كمسلمين نرى أنّ الحقّ في الإسلام بمجمله، بقطع النّظر عن تفاصيله، أمّا كلّ ما كان متحرّكاً في الإسلام، بحيث يتعلّق بحياة النّاس وبتطبيقات العناوين الاجتهاديّة، فليس هناك مشكل في هذا المجال.

المشاركة لحفظ نظام النّاس

* الفقه وفق النظريّة الّتي تقدّمتم بها، والقائمة على ضرورة حفظ النّظام، تفترض مرونةً ومواكبة مستمرّة، وإلا اختلّ النّظام. والسّؤال المطروح في المقام، هو حول إمكانيّة التّعايش مع المجموعات الدينيّة والتلوّنات السياسيّة والفكريّة المختلفة؟

- عندما تكون المسألة مسألة الشرعيّة الإسلاميّة، بمعنى موقف المسلمين الفكريّ والعقائديّ، فيستساغ السّؤال عن الكيفيّة والشّكل اللّذين تكون عليهما الدّولة الإسلاميّة، أمّا عندما يكون الخيار لنا ولغيرنا، أي أنّنا لا نملك إمكانيّة إقامة دولة إسلاميّة، لأنّ عناصرها ليست في يدنا، إنما نكون محكومين بالمشاركة بما يحفظ نظام النّاس، فإنّ الموقف في مثل هذه الحالة واضح من هذه الدّولة إذا كانت تحفظ نظام النّاس.

في هذا الإطار، نحن لا نجيز التمرّد بما يخلّ بالنّظام العام، وهذا أمر نستوحيه من كلمة الإمام عليّ(ع) في قوله: "لا بدّ للنّاس من أمير برّ أو فاجر"، لأنّ المسألة أنّ الله لا يحكم بنفسه، بل لا بدّ من أن يحكم بواسطة الناس وفقاً للتّشريع الإلهيّ. وفي بعض الأحاديث، "أنّ الله أوحى إلى نبي في مملكة جبّار من الجبّارين، أن آت هذا الجبار وقل له: إنّني إنما استعملتك لتكفّ عني أصوات المظلومين، فإنّي لن أدع ظلامتهم ولو كانوا كفّاراً".

إنّنا عندما ندرس هذه المسألة، نعرف أنّه لا بدّ من إقامة نظام العدل الّذي يحفظ للناس حقوقهم، حتّى في مملكة الجبّار، بمعنى أنّه لا بدّ من أن نرعى نظام النّاس، فإذا كان هذا الحاكم لا يرعى النّظام العام، فإنّ علينا أن نتمرّد عليه أو أن نثور عليه، أمّا إذا كان يرعى نظام النّاس ولا بديل منه مما نؤمن به، فعلينا أن ننسجم معه، لا اعترافاً بشرعيّته بالمعنى الإسلاميّ للشّرعيّة، ولكن تحقيقاً للعدل وللأهداف الإسلاميّة المتّصلة بحماية حياة النّاس وتطوّرها.

من هنا، نحن نقول إنّ الذهنيّة الإسلاميّة والخطّ الإسلاميّ، يختلفان عن الخطوط في التيّارات الأخرى الّتي تشترط في التزام المنتمين إليها أن يعيشوا في داخل النّظام، أمّا في خارج النّظام، فيمكن أن لا يلتزموا بها، بل يلتزموا بضدّها، كما الماركسي الّذي يعيش في نظام رأسماليّ. أمّا الإسلام، فيرتكز على حماية الإنسان، ولهذا فإنّنا نتحرّك لتطبيق العناوين الإسلاميّة الكبرى في حياة النّاس، حتّى في داخل المجتمعات غير الإسلاميّة والدّول غير الإسلاميّة.

* ألا يستدعي النّقاش الكلام عن الخلفيّة الإنسانيّة للتّشريع الإسلاميّ باعتباره دين الفطرة؟

- لا يمنع من أن يكون العنوان الإنساني متقدّماً في جوهر الرؤية، وهي مسألة لا بدّ من أن تعيش في عناوين معيّنة، لأنّ الإنسانيّة تشكل أرضيّة نفسيّة وفطريّة مشتركة للناس.

مقياس العدالة

* هناك كثير من الدّول غير الإسلاميّة تطبّق العدالة الاجتماعيّة، بينما هناك دول إسلاميّة لا تطبّقها، فالعدالة الاجتماعيّة الّتي هي مقصد إلهيّ أساس، ونلمس تعبيراتها في غير آية، هي في الحقيقة توق بشريّ فطريّ، والعبرة في التّطبيق لا في الموقف النظريّ. ما رأيكم في ذلك؟

- ما هو مقياس العدالة؟ مقياس العدالة أن يؤخذ لكلِّ ذي حقّ حقّه.. الآن حتّى الدّول العلمانيّة تختلف في مسألة تحديد الحقوق. لذا نقول إنّه من الصّعب جدّاً أن نتحدّث عن شيء إنسانيّ خارج إطار فكريّ معيّن، فعلى هذا الأساس، نحن نريد العدالة الاجتماعيّة وفق ما شرّعه الإسلام من حقوق النّاس.

مثلاً: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}[النساء: 11]، هنا لحظت العدالة الاجتماعيّة الإسلاميّة خصوصيّات هي في صميم الحياة التشريعيّة الأساسيّة، فالمرأة لا تتحمّل مسؤوليّة أشياء معيّنة، والرجل يتحمّل المسؤوليّة فيها. بينما الأمر بالنّسبة إلى القوانين الأخرى، أنّ الرّجل مثل المرأة في هذه القضايا. وهكذا، فنحن نقول إنّ كلمة الإنسانيّة، وحتّى كلمة العدالة الاجتماعيّة، هي مفاهيم غائمة تعطيك حالة ورديّة ضبابيّة، ولكنّها تختلف حسب اختلاف الخطوط الّتي تتحرّك فيها.

فنحن هنا نقول إنّ الإسلام مثلاً أكّد العدالة الاجتماعيّة والعدالة الفرديّة، وهو لم يؤكّد شيئاً كما أكّد العدالة (بالطّبع هي مقصد أساس). القرآن الكريم اعتبر كلّ حركة الرسالات والرسل حركة عدالة {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[الحديد: 25]، عدلٌ مع الله، وعدل مع النّفس، وعدل مع النّاس، وعدل مع الحيوان، وعدل مع الحياة، حتّى إنّ مفهوم العدل في الإسلام يتّجه إلى العدل مع النّفس، فلا يجوز لك أن تظلم نفسك، بينما في كلّ التيّارات الأخرى، نجد أنّ القانون لا يحاسب الإنسان على الأضرار الّتي يلحقها بنفسه قانونياً، فالإنسان لو انتحر، لا يعتبر الانتحار جريمة قانونية يعاقب عليها، مثلاً الّذي يجرّب الانتحار، أو الّذي يضرّ نفسه لجهة أن يأكل ما يضرّه، لا يكون مخالفاً للقانون، بينما في التّشريع الإسلاميّ يكون كذلك.

لذلك نحن نقول، إنّ العدل له مفهومه، وهو أن تعطي كلّ ذي حقٍّ حقّه. الإسلام ركّز نقطة في مفهوم العدل، وهي أنّ العدل لا دين له بالمعنى التّطبيقيّ، "إنما أهلك مَن كان قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق الشّريف تركوه، وإذا سرق الضّعيف أقاموا عليه الحدّ". هذا على المستوى النظريّ، أمّا على المستوى التطبيقيّ، فتصبح الضّمانة هي تقوى المتديّن.

الآن، لا فرق بين الإسلام وغيره في العالم، لجهة الحثّ على أن يكون الإنسان مستقيماً، وهكذا القانون لا يحمي نفسه، رجل القانون هو الّذي يحمي القانون من نفسه ومن غيره. نحن لدينا نصّ في هذا المجال: "اللّهمّ فكما كرّهت لي أن أُظلم، فقني من أن أظلِم، ولا أُظْلَمَنّ وأنت مطيقٌ للدّفع عني، ولا أظلمنّ وأنت القادر على القبض منّي"، {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[المائدة: 8]، {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}[الأنعام: 152]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}[النّساء: 135]... إلخ. فإذاً نحن نستطيع أن نصوغ مفهوم العدل على المستوى الفكريّ الإسلاميّ، بطريقة واقعيّة تدخله في السياسة والاجتماع والاقتصاد، تدخله في كلّ واقع الإسلام، سواء في الحرب أو في السّلم وما إلى ذلك.

التّصالح على مستوى القيم!

·   هناك الكثير من القيم المشتركة بين النّاس، فما المانع من وصول المجتمع إلى التّصالح على مستوى هذه القيم، بمعنى أن يأخذ الدّستور أو التّشريع روح هذه القيم الّتي هي إسلاميّة وإنسانيّة في الوقت نفسه، والّتي فطر عليها الإنسان؟

ـ إذا نظرنا إلى النّاس في حياتهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة بعيداً عن علاقتهم بنا، بمعنى أن تكون العلاقة بالله في تنظيم المجتمع وفي حركته غير ملحوظة كأساس للنّظام، هنا نقول إنّه لا يوجد فرق بين مجتمع ومجتمع، لكن نحن نرى أنّ الإسلام أخذ بالاعتبار العلاقة مع الله الّتي رأى فيها أساساً في إنسانيّة الإنسان {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}[فصِّلت: 30]، فالعلاقة بالله، ودخول معنى الله في كلّ تفاصيل النّظام، من أساسيّات النّظرة الإسلاميَّة. فالقرآن الكريم عندما يتحدَّث عن أيّ قانون من القوانين، يربطه بالمعنى الرّوحيّ: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}[هود: 113].

لذلك نقول، إنّ القاعدة الإسلاميَّة مرتبطة بالله، والحركيّة إنّما تنطلق من خلال الله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[الأحزاب: 36]، {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}[النّساء: 65].. لذلك، عندما نريد إقامة النّظام، لا بدّ من أن يكون هذا هو الأساس الّذي ينطلق منه النّظام، ويعيش في تفاصيله الفرديّة والاجتماعيّة والسياسيّة.

* ولكنّنا عندما نعيش داخل نظام لا يملك فيه الإسلام أن يتموضع أو يتمظهر، فما العمل؟

ـ عندها نقبل أن نصالح، يعني نحن الآن في المجتمع العلماني الّذي تحكمه العلمانيّة، نعمل على رفع الظّلم عن النّاس ولو بالمعنى العام للظّلم، نعمل على إقامة العدل بين النّاس ولو بالمعنى الإنساني للعدل، نعمل على نشر قيم العفّة، والصّدق، والأمانة، والمحبّة، إلى غير ذلك...

النّقطة الّتي أحبّ أن أركّز عليها، أنّ المسلم لا يعيش حياديّاً في المجتمع غير المسلم، لا يعيش اللامبالاة أمام ما يحدث للنّاس في المجتمعات الّتي يحكمها غير الإسلام، بل يتدخّل لتخفيف الظّلم إن كان هناك ظلم لا يستطيع رفعه، ولتقوية العدل إذا كان لا يستطيع تحقيق شموله، ولمواجهة كلّ الانحرافات الأخلاقيَّة في المجتمع. هناك بعض النّاس الّذين قد ينتقدون العلماء الّذين يتحدّثون عن الخلاعة وعن الفجور، مع أنّها محاولة من قبلهم لنشر القيم. نعم، ينبغي أن لا نهمل جانباً ونركّز على جوانب، مع مراعاة الأولويّات الّتي لا بدَّ من أن تكون ملحوظة في المقام، لكن نحن لأنّنا نريد أن نحافظ على الفرد المسلم وعلى المجتمع المسلم في إطار القيم الّتي نؤمن بها، نتحرّك من أجل تحقيق هذه القيم في المجتمع.

القيمة الأهمّ

·   ولكن إذا دار الأمر بين حاكمٍ مسلم وآخر غير مسلم، وكان الحاكم المسلم غير عادل، وكان الحاكم غير المسلم عادلاً، فهل يمكن للمسلم أن يقبل بالحاكم غير المسلم إذا كان عادلاً يحقّق للنّاس العدالة والتّوازن ويحفظ نظام المجتمع، ويرفض الآخر غير العادل؟

ـ نحن نقول عندما نكون في دولة غير إسلاميّة، فلا مانع من أن نشارك في رعاية القيم الإسلاميّة الّتي يلتقي فيها الإسلام مع التيارات الأخرى. أظنّ أنّكم تتذكّرون أنني أطلقت مرة شعاراً وانتُقِدْتُ فيه من قبل الإسلاميّين، عندما قلت إنّه إذا لم نستطع أن نقيم دولة الإسلام، فعلينا أن نقيم دولة الإنسان، وأن تكون إنسانيّة الإنسان هي القيمة الّتي تمثّل حقوقه وحركيّته والعلاقات في المجتمع وما إلى ذلك، هذا على أساس {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}[البقرة: 173].

لذلك، فالفكرة الّتي أتصوّرها، بحاجة إلى كثير من التّجذير. إنّ المسلم لن يكون حياديّاً في أيّ مجتمع، فهو لا يقول هذه دولة غير إسلاميّة وأنا لا علاقة لي بها، وقد تحدّثت عن هذا الموضوع في كتاب "الحركة الإسلاميّة هموم وقضايا"، ودعوت إلى المشاركة في الدّولة وفي المجلس النيابي، وحتّى المشاركة في الحكومة والوظائف، لكي لا نكون منعزلين عن حركة النّاس، ونحن لسنا منعزلين عن المجتمع. كنت أقول إنّ الفرق بين التيار الإسلامي والتيارات الأخرى، أنّ التيارات الأخرى لا تفرض على المنتمين إليها الالتزام بقيمها وبخطوطها إلا في ظلّ الدّولة. أمّا الإسلام، فيعالج شؤون الإنسان الفرد؛ فمثلاً، هو يأمر بعدم شرب الخمر وإن كان المجتمع كلّه يشرب الخمر، وهكذا... إنّه يعالج مشكلات الفرد ومشكلات المجتمع والأمّة، وهذا الّذي يعطي الإنسان المسلم حيويّة الحركة.

طُلِبَ مني استفتاء حول المشاركة في الانتخابات الرئاسيّة الأمريكيّة الأخيرة، فأصدرت فتوى بأنّه لا بدّ من أن يدرس المسلمون في أمريكا أوّلاً من هو الأقرب إلى ضمان حقوقهم في تخفيف الضّغوط عليهم، وفي إعطائهم المزيد من الحريّات، عبر إصدار القوانين الّتي تجعل حياتهم أقوى وأرحب، وعبر إلغاء القوانين الّتي تضيّق عليهم، وخصوصاً القوانين الأمنيّة، وهكذا، ولينتخبوا هذا النائب أو ذاك، أو من هو الأقرب إلى القضايا الإسلاميّة العامّة...

وأخيراً، أنا أدعو إلى المشاركة والتّفاعل في أيّ مجتمع اتّفق وجود مسلمين فيه بكلّ انفتاح ومسؤوليّة.

* "الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل".

يتناول سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) في هذا الحوار عناوين عديدة، منها الحديث عن الجمود في فقه الدَّولة الإسلاميّة، وسبب الاختلاف في ذلك بين المذهبين السنّيّ والشّيعيّ، إضافةً إلى الحديث عن شكل الدّولة الإسلاميّة، والرّأي الإسلاميّ في بعض المصطلحات السياسيّة الحديثة، كالدّيمقراطيّة، كما يتناول مفهوم العدالة الاجتماعيَّة، وغيرها من العناوين. وهذا نصّ الحوار.

جمود في فقه الدّولة

* بالنّسبة إلى فقه الدّولة، ثمّة جمود ملموس في الاجتهادات المعاصرة، يمكن ملاحظته من خلال النّتاج المتوفّر في المكتبة الإسلاميّة. إلامَ نعزو هذا الأمر، في رأيكم؟

- ربما نجد الكثير من فروع فقه الدّولة في الفقه الإسلامي السنّيّ، لأنّ الدّولة الإسلاميّة كانت تتبع المذهب السنّيّ في كلّ قوانينها، باعتبار أنّ التزامها بالإسلام يفرض عليها ذلك. ولهذا، فقد انشغل الفقهاء المسلمون بالأوضاع والمستجدّات الّتي كانت تعيشها الدّولة، وألَّفوا الكتب المتّصلة بمسائل الأموال والخراج، وبالقضايا المتعلّقة بأهل الذمّة في داخل البلاد الإسلاميّة، وبالدّول والجماعات الموجودة خارجها، وخصوصاً بالعلاقات مع أهل الكتاب أو غير أهل الكتاب. كما رأينا الكتابات الّتي تتحدّث عن مسألة العلاقة مع الحاكم في الطّاعة والرّفض، وما إلى ذلك من المفردات المتناثرة في الفقه السنّيّ.

أمّا في الفقه الإسلامي الشيعي، فربما تضاءل الاهتمام بهذه القضايا، لأنّ الفقه عندنا لم يبتل بالدّولة. ومن هنا، لم يجد الفقهاء الشيعة ضرورةً لتحريك الاجتهاد في هذا الاتجاه، إلا فيما يتعلّق بالأراضي الخراجيّة والعلاقة مع السّلطان الجائر، وما إلى ذلك، مما كان يبتلى به أهل المذهب في تعاملهم مع الدّولة، لا في ما هو تكليف الدّولة تجاه النّاس.

على أنّنا نجد بعض الالتفات الفقهيّ، إذا صحّ التعبير، من قبل قلّة من الفقهاء الّذين عاشوا زمن الدّولة الصفويّة، والّذين كانوا يصدرون الفتاوى للسّلطان أو الدّولة، مما لم يحفظ ولم يأخذ حيّزاً في الكتب الفقهيّة، وربما صدرت عن بعض الفقهاء إجازات في الحكم للسّلطان، باعتبار حاجة هذا الأخير إلى إذن الفقيه الّذي هو الحاكم الشّرعيّ الأصيل في هذا المجال، الأمر الّذي يظهر في تراث المرحوم الشّيخ جعفر كاشف الغطاء. لذلك، فإنّ فقه الدّولة، بمعنى التّأسيس الفقهيّ، غير موجود، وقد بقي ضمن الدّائرة الّتي أسلفنا.

أمّا إذا ما قرأنا الأحاديث، فإنّنا نجد فيها الكثير المتعلّق بفقه الدّولة، فتراث الإمام عليّ(ع) غنيّ في دلالته، ومثاله ما جاء في عهده إلى مالك الأشتر، وما ورد في كتبه إلى الولاة.

وفي الانتقال إلى زمننا الحاضر، نجد أنّ الفقه المختصّ بالدّولة، قد أخذ منحى آخر، لجهة مبادئ السّلطة والولاية ومنطلقاتهما ومشروعيّتهما. في هذا الإطار، تتفرّع المسألة إلى اتجاهين:

أ ـ اتجاه ولاية الفقيه الّذي يعتبر الحاكميّة هي للوليّ الفقيه طالما هو محرز للشّرائط، باعتبار أنّ للفقيه ما للإمام من مشروعيّة الحكم، وإن كان ثمة فرق في طبيعة الموقع، ذلك أنّ الفقيه لا يقوم منصبه على التّعيين كالإمام، ولهذا نصّ الدستور الإسلامي في إيران على آليّة معيّنة لاختيار الفقيه، تمنح الشّعب دوراً مباشراً أو غير مباشر، مع وجود فارقٍ بين اختيار الفقيه والاستفتاء على الدّستور، أو اختيار أعضاء مجلس الشّورى، ورئيس السلطة التنفيذيَّة ـ رئيس الجمهوريَّة ـ، ذلك أنّ تداول السّلطة يتمّ في السّلطتين الأخيرتين دون رأس الحكم، مع وجود خصوصيّة في آليّة التّداول ومشروعيّته، تكمن في تعليق الاختيار الشعبي على موافقة الفقيه.

ب ـ أمّا الاتجاه الثّاني، فيقوم على نظريَّة حفظ النِّظام، وبذلك يلتقي هذا الاتجاه مع نظريَّة الشّورى، والّذين يقولون بهذه النّظريَّة، لم تثبت لديهم نظريَّة محدَّدة للحكم في الشَّريعة زمن الغيبة، فهم لا يرون كفاية الأدلّة على ولاية الفقيه.

فحسب هذه النظريّة، فإنّ الإمام هو الغائب المهدي المنتظر، وأنّه لم يرد في ما تراه هذه النظريّة أيّ تفصيل في ما يتوجّب على المسلمين القيام به في عصر الغيبة، سوى أن يرجعوا إلى العلماء في أخذ الأحكام. أمّا كيف يكون الحكم؟ وما هي الآليّة الواجب التزامها في إدارة السّلطة، فهذا ما لم يثبت نصّ واضح بخصوصه.

وربما نجد هناك بعض النفوس القلقة الّتي تتحدّث عن حرمة إقامة حكم في عصر الغيبة، وترى أنّ كلّ راية ترتفع قبل راية الإمام المهدي هي راية ضلال. أمّا نحن، فنعتقد أنّ من المسلّمات الفقهيّة، ضرورة إقامة سلطة تحفظ للنّاس توازنهم، وتحقن دماءهم، وتصون أعراضهم وأموالهم، بحيث يكون حفظ النّظام هو القاعدة الّتي تتحرّك فيها الشرعيّة على مستوى التّشريع، فإذا ارتكزنا إلى مسألة وجوب حفظ النّظام، سلّمنا تالياً بلابدّية قيام دولة، إذ لا نظام بلا دولة، وخصوصاً في العالم الّذي أصبحت فيه الدّولة ضرورة سياسيّة واقتصاديّة وأمنيّة وثقافيّة وتربويّة وحياتيّة... إلخ.

شكل الدّولة الإسلاميّة

* كيف ترى طبيعة هذه الحكومة؟

ـ لا شكَّ في أنّ واجب المسلمين هو تطبيق الشّريعة الإسلاميّة، وذلك انطلاقاً من مسؤوليّتهم في إطاعة الله في أوامره ونواهيه، وتقتضي الضَّرورة في هذا الميدان وجود حاكم.

يبقى السّؤال: كيف نقيم الدَّولة؟ هنا، لا بدّ لنا من دراسة شكل الدّولة الّذي يمكن أن يحفظ نظام الناس، وطالما أنّه لم تكن ثمة صيغة محدّدة، فيمكننا أن نختار الشّكل المناسب، وبالتّالي، قد يكون الأنسب هو النظام الديمقراطي في إطار الخطوط الإسلاميّة العامّة الّتي ترسم حدود الحلال والحرام. وفي ضوء هذا، يمكن الحديث عن مشروعيّة تداول السّلطة، أي يمكن أن يكون حفظ النّظام مرتكزاً على أساس أن يكون الحاكم منتخباً لمدّة معيّنة، يخلفه حاكم آخر، ويمكن بذلك مثلاً أن تتناوب الاتجاهات الإسلاميّة السّلطة داخل دائرة النظام، من أجل أن تجعل الحكم على حسب اجتهادها، أي حسب الخطّ الاجتهاديّ الّذي تراه.

وهنا بالطبع، نحن نتحدّث عن المسلمين الّذين يشكّلون الأكثريّة في بلدٍ ما، ويكون النظام الّذي يمثّلهم يستند إلى دستور إسلاميّ يقوم على رأسه حاكم مسلم قادر على ممارسة السّلطة ورعاية القوانين وفق الشّريعة، تماماً كما هو النّظام العلمانيّ الّذي يقوم دستوره على العلمانيّة، ويرأسه مسؤول مؤمن بالعلمانيّة، يحرص على حفظها من خلال قدرته على إدارة الحكم وتطبيق الدّستور وحمايته وحفظه. وفي الواقع، قد يتماثل الاتجاهان في الموقف نفسه من الاتجاهات الأخرى، فكما أنّ العلمانيّة لا تتيح المجال لتداول السّلطة لمعادين لدستورها العلماني، كذلك يتعامل المجتمع الإسلاميّ مع الاتجاهات المعادية.

إنّنا في الواقع نختلف مع الديمقراطيّة في نقطة فلسفيّة أساسيّة، وهي أنّ الديمقراطية تعتبر أن الأكثرية هي الّتي تحدد الشرعيّة، وأنّ الحقّ هو ما تقوم به الأكثرية من دون أيّ ضوابط أخرى، إذ ليس لأحد في هذا الإطار أن يفرض على الأكثريّة أيّ قيود وأيّ حدود معيّنة، ولكنّ الإسلام لا يؤمن بهذه النّظرة. ولذا كنّا نقول إنّنا نأخذ بالديمقراطيّة أو بالأكثريّة كآليّة، ولكنّنا لا نتبنّى فلسفتها، وهذا ما يجعلني دائماً لا أتحدّث عن المسألة بعنوان الديمقراطيّة، ولكن بعنوان الأكثريّة، والسّبب هو أنّ الدّيمقراطيّة كمفهوم، هي ذات دلالات فكريّة لا نلتقي معها، وهذا ما يجعلنا نقف موقفاً متحفّظاً عن استعمال الكلمات المطروحة في السّاحة السياسيّة، مما يكون محمَّلاً بإيحاءات وبمفاهيم تختلف عمّا نؤمن به.

قوام الدّولة الإسلاميّة

* سنعود إلى نقطة فقه الدّولة، ومسألة إدارة السّلطة. إذا كان هناك دستور محدّد، وتصدّى لتطبيقه مسؤولٌ ما، قد يكون نصرانيّاً أو غير نصراني، فما المانع من أن يكون رئيساً للجمهوريّة إذا التزم بالدّستور؟

- المسألة المطروحة في الفقه تتمثّل في هل يجوز أن يكون غير المسلم حاكماً على المسلمين أو لا يجوز، تماماً كما هي موجودة في كلّ الدّول الوطنيّة، فمثلاً، لا يمكن أن يكون رئيس الجمهوريّة في أمريكا غير أمريكيّ، أو في فرنسا غير فرنسيّ، وحتّى الآن في إيران، لا يمكن أن يكون رئيس الجمهوريّة أو حتّى الوليّ الفقيه غير إيراني.

الفرق بين الإسلام والدّول الأخرى، أنّ المساحة الإسلاميّة ليست هي المساحة الجغرافيّة، ولكنّها العقيدة، أي أنّ الجانب العقدي له دور كبير في هذا المجال. ولذلك، كما أنّه لا يمكن لغير الإيراني أن يتولّى المسؤوليّة باعتبار الحالة الوطنيّة، لأنّ المفهوم الوطني هو الّذي يجعل لكلّ مواطن الحقّ في أن يكون رئيساً للدّولة، كذلك عندما تكون الإسلاميّة شرطاً، فالإسلاميّة تلتقي مع الوطنيّة، ولكن في نطاق الإسلام، وهذا هو الفرق.

أذكر أنّ مراسلاً لجريدة أجنبيّة سألني مرّة عن طريقة تفكيرنا في الجمهوريّة الإسلاميّة، فأجبته بأنّنا نفكّر كما يفكّر الآخرون، فإذا قبل النّاس أن يصبح الإسلام هو دين الدّولة، فغير المسلمين لا يحقّ لهم أن يكونوا في موقع القرار، لأنّ من يكون في موقع القرار، لا بدّ من أن يكون ملتزماً فكريّاً بالقاعدة الّتي تقوم عليها الدولة.

وقلت: أليس وفق مفهومكم للدّيمقراطيّة، أنّ الأكثريّة إذا انتخبت غير الإسلام، فإنّه يعتبر غير "شرعيّ"، ولو انتخبت الإسلام، فإنّه يكون "شرعيّاً"، لأنّ الأكثريّة اختارته؟!

وفي هذا الجوّ بادرته بالسّؤال: لو أنّكم ـ وكان هو ديغوليّاً ـ حصلتم على الأغلبيّة السّاحقة في الانتخابات البرلمانيّة، فهل تقبلون بتقاسم السّلطة مع الشيوعيّين أو الاشتراكيّين؟ قال: لا.

فالقضيّة طبيعيّة، وقوام الدّولة في المفهوم الإسلاميّ هو العقيدة، وليس حدود الدّولة الجغرافيّة فحسب.

* هذه مفردة من المفردات الّتي حاولنا إثارتها في الفقه، لأنّ هناك فراغاً في فقه الدّولة، وثمة مفردات أخرى غير الدّيمقراطيّة أو تداول السّلطة تستوجب التّوضيح...

- أعتقد أنّنا لن نختلف في هذه النّقطة، نحن كمسلمين نرى أنّ الحقّ في الإسلام بمجمله، بقطع النّظر عن تفاصيله، أمّا كلّ ما كان متحرّكاً في الإسلام، بحيث يتعلّق بحياة النّاس وبتطبيقات العناوين الاجتهاديّة، فليس هناك مشكل في هذا المجال.

المشاركة لحفظ نظام النّاس

* الفقه وفق النظريّة الّتي تقدّمتم بها، والقائمة على ضرورة حفظ النّظام، تفترض مرونةً ومواكبة مستمرّة، وإلا اختلّ النّظام. والسّؤال المطروح في المقام، هو حول إمكانيّة التّعايش مع المجموعات الدينيّة والتلوّنات السياسيّة والفكريّة المختلفة؟

- عندما تكون المسألة مسألة الشرعيّة الإسلاميّة، بمعنى موقف المسلمين الفكريّ والعقائديّ، فيستساغ السّؤال عن الكيفيّة والشّكل اللّذين تكون عليهما الدّولة الإسلاميّة، أمّا عندما يكون الخيار لنا ولغيرنا، أي أنّنا لا نملك إمكانيّة إقامة دولة إسلاميّة، لأنّ عناصرها ليست في يدنا، إنما نكون محكومين بالمشاركة بما يحفظ نظام النّاس، فإنّ الموقف في مثل هذه الحالة واضح من هذه الدّولة إذا كانت تحفظ نظام النّاس.

في هذا الإطار، نحن لا نجيز التمرّد بما يخلّ بالنّظام العام، وهذا أمر نستوحيه من كلمة الإمام عليّ(ع) في قوله: "لا بدّ للنّاس من أمير برّ أو فاجر"، لأنّ المسألة أنّ الله لا يحكم بنفسه، بل لا بدّ من أن يحكم بواسطة الناس وفقاً للتّشريع الإلهيّ. وفي بعض الأحاديث، "أنّ الله أوحى إلى نبي في مملكة جبّار من الجبّارين، أن آت هذا الجبار وقل له: إنّني إنما استعملتك لتكفّ عني أصوات المظلومين، فإنّي لن أدع ظلامتهم ولو كانوا كفّاراً".

إنّنا عندما ندرس هذه المسألة، نعرف أنّه لا بدّ من إقامة نظام العدل الّذي يحفظ للناس حقوقهم، حتّى في مملكة الجبّار، بمعنى أنّه لا بدّ من أن نرعى نظام النّاس، فإذا كان هذا الحاكم لا يرعى النّظام العام، فإنّ علينا أن نتمرّد عليه أو أن نثور عليه، أمّا إذا كان يرعى نظام النّاس ولا بديل منه مما نؤمن به، فعلينا أن ننسجم معه، لا اعترافاً بشرعيّته بالمعنى الإسلاميّ للشّرعيّة، ولكن تحقيقاً للعدل وللأهداف الإسلاميّة المتّصلة بحماية حياة النّاس وتطوّرها.

من هنا، نحن نقول إنّ الذهنيّة الإسلاميّة والخطّ الإسلاميّ، يختلفان عن الخطوط في التيّارات الأخرى الّتي تشترط في التزام المنتمين إليها أن يعيشوا في داخل النّظام، أمّا في خارج النّظام، فيمكن أن لا يلتزموا بها، بل يلتزموا بضدّها، كما الماركسي الّذي يعيش في نظام رأسماليّ. أمّا الإسلام، فيرتكز على حماية الإنسان، ولهذا فإنّنا نتحرّك لتطبيق العناوين الإسلاميّة الكبرى في حياة النّاس، حتّى في داخل المجتمعات غير الإسلاميّة والدّول غير الإسلاميّة.

* ألا يستدعي النّقاش الكلام عن الخلفيّة الإنسانيّة للتّشريع الإسلاميّ باعتباره دين الفطرة؟

- لا يمنع من أن يكون العنوان الإنساني متقدّماً في جوهر الرؤية، وهي مسألة لا بدّ من أن تعيش في عناوين معيّنة، لأنّ الإنسانيّة تشكل أرضيّة نفسيّة وفطريّة مشتركة للناس.

مقياس العدالة

* هناك كثير من الدّول غير الإسلاميّة تطبّق العدالة الاجتماعيّة، بينما هناك دول إسلاميّة لا تطبّقها، فالعدالة الاجتماعيّة الّتي هي مقصد إلهيّ أساس، ونلمس تعبيراتها في غير آية، هي في الحقيقة توق بشريّ فطريّ، والعبرة في التّطبيق لا في الموقف النظريّ. ما رأيكم في ذلك؟

- ما هو مقياس العدالة؟ مقياس العدالة أن يؤخذ لكلِّ ذي حقّ حقّه.. الآن حتّى الدّول العلمانيّة تختلف في مسألة تحديد الحقوق. لذا نقول إنّه من الصّعب جدّاً أن نتحدّث عن شيء إنسانيّ خارج إطار فكريّ معيّن، فعلى هذا الأساس، نحن نريد العدالة الاجتماعيّة وفق ما شرّعه الإسلام من حقوق النّاس.

مثلاً: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}[النساء: 11]، هنا لحظت العدالة الاجتماعيّة الإسلاميّة خصوصيّات هي في صميم الحياة التشريعيّة الأساسيّة، فالمرأة لا تتحمّل مسؤوليّة أشياء معيّنة، والرجل يتحمّل المسؤوليّة فيها. بينما الأمر بالنّسبة إلى القوانين الأخرى، أنّ الرّجل مثل المرأة في هذه القضايا. وهكذا، فنحن نقول إنّ كلمة الإنسانيّة، وحتّى كلمة العدالة الاجتماعيّة، هي مفاهيم غائمة تعطيك حالة ورديّة ضبابيّة، ولكنّها تختلف حسب اختلاف الخطوط الّتي تتحرّك فيها.

فنحن هنا نقول إنّ الإسلام مثلاً أكّد العدالة الاجتماعيّة والعدالة الفرديّة، وهو لم يؤكّد شيئاً كما أكّد العدالة (بالطّبع هي مقصد أساس). القرآن الكريم اعتبر كلّ حركة الرسالات والرسل حركة عدالة {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[الحديد: 25]، عدلٌ مع الله، وعدل مع النّفس، وعدل مع النّاس، وعدل مع الحيوان، وعدل مع الحياة، حتّى إنّ مفهوم العدل في الإسلام يتّجه إلى العدل مع النّفس، فلا يجوز لك أن تظلم نفسك، بينما في كلّ التيّارات الأخرى، نجد أنّ القانون لا يحاسب الإنسان على الأضرار الّتي يلحقها بنفسه قانونياً، فالإنسان لو انتحر، لا يعتبر الانتحار جريمة قانونية يعاقب عليها، مثلاً الّذي يجرّب الانتحار، أو الّذي يضرّ نفسه لجهة أن يأكل ما يضرّه، لا يكون مخالفاً للقانون، بينما في التّشريع الإسلاميّ يكون كذلك.

لذلك نحن نقول، إنّ العدل له مفهومه، وهو أن تعطي كلّ ذي حقٍّ حقّه. الإسلام ركّز نقطة في مفهوم العدل، وهي أنّ العدل لا دين له بالمعنى التّطبيقيّ، "إنما أهلك مَن كان قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق الشّريف تركوه، وإذا سرق الضّعيف أقاموا عليه الحدّ". هذا على المستوى النظريّ، أمّا على المستوى التطبيقيّ، فتصبح الضّمانة هي تقوى المتديّن.

الآن، لا فرق بين الإسلام وغيره في العالم، لجهة الحثّ على أن يكون الإنسان مستقيماً، وهكذا القانون لا يحمي نفسه، رجل القانون هو الّذي يحمي القانون من نفسه ومن غيره. نحن لدينا نصّ في هذا المجال: "اللّهمّ فكما كرّهت لي أن أُظلم، فقني من أن أظلِم، ولا أُظْلَمَنّ وأنت مطيقٌ للدّفع عني، ولا أظلمنّ وأنت القادر على القبض منّي"، {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[المائدة: 8]، {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}[الأنعام: 152]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}[النّساء: 135]... إلخ. فإذاً نحن نستطيع أن نصوغ مفهوم العدل على المستوى الفكريّ الإسلاميّ، بطريقة واقعيّة تدخله في السياسة والاجتماع والاقتصاد، تدخله في كلّ واقع الإسلام، سواء في الحرب أو في السّلم وما إلى ذلك.

التّصالح على مستوى القيم!

·   هناك الكثير من القيم المشتركة بين النّاس، فما المانع من وصول المجتمع إلى التّصالح على مستوى هذه القيم، بمعنى أن يأخذ الدّستور أو التّشريع روح هذه القيم الّتي هي إسلاميّة وإنسانيّة في الوقت نفسه، والّتي فطر عليها الإنسان؟

ـ إذا نظرنا إلى النّاس في حياتهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة بعيداً عن علاقتهم بنا، بمعنى أن تكون العلاقة بالله في تنظيم المجتمع وفي حركته غير ملحوظة كأساس للنّظام، هنا نقول إنّه لا يوجد فرق بين مجتمع ومجتمع، لكن نحن نرى أنّ الإسلام أخذ بالاعتبار العلاقة مع الله الّتي رأى فيها أساساً في إنسانيّة الإنسان {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}[فصِّلت: 30]، فالعلاقة بالله، ودخول معنى الله في كلّ تفاصيل النّظام، من أساسيّات النّظرة الإسلاميَّة. فالقرآن الكريم عندما يتحدَّث عن أيّ قانون من القوانين، يربطه بالمعنى الرّوحيّ: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}[هود: 113].

لذلك نقول، إنّ القاعدة الإسلاميَّة مرتبطة بالله، والحركيّة إنّما تنطلق من خلال الله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[الأحزاب: 36]، {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}[النّساء: 65].. لذلك، عندما نريد إقامة النّظام، لا بدّ من أن يكون هذا هو الأساس الّذي ينطلق منه النّظام، ويعيش في تفاصيله الفرديّة والاجتماعيّة والسياسيّة.

* ولكنّنا عندما نعيش داخل نظام لا يملك فيه الإسلام أن يتموضع أو يتمظهر، فما العمل؟

ـ عندها نقبل أن نصالح، يعني نحن الآن في المجتمع العلماني الّذي تحكمه العلمانيّة، نعمل على رفع الظّلم عن النّاس ولو بالمعنى العام للظّلم، نعمل على إقامة العدل بين النّاس ولو بالمعنى الإنساني للعدل، نعمل على نشر قيم العفّة، والصّدق، والأمانة، والمحبّة، إلى غير ذلك...

النّقطة الّتي أحبّ أن أركّز عليها، أنّ المسلم لا يعيش حياديّاً في المجتمع غير المسلم، لا يعيش اللامبالاة أمام ما يحدث للنّاس في المجتمعات الّتي يحكمها غير الإسلام، بل يتدخّل لتخفيف الظّلم إن كان هناك ظلم لا يستطيع رفعه، ولتقوية العدل إذا كان لا يستطيع تحقيق شموله، ولمواجهة كلّ الانحرافات الأخلاقيَّة في المجتمع. هناك بعض النّاس الّذين قد ينتقدون العلماء الّذين يتحدّثون عن الخلاعة وعن الفجور، مع أنّها محاولة من قبلهم لنشر القيم. نعم، ينبغي أن لا نهمل جانباً ونركّز على جوانب، مع مراعاة الأولويّات الّتي لا بدَّ من أن تكون ملحوظة في المقام، لكن نحن لأنّنا نريد أن نحافظ على الفرد المسلم وعلى المجتمع المسلم في إطار القيم الّتي نؤمن بها، نتحرّك من أجل تحقيق هذه القيم في المجتمع.

القيمة الأهمّ

·   ولكن إذا دار الأمر بين حاكمٍ مسلم وآخر غير مسلم، وكان الحاكم المسلم غير عادل، وكان الحاكم غير المسلم عادلاً، فهل يمكن للمسلم أن يقبل بالحاكم غير المسلم إذا كان عادلاً يحقّق للنّاس العدالة والتّوازن ويحفظ نظام المجتمع، ويرفض الآخر غير العادل؟

ـ نحن نقول عندما نكون في دولة غير إسلاميّة، فلا مانع من أن نشارك في رعاية القيم الإسلاميّة الّتي يلتقي فيها الإسلام مع التيارات الأخرى. أظنّ أنّكم تتذكّرون أنني أطلقت مرة شعاراً وانتُقِدْتُ فيه من قبل الإسلاميّين، عندما قلت إنّه إذا لم نستطع أن نقيم دولة الإسلام، فعلينا أن نقيم دولة الإنسان، وأن تكون إنسانيّة الإنسان هي القيمة الّتي تمثّل حقوقه وحركيّته والعلاقات في المجتمع وما إلى ذلك، هذا على أساس {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}[البقرة: 173].

لذلك، فالفكرة الّتي أتصوّرها، بحاجة إلى كثير من التّجذير. إنّ المسلم لن يكون حياديّاً في أيّ مجتمع، فهو لا يقول هذه دولة غير إسلاميّة وأنا لا علاقة لي بها، وقد تحدّثت عن هذا الموضوع في كتاب "الحركة الإسلاميّة هموم وقضايا"، ودعوت إلى المشاركة في الدّولة وفي المجلس النيابي، وحتّى المشاركة في الحكومة والوظائف، لكي لا نكون منعزلين عن حركة النّاس، ونحن لسنا منعزلين عن المجتمع. كنت أقول إنّ الفرق بين التيار الإسلامي والتيارات الأخرى، أنّ التيارات الأخرى لا تفرض على المنتمين إليها الالتزام بقيمها وبخطوطها إلا في ظلّ الدّولة. أمّا الإسلام، فيعالج شؤون الإنسان الفرد؛ فمثلاً، هو يأمر بعدم شرب الخمر وإن كان المجتمع كلّه يشرب الخمر، وهكذا... إنّه يعالج مشكلات الفرد ومشكلات المجتمع والأمّة، وهذا الّذي يعطي الإنسان المسلم حيويّة الحركة.

طُلِبَ مني استفتاء حول المشاركة في الانتخابات الرئاسيّة الأمريكيّة الأخيرة، فأصدرت فتوى بأنّه لا بدّ من أن يدرس المسلمون في أمريكا أوّلاً من هو الأقرب إلى ضمان حقوقهم في تخفيف الضّغوط عليهم، وفي إعطائهم المزيد من الحريّات، عبر إصدار القوانين الّتي تجعل حياتهم أقوى وأرحب، وعبر إلغاء القوانين الّتي تضيّق عليهم، وخصوصاً القوانين الأمنيّة، وهكذا، ولينتخبوا هذا النائب أو ذاك، أو من هو الأقرب إلى القضايا الإسلاميّة العامّة...

وأخيراً، أنا أدعو إلى المشاركة والتّفاعل في أيّ مجتمع اتّفق وجود مسلمين فيه بكلّ انفتاح ومسؤوليّة.

* "الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية