هناك فئات من العاملين للإسلام، ترى أنَّ مهمَّة الداعية أولاً، هي الإعداد لملء الفراغ النفسي المرعب الذي يعانيه الإنسان المسلم، من خلال ممارسته لأزمة الحكم، وشعوره بالضياع تجاه الأشكال المتعدّدة للحكم اللاإسلامي، وذلك بإثارة قضيَّة الحكم الإسلامي أمامه، أملاً يعيش له، وهدفاً يعمل من أجل أن يتحقّق، الأمر الَّذي يركّز له شخصيَّته، ويعمّق في داخله الإحساس بدوره المنتظر في بناء الحياة.
ونحن لا نمانع تأكيد هذا الجانب الَّذي يوقظ حركيَّة الإسلام في العمل، ولا سيّما أنَّ قضيَّة الحكم أصبحت تمثّل الإطار الَّذي يضمّ كلّ دعوة أو عقيدة كاملة، بحيث عادت ضرورة حيّة لدى المجتمع الذي يرى في الفكرة التي لا تعيش للحكم، شيئاً قلقاً لا يعمل إلا لتجزئة حياة الإنسان في نشاطات أخلاقيَّة فرديَّة واجتماعيَّة لا تحلّ مشكلة، ولا تشارك في مصير.
ولكننا لا نرى سلامة الأسلوب الَّذي يتعمَّد إغفال القضايا الأخرى الّتي تفسح للإنسان مجال الالتزام الفردي بأحكام الإسلام وتعاليمه، كهدف مرحلي يستهدف إفساح المجال لتحرّك الإسلام في الاتجاه الذي يحاول إغناء الفرد روحياً وفكرياً بالمضمون الحي للإسلام، لئلا يعود الإنسان المسلم مجرد صوت يرفع قضيّة، أو كفّ تحمل لافتة، أو حركة تحمل شعاراً، من دون أن يحس بحرارة الفكرة في داخل الوجدان، وحلاوة الكلمة في دعوة الإيمان. إننا لا نشجّع على إغفال هذه الحركة العملية في داخل الإنسان المسلم، لئلا يعود مجرد مفكّر يفكّر للإسلام، لا يتحوّل تفكيره إلى التزام، أو تخطيطه إلى عمل.
أما السبب في ذلك، فإننا نعتقد أن للإسلام وجودين، أحدهما في إطار الدولة، وثانيهما في الإطار الفردي والاجتماعي. وبذلك، يختلف الإسلام عن غيره من المبادئ الفكرية والاجتماعية السائدة، فلا يمكن للإنسان المسلم أن ينتظر قيام الدولة الإسلامية، ليطبق الإسلام على نفسه في حياته الفردية والاجتماعية، بل لا بد له من أن ينسجم مع المفاهيم الإسلامية في جميع شؤون حياته وأدوارها، ليحقّق طبيعة المسلم (الفرد)، في طريق تكوين المسلم (المجتمع في إطار الدولة).
ولعلَّ الأساس في ذلك ثابت في طبيعة التصور الإسلامي للحياة، التي يريد إيجادها وتركيزها من حيث انطلاقها من داخل الذات السائرة أبداً في خط العقيدة، لا من طبيعة النظام العام الذي تقره السلطة، ولهذا، لم يجعل وجود السلطة شرطاً أساسياً لتطبيق الإسلام في حياة الفرد والمجتمع، بل اعتبر التكليف نافذ المفعول، حتى في حال غياب السلطة الحاكمة، أو انحراف الحاكم، ولم يكن ذلك إلا لأنَّ الإسلام يؤمن بالأهداف المرحلية في مجال العمل والتطبيق، فإذا لم يمكننا بلوغ الهدف الكامل من التشريع، في إطار تطبيق النظام الإسلامي بجميع خطوطه وشرائعه، فقد نستطيع بلوغ بعض مراحل هذا الهدف على الصعيد الفردي والاجتماعي، وبذلك، نكفل للإسلام استمرار مسيرته في حياة الإنسان في جميع الظروف والحالات، كدين يبني للإنسان ضميره ويرعى حياته.
ونعود ونؤكد أننا لا نهدف من ذلك كله إلى أن يتقاعد الإنسان المسلم عن العمل الهادف إلى إعادة الإسلام إلى مكانه الطبيعي في قيادة الحياة، بل نريد أن نقرر أنَّ هذا الانفتاح الإسلامي على حياة الإنسان، في جميع الأحوال والظروف، يدفع المسلم إلى البقاء في الخطوط الدقيقة للإسلام، والالتزام بمبادئه وتعاليمه، من دون انتظار للإشارة التي تعلن قيام الحكم الإسلامي.
وكمثل على ذلك، نجد أنَّ التيارات الحديثة التي تحاول أن تنظّم حياة الإنسان في إطارها العقيدي، تلزم الإنسان بالسير في خطّها العام، قبل أن تتسلّم السلطة، لأن الفكرة ـ في مفهومها ـ لا تستطيع الحياة إلا في داخل هذا الإطار، فلا فائدة في الالتزام الفردي بحدودها المعينة في إطار يختلف عنها اختلافاً كبيراً، لأن ذلك لن يقدم أو يؤخّر شيئاً في هذا الموضوع.
وعلى هذا الأساس، فلا مانع للإنسان الاشتراكي من أن يمارس دور الرأسمالي في حالة غياب الاشتراكية عن الحكم، لأن دوره يمثل حلقة من سلسلة متصلة، فلا يعطي النتيجة المطلوبة بشكل مستقل ما لم ينضم إليها.
أما الإسلام، فلا يمكن أن يسمح للإنسان المسلم، مهما كانت الظروف والأحوال، بأن يمارس الربا في المجتمع الرأسمالي، بل يريد منه أن يبقى على التزامه الشرعي في جميع علاقاته، فإذا كان هناك مجال للرخصة، أو سبيل للتسامح، فلن يكون ذلك في إطار الربا من حيث الشكل والمضمون، بل يحاول أن يوجد له صيغة قانونية أخرى، تبتعد به عن السير في هذا الاتجاه، وليس ذلك إلا ليحفظ للإنسان نظافته الداخلية، والتزامه الفردي، قبل أن يدخل في المجتمع ليكون عضواً فيه، لأن مجال الإسلام ليس هو الفرد وحده، ولا المجتمع وحده، بل الفرد في إطاره الذاتي والاجتماعي، وكذلك المجتمع كأفراد يحاولون أن يندمجوا في الكل، وككلّ يهدف إلى أن يرعى الأجزاء من الانحراف والذوبان والتلاشي في غمار الضياع.
وبذلك، تتخلّص من النّماذج الاجتماعيَّة الَّتي تعتذر عن عدم التزامها الإسلامي، بانتظار الحكم الذي تدعو إليه، حيث يستطيع أن يطبّق الإسلام بجملته على الأفراد، بما يقدّمه من أجواء نظيفة يستطيع الإنسان ـ معها ـ أن يتنفس روحانية الإسلام، فيحمي خطاه من الانحراف والزلل.
إننا نعتقد أنَّ من واجب العاملين للإسلام، أن يستثمروا أيّ مجالٍ للنشاط الإسلامي، فيندفعوا فيه، وأن لا يجمّدوا العمل في نقطة معينة، ليظلّ العمل حراً في حركته، ينتقل من جو إلى جو، ومن مجال إلى مجال، ليعطي كل دور القوة للدور الآخر، وتتجمّع كل الأدوار، لتسند أو تدعم الدور الكبير، الذي ينطلق ليستوعب الحياة كلها في الفكر والعقيدة والتشريع، وليحكم الحياة على أساس كلمة الله وشريعته...
* خطوات على طريق الإسلام.