من بين المواجهات الّتي واجه بها المشركون رسول الله(ص) في دعوته للرّسالة، وفي تقديمه القرآن لهم بأنّه كتاب الله، أنّه ـ وحسب زعمهم ـ قد افترى هذا الكتاب ونسبه إلى الله تعالى، أي أنّه هو الذي صنعه وتعلّمه من شخصٍ آخر، ليحصل على موقع النبوّة الّذي يجعله شخصيّة مميّزة في المجتمع، فينال بذلك القداسة الّتي لا يقترب منها أحد.
{وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ}[يونس: 37]. دائماً يُبْرِز القرآن الكريم الفكرة المضادّة ليبيِّن زيفها وكذبها، لأنّ الله سبحانه يريد للناس أن يؤمنوا من موقع القناعة، لا من موقع العاطفة والضّغط والتهاويل، لذلك كان القرآن يطرح القضايا والأفكار على بساط البحث ليناقشها.
وهذه الآية الكريمة تمثِّل أحد الأساليب القرآنيّة في هذا المجال {وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ}. إنّ مثل هذا القرآن فيما يشتمل عليه من حقائق الكون والحياة، ومن دقائق الأسرار وتفاصيل الأحكام وسعة المفاهيم وإعجاز الأسلوب، لم يكن لرسول الله(ص) بحسب تاريخه الثقافيّ ما قبل البعثة، وبحسب إمكاناته العلميّة، هذه القدرة على أن يأتي بهذا المشروع الإلهيّ، وما تضمّنه هذا الكتاب الكريم من تعدّد في المواقع والاتجاهات والثّقافات والمعلومات والأفكار.
إنّ دراسة شخصيّة الرّسول(ص) الّذي لم يكن يتلو كتاباً قبله، ولم يتعلّم عند أحد القراءة والكتابة، تُظهر لنا أنّه لم يفترِ كتاباً بهذا الحجم، كما أنّه لا يمكن أن يكون أحد من معاصريه(ص)، من الّذين عايشهم وعايشوه، مستطيعاً ومتمكّناً من الافتراء على الله بهذا، وإنّنا عندما ندرس هذا القرآن، سنجد صدقه فيما يتوافق فيه مع الكتب السماويّة الأخرى الّتي بين يديه، وهي التّوراة والإنجيل، ما يدلّ على صدقه، كونه يتحرّك مع هذه الكتب في خطّ واحد ومفاهيم واحدة، التزمها النّاس في فترة زمنيّة سبقت زمن رسول الله(ص)، ما يجعل من صدقها دليلاً على صدقه، وتأكيداً لرساليّته.
ولذا قال سبحانه: {وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ}، أن يُكذّب ويقدّم كأنّه شيء منسوب إلى الله سبحانه {وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}، فلو درستموه، لرأيتم علامات صدقه من خلال تصديقه لما بين يديه من الكتب الّتي ثبت انتسابها إلى الله ونزولها منه {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ}، وقد فصَّل كلّ ما جاء في الكتاب الّذي أنزله الله بطريقة متدرّجة، {لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ}، فلو دُرِس القرآن دراسة عميقة في جميع أبعاده التشريعيّة والروحيّة واللّغويّة والأدبيّة، فإنّ الإنسان الباحث لن يجد مجالاً للشكّ فيه، لأنّه صادرٌ عن ربّ العالمين، وليس صادراً عن النبيّ محمد(ص) بصفته البشريّة، أو صادراً عن غيره بهذه الصّفة.
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}. وهنا يطرح القرآن المسألة من زاويةٍ أخرى، فلا يريد المناقشة على أساس الجانب الفكريّ، كما ناقشها في الآية السّابقة، وإنما أراد مناقشتها من خلال الصّدمة الّتي يريد أن يصدم بها الأشخاص الّذين يتحدّثون بهذا الأسلوب {قُلْ} إذا كان النبيّ(ص) قد افتراه من خلال صفته البشريّة، أو أنّ أحداً علّمه صنعه، فهذا معناه أنّ القرآن هو في مستوى قدرة البشر، فإذا كان كذلك، فإنّنا نطلق التحدّي أمامكم: {فأتُوا بسورةٍ مِثْلِهِ} نطلب منكم أن تأتوا بسورة واحدة من مثله، فإذا كان هذا القرآن ـ كما تزعمون ـ بشريّاً في طبيعته، فمعنى ذلك أنّ البشر قادرون على صنع ما يماثله، وأنتم من البشر، ونحن لا نتحدّى واحداً منكم، لكنّنا نتحدّى كلّ المجتمع الذي تمثّلونه أو تتمثّلون فيه. إذاً {وادعُوا مَن استطعْتُم منْ دونِ الله}، وإذا كنتم عاجزين، فاستعينوا بكلّ شركائكم ليقدِّموا سورة واحدة مثله.
ولقد ثبت تاريخيّاً، أنّ هذا التحدّي الذي أعلنه القرآن الكريم، لم يُجابه بأيّ ردّ فعلٍ بمستوى ذلك التحدّي، ولم يقم أحدٌ منذ بعث الله رسوله(ص) بالقرآن وحتى يومنا هذا، بكتابة سورة أو عشر سور من مثله على نحوٍ تتّفق في عناصرها الفكريّة والروحيّة والبلاغيّة مع مستوى السور القرآنيّة، ما يدلّ على أنّ هذا القرآن هو من الله تعالى، وأنّه لو كان من محمّد(ص) بصفته البشريّة، لكان من الممكن أن يأتي إنسانٌ بما طرحه القرآن من تحدّ، {إنْ كنتُم صادقين}[يونس: 38] في دعواكم هذه {بل كذَّبوا بِما لمْ يُحيطوا بعلْمِهِ}، مشكلة هؤلاء النّاس أنهم لم ينطلقوا في تكذبيهم وفي دعواهم من دراسة القرآن في آياته ودقائقه وأحكامه، وفيما أخبر به عن أحداث المستقبل الّتي ستظهر بعد وقت في طبيعتها الإعجازيّة، ولهذا فإنهم لو أحاطوا بعلم القرآن، لدخلوا مع رسول الله(ص) في مناقشة فكريّة قد تدفعهم إلى الإيمان به {ولمّا يأتِهِم تأويلُهُ}، لم يعرفوا حقائقه، أو لم يعرفوا المعاني المستقبليّة الّتي يتحدّث عنها القرآن فيما يمكن أن يكشفه الزّمن من حقائق.
على خطى آبائهم
{كذلِكَ كذَّبَ الّذينَ منْ قبلِهِم} هذه الطّريقة في التّكذيب، والّتي هي على غير أساس ومن دون برهان، ليست طريقة جديدة حادثةً جاء بها هؤلاء الّذين عاصروا النبيّ(ص)، بل إنّها طريقة تاريخيّة قديمة، مارسها كثيرٌ من الشعوب المتخلّفة الّتي واجهت أنبياءَها بالتّكذيب، لمجرّد أنّ ما طرحه الأنبياء لم ينسجم مع تقاليدهم وعاداتهم ومألوفاتهم، بل إنّهم تمسّكوا بها بعيداً عن دعوات الحقّ، ليتمرّدوا ويرفضوا من دون دليل.
إنّه مظهر التخلّف الفكريّ والرّوحيّ لهؤلاء {فانْظُرْ كيفَ كانَ عاقِبَةُ الظّالمين}[يونس: 39] الّذين ظلموا أنفسهم بالكفر والتّكذيب للأنبياء(ع)، والتمرّد على خطّ الله، والجحود بآياته، فانظر يا محمّد كيف كانت عاقبتهم، بأن دمّرهم الله بظلمهم، وسيجري على هؤلاء ما جرى على أولئك.
وفي قبال هؤلاء الظالمين والمشركين {وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ}، هؤلاء الّذين يؤمنون بالقرآن، يملكون في داخلهم هدوءاً فكريّاً يستطيعون من خلاله أن يناقشوا القضايا ويفهموها {وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ}[يونس: 40] الّذين يفسدون الحياة من خلال التصوّر المنحرف والعقيدة المنحرفة.
والفساد على قسمين؛ فهناك فسادٌ عمليّ من خلال ما يقوم به الإنسان في حياته من الانحرافات في الخطّ الأخلاقيّ والسياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ، وهناك فسادٌ وإفسادٌ ينطلقان من خلال الأفكار المنحرفة والعقائد الضالّة، فالتصوّر المنحرف يُفسد تماماً، كما هو السّلوك المنحرف...
* من كتاب: حركة النبوّة في مواجهة الانحراف.