{قُل هذه سبيلي أدْعُو إلى الله على بصيرَةٍ أنا ومَنِ اتّبعَني وسبْحانَ الله وما أنا منَ المشركين}[يوسف: 108].
في هذه الآية، يريد الله سبحانه لرسوله(ص) أن يحدِّث النَّاس بالمنهج الّذي يسير عليه، ويعرّفهم بأنَّ كلّ الأجواء المعقّدة الّتي أثاروها أمامه، والأساليب القاسية الّتي واجهوه بها، وكلّ ما قاموا به ضدّه، لا يُضعف من عزيمته شيئاً، ولا يجعله يشكّ في أمره أبداً.
فإنّ من يسير في نهجٍ وخطّ معيّن، ويرى أنّ النّاس لا تلتفت إلى ما يطرحه ولا تلتفّ حوله، قد يعيد النّظر فيما يدعو إليه، وقد يرى أنَّه على خطأ إذا ما وقف النّاس ضدَّه.. ولكنّ النبيّ(ص) يؤكّد للنَّاس ـ وهذا ما يعلّمه الله له، وما يريده لكلّ داعية إلى الله ـ أنّه الواثق بربّه وبرسالته، والّذي لا يزيده وقوف الأعداء في مواجهته إلا صلابةً وقوّةً ومناعةً بأنّه على الحقّ، لأنّه لم يتحرّك في دعوته من حالةٍ طارئة، وإنما انطلق فيها من خلال دراسةٍ وبصيرة، فعرف طبيعة القضيَّة الّتي يؤمن بها ويدعو إليها.
{قُلْ هذِهِ سبيلي}، هذه طريقي الّتي أسير فيها، وأصل من خلالها إلى أهدافي الكبيرة، فأدعو إلى الله مَنْ لا يعرف ربّه، أو أخطأ في طريقة معرفة ربّه، أو مَن لم يتعرّف إلى مواقع رضى الله {أدْعو إلى الله على بصيرةٍ}، أدعو إلى نهجه على أساس البصيرة الّتي تعني الحالة العقليّة العميقة المنفتحة على حقائق الرّسالة والعقيدة والحياة.. وهناك فرق بين مَن يملك البصيرة في دعوته، أي القناعة العقليّة والرّوحيّة، وبين مَن يتحرّك في الدّعوة على أساس الأفكار السّطحيَّة والحالات الطّارئة.
{أنَا ومَنِ اتَّبَعَني}، وهذه الطّريق لا أسلكها وحدي، ولكنّها طريق الّذين يتبعونني في إيمانهم برسالتي، وفي التزامهم في الدّعوة إلى الله سبحانه في خطّ الرّسالة.
إنّنا نفهم من خلال إيحاءات كلمات هذه الآية المباركة، أنّه لا بدَّ لكلِّ الدّعاة إلى الله، في أيِّ موقع من المواقع، من أن يكونوا على بصيرةٍ مما يدعون إليه، وأن يملكوا ثقافة الإسلام في عقيدته وشريعته ومفاهيمه وحركته، في جميع مواقع الحياة، لأنّ الإنسان الّذي يدعو إلى الله دون أن يملك ثقافة المعرفة بالله، وثقافة الدّعوة إلى دينه، سوف يتحرَّك من موقع الجهل، وعند ذلك تكون دعوته إلى الله وسيلةً من وسائل الإيحاء إلى النَّاس بضعف الدَّعوة، فالدّاعية إذا كان ضعيفاً في حجّته وثقافته ووعيِه، فإنَّه يتحرَّك من غير حجّة وبرهان، وبذلك فإنّ الّذين يقفون ضدّ الدّعوة، سوف يستضعفون الإسلام من خلال استضعافهم له.
ولهذا كان أهل البيت(ع) يمنعون بعض أصحابهم وتلامذتهم ممن لا يملكون الحجَّة القويَّة، من أن يدخلوا في جدالٍ مع الآخرين الّذين يقفون في الخطّ المضادّ لخطّ أهل البيت(ع)، لأنّهم يُضعفون الاتجاه الّذي يدافعون عنه لضعف دفاعهم، وهذا يشابه تماماً المحامي الضّعيف الّذي لا يملك الثّقافة ولا أسلوب الدّفاع عن قضيّة من القضايا، فإنّه يكون سبباً في إسقاط هذه القضيّة، كونه ضعيفاً في حجّته وفي المعرفة القانونيّة.
ولذلك، نقول لكلّ الّذين يسيرون في طريق الدّعوة إلى الله، وخصوصاً الّذين يطلبون العلم الديني، ويلبسون العمامة كرمزٍ لموقعهم الدّينيّ، إنّ من الضّروريّ أن يعيشوا الثقافة الإسلاميّة الواسعة المنفتحة على الحقائق، حتّى يعرفوا كيف يبلّغون ويدعون إلى الإسلام، لأنّ طريق طلب العلم الديني ليس مهنةً للكسب والعيش، وليس شكلاً يتزيّن به الإنسان، ولا موقعاً من المواقع يحاول عبره البعض الوصول إلى المراكز المتقدّمة في المجتمع، فقيمة العالم، أو مَنْ يسمّيه النّاس عالِماً، بقدر ما يُحسن، لأنّ "قيمة كلّ امرئ ما يُحسنه".
{قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ}، أدعو إلى الله وأنا واعٍ لما أدعو إليه، وأعرف كلّ خصائص الأسلوب في الدعوة ومفرداته، بحيث إنّي أعيش البصيرة الّتي تمثِّل البصر العقليّ والنفسيّ والرّوحيّ، {أنا ومنِ اتّبعني وسبحانَ الله}، فأنا أعيش حياتي على أساس أن يكون كلّ توجّهي في الحياة تسبيحاً لله، وتسبيح الله هو الإحساس بعظمته، كي ينطلق الدّاعية إلى الله، ليعرف أنّ الله هو الّذي يملأ عقله وقلبه، وأنّه ليس هناك غيره سبحانه من يسيطر على العقل والقلب {وما أنا مِنَ المشركين}، فلا أعبد إلا الله، ولا أطيع أو أشرك غيره في أموري وكلّ حياتي.
{وما أرْسلْنا مِنْ قبْلِكَ إلا رجالاً نُوحي إليهم مِنْ أهلِ القرى}، ربما يفكّر بعض النّاس ـ يا محمد ـ كما فكّر الّذين من قبلهم، أنّ الله عندما يريد أن يرسل رسولاً من عباده، ينبغي أن يرسل ملَكاً من ملائكته، أو روحاً من عنده، أمّا أن يرسل رجالاً، فهذا ما لا يتناسب مع مستوى الرّسالة وعظمة الله.. فالله تعالى يؤكّد لرسوله(ص)، أنّك لستَ أوّل رجلٍ أُرسل إلى الناس، فلقد سبقك رجالٌ أنبياء من أهل القرى، يعرفهم النّاس ويعيشون معهم. ومسألة العظمة ليست في الشّكل والخروج عن المألوف، وإنّما هي بعظمة عقله وروحه ووعيه للرِّسالة، وإمكاناته الفكريَّة والرّوحيَّة الّتي يستطيع من خلالها أن يؤدِّي رسالة الله كاملةً غير منقوصة.
وعندما أرسل الله الأنبياء، اصطفاهم من بين النّاس، لأنَّه سبحانه رأى فيهم القابليّة والقدرة على حمل الرّسالة وأدائها، من حيث إنَّهم يجسّدون قيَم الرّسالة، فهم رجال كبقيّة الرجال، ولكنّ الفرق بينهم وبين الرّجال، أنّهم يملكون قابليّة وحي الله، وأنّه يُوحى إليهم.
وهؤلاء الّذين استنكروا أن يرسل الله رجالاً أنبياء {أفَلَمْ يسيروا في الأرضِ}، لماذا لم يؤمنوا ولم يتدبّروا ويستقيموا في الخطّ؟ {فينْظُروا كيفَ كانَ عاقِبَةُ الذين مِنْ قبْلهِم} ماتوا وعُذِّبوا ودُمرّت حياتهم وانتهوا، وسيكون مصير هؤلاء كمصير أولئك، فلن تخلد لهم الحياة، ولن يبقى لهم ما يتقاتلون من أجله. لذلك، عليهم ألا يعيشوا هذه المسألة من ناحية فكريّة فقط، بل أن يدركوا طبيعة التّجربة من سيرهم في الأرض، لينظروا حال الأمم السّابقة كيف عاشوا وعمّروا وأشادوا، وكيف ماتوا وذهب كلّ شيءٍ بفنائهم.
وهذا أسلوب قرآنيّ يريد الله فيه من الإنسان أن يتَّعظ بمن سبقه، فنحن عندما نذهب مثلاً إلى مصر لنرى الآثار الفرعونيّة، أو إلى لبنان لنشاهد الآثار الفينيقيّة، أو إلى بلاد أخرى في الأندلس أو روما، فهناك نظرتان إلى هذه الآثار؛ نظرة دراسة العظمة الفنيّة والإبداعيّة والقوّة الّتي امتلكها هؤلاء الّذين أشادوا هذه الحضارات، وهذه نظرة جيّدة في أن يتعرّف كلّ جيل إلى ما صنعه الجيل السّابق.
وهناك نظرة أخرى، وهي نظرة الاعتبار، وذلك عندما يرى الإنسان هذه الآثار العظيمة والقلاع الحصينة، وهذا الإبداع الفنّيّ، ليتساءل، وليكتشف أنّ هؤلاء المبدعين وأولئك العظماء الّذين أقاموا هذا البنيان، ذهبت بهم الأرض وتحوّلوا إلى تراب، ولم يبقَ منهم إلا هذه الآثار.
لذا، على الإنسان ألا يستغرق في خصوصيّات هذه الحياة، بل عليه أن يعتبر أنّ له دوراً فيها، يمارس دوره من خلال مسؤوليّته، ليعطي علْماً، وليبني مشروعاً، وليتحرّك في ما ينفع النّاس، وليتقرّب بذلك كلّه إلى الله، لأنّ هذا ما يبقى للإنسان {ولدَارُ الآخِرةِ خيْرٌ للذين اتّقوا}، إنّ دار الدّنيا لا تمثّل هدفاً للإنسان، لأنّها تزول وتفنى، وما ينبغي أن يفكّر فيه، هو الدّار الآخرة، باعتبار أنّها دار البقاء والخلود والنّعيم، وهذه الدّار للّذين اتَّقوا ربَّهم وأطاعوه، وفكَّروا في الدّنيا من خلال مسؤوليَّتهم عمّا يُغني مصيرهم في الآخرة، وفكّروا في الآخرة من خلال ما يُقبلون عليه من رضوان الله ونعيمه، لذلك كانت الدّار الآخرة خيراً لهم.
{أفَلا تعْقِلون} دعوةٌ للإنسان أن يعقل ويستخدم عقله ويحرّكه فيما ينفعه، وألا يخضع لهواه وعاطفته، لأنّ العاطفة لا تستطيع أن تعرِّفه عمق الحقيقة، ولأنّ هوى النّفس لا يمكن أن يخطّط له الطّريق المستقيم. وحده العقل الّذي أعطاه الله للإنسان، إذا حرّكه في طريق الفكر، أمكنه أن يفتح له آفاق الحقّ وأن يعرّفه مناهجه، عندها لا يحكم الإنسان على الأمور من خلال هواه، ولا يقوِّم الأشياء من خلال عاطفته.
{حتّى إذا اسْتَيْأسَ الرُّسُلُ وظنُّوا أنّهُم قدْ كُذِبوا} انطلق الرّسل، والدّعاة من بعدهم إلى الله، فبلّغوا ونصحوا ووعظوا وأرشدوا وحاوروا وناقشوا وجاهدوا، جرّبوا كلّ الوسائل في الدّعوة، وعندما لم يسمع لهم أحد، ووصلت المسألة إلى حدّ اليأس بعد استنفاد كلّ التّجارب، ولم يبقَ أيّة تجربة، هل قَبِل الله بيأسهم؟ صحيح أنّهم جرّبوا ولم يستجب لهم النّاس وواجهوهم بالتّكذيب، ولكن {جاءَهُم نصْرُنا فنُجِّيَ من نشاء} ممن آمن بالله {ولا يُرَدُّ بأسُنا عنِ القومِ المجْرمين}، أمّا القوم المجرمون الّذين كفروا وكذّبوا وانحرفوا، فإنّ بأسنا ـ وهو الكناية عن العقوبة ـ سينالهم.
{لقدْ كانَ في قصَصهِم عِبرةٌ لأولي الألْباب}، هذا القصص القرآني، قصّة يوسف وغيره من الأنبياء، لم تكن من أجل تسلية النّاس، بل من أجل أن يعتبروا بها، ويأخذوا الدّروس والمواعظ منها، ليستفيدوا من تجارب الماضي في حاضرهم.
وقيمة التّاريخ الماضي، أنّه مدرسة نتعلّم منها حياةَ مَنْ كان قبلنا، فنُبقي لحياتنا ما يمكن أن يستمرّ من حياتهم، وليست مسؤوليّتنا في التّاريخ عن بعض النّاس الّذين عاشوا فيه، ولكنّ مسؤوليّتنا عن الدروس التي نتعلّمها من خلالهم، لأنَّ في التَّاريخ عناصر خالدة هي عناصر الحياة، وعناصر زائلة نتركها، لأنَّها عاشت في دائرتها الزمنيّة المحدّدة، ونستفيد من كلّ ذلك لنصنع تاريخنا من جديد، لتقرأه الأجيال القادمة.
{ما كانَ حديثاً يُفترَى} ما قصصناه عليك، ليس قصّة مفتراة كاذبة، ولكنّها تمثّل الحقيقة {ولكِنْ تصدِيقَ الّذي بيْنَ يديْه} تصديق الرّسالات الّتي سبقته، والّتي جاءت في التّوراة والإنجيل {وتفْصيلَ كلّ شيء} من الشّرائع والمفاهيم والقضايا، {وهدى} يهتدي بها النّاس فيما يستوحونه من ذلك {ورحمة} يرحم بها الناس فيما يهيِّئ لهم من وسائل المعرفة والاستقامة {لقومٍ يؤمِنون}، لأنّ المؤمنين هم الّذين يفتحون عقولهم على العِبرة والدّرس، وعلى ما ينفعهم في الدّنيا والآخرة...
*كتاب: حركة النبوّة في مواجهة الانحراف