في المجتمعات المسلمة الكثير من السلبيّات المتمثّلة بالانحرافات العمليّة الّتي يقوم بها أفراد مسلمون أو جماعات مسلمة، فيتركون بعض الواجبات، ويفعلون بعض المحرّمات، ويبتعدون بمفاهيمهم ونظراتهم إلى الحياة عن مفاهيم الإسلام ونظراته، ما يجعل الدّارسين لهذه الانحرافات الّتي تكاد تمثّل دور "الظّاهرة" في حياتنا العامّة، يردّدون الكلمة الّتي قالها بعض المفكّرين الغربيّين: "الإسلام شيء والمسلمون شيء آخر"، انطلاقاً من الفجوة الكبيرة بين الدّين وأتباعه.
وقد أخذ الوعّاظ والخطباء هذه الظّاهرة، فحاولوا أن يؤكّدوها في خطبهم ومواعظهم، ليطلقوا صيحة الإنكار على الواقع الّذي يواجهونه، ويبرّروا أساليب التّوبيخ والتّقريع الّتي يوجّهونها إلى أبناء الشّعب، ويندّدوا بما يحدث، في عمليّة إثارة انفعاليّة تتصاعد فيها درجة الحماس إلى المستوى الّذي يجرّد المسلم من إسلامه، فيحكم عليه بالكفر والمروق والضَّلال... ثم يزيد الأمر اتّساعاً، فيوجّهون اللّوم إلى العصر، ويرجعون إلى العصور الماضية، ليذكّروا النّاس بما كان عليه أهلها من طاعةٍ لله وامتثالٍ لأوامره ونواهيه، ويستمرّون في ذلك كلّه، حتّى يفقدوا الإنسان المسلم ثقته بنفسه، ويدفعوه إلى اليأس بكلّ ما يعمله أو يقوم به من طاعة، لينتهي إلى النّتيجة اليائسة، وهي أنّه لم يعد صالحاً لشيء، لأيّ شيء، مهما كان نوعه.
ونحن ـ هنا ـ نرفض الاتجاه بالوعظ بهذا الأسلوب، لأنّنا نشعر بوجود كثير من الإيجابيّات إلى جانب السلبيّات، فإذا كان بعض المسلمين ينحرفون عن بعض الواجبات ويفعلون بعض المحرّمات، فإنهم قد يقومون ببعض آخر من الواجبات، ويتركون بعضاً آخر من المحرّمات، وقد تزيد حالة الانضباط عن حالة الانحراف، وقد تنقص عنها، وقد يتساوى الأمران.
ثم إذا كان الانحراف مظهراً عامّاً للأكثريّة، فإنّ هناك انضباطاً للأقليّة في أكثر الشؤون الإسلاميّة، سواء في ذلك العبادات أو المعاملات أو العلاقات العامّة، مما يتّصل بجانب المال والنّفس والعرض، حتى تواجهك الصّور الرائعة التي تجسّد لك الإيمان الصّافي الثّابت الذي يتّصل بالجذور العميقة الضّاربة في الأرض، فلا ينهار أمام أيّ إغراء، ولا يسقط أمام أيّ تحدّ، بل يقف ليواجه الإغراء بالخوف من الله، ويجابه التحدّي بقوّة الله، لأنّه حصَّل إيمانه من خلال القناعة والمعاناة، ولم يحصل عليه من خلال التّقليد والمحاكاة، ما يجعله إحساساً متَّصلاً بذاته، نابعاً من روحه.
وقد تلتفت لتجد مثل هذه الصّورة ظاهرةً في قلب المناطق الموبوءة الّتي تتحدّى كلّ إيمان، وتصرع كلّ مقاومة، ليكون ذلك شاهداً على أنّ الإنسان يمكن أن ينطلق إلى الحياة بإيجابيّات إنسانيّته المستقيمة على خطّ الإيمان، من البيئة الّتي تزرع الأرض كلّها بسلبيّات الانحراف من كلّ نوع.
وقد تفتح كتب التاريخ والسير، لتكتشف أنّ النماذج المعاصرة قد تتفوّق على بعض نماذج التاريخ، لأنها لم تواجه تحدّيات الانحراف وإغراءاته، كما يواجهها الإنسان المعاصر في عصر الشّهوات والغرائز. أمّا المقارنة بين العصور الماضية وبين هذا العصر، التي يخرج منها الواعظون والخطباء بالنّتيجة التي تجعل من ذلك العصر عصراً ذهبيّاً، بينما تجعل من هذا العصر عصراً أسود في المجال الديني، فلا نجدها إيجابيّة في جميع الأحوال، لأنّنا قد نستسلم للمقارنة في الجوانب العباديّة ونحوها، ولكنّنا لا نستطيع إقرارها ـ تماماً ـ في الجوانب الإنسانيّة بكلّ ما تحمله من علاقات، سواء في ذلك علاقة الحاكم بالمحكوم، أو علاقات النّاس بعضهم ببعض.
فقد يهمّنا أن نشير إلى غنى العصر الحاضر بالجانب الإنسانيّ الّذي يكافح فيه الإنسان حتى الموت من أجل أن يوفّر لقمة العيش الكريمة للمجتمع بشكل عام، وإذا كان هذا الجانب قد ينحرف في تصوّراته أو في بعض خطوطه، فلا يمنعنا ذلك من أن نظلّ على نظريتنا الطبيعيّة المقارنة، لأنّ الجانب الدّاخليّ الّذي يرتبط بطبيعة المبدأ، يظلّ سليماً من ناحية عامّة.
إنّ وجود هذه الإيجابيّات التي تستطيع أن تضيء كثيراً من الجوانب المظلمة في حياة إنساننا المعاصر ككلّ، يستطيع أن يخفّف كثيراً من ضراوة وجود السلبيّات، فيحقّق لنا التوازن في النظرة والتوازن في الحكم، لننتهي من خلال ذلك كلّه إلى تحقيق التوازن في الموقف، ومن ثم إلى تحقيق التّوازن في ممارسة الوعظ والتّوجيه في حياة الناس.
ومن هنا نبدأ محاكمة هذا الأسلوب [الذي يعتمده هؤلاء الوعّاظ والخطباء] ضمن نقاط:
1 ـ إنّنا نؤكّد خطورته، لأنّه يعطي انطباعاً سلبيّاً عن واقعيّة الإسلام، بعدم قابليّته للتّطبيق على أساس التّجربة المعاصرة المطروحة الّتي لا تحتفظ بأيّ إيجابيّات عمليّة إزاء هذا الحشد الكبير من السلبيّات، وتتمّ الصّورة لدى السّامع أو القارئ إذا عاد إلى دراسة التاريخ من خلال سلبيّاته، ولا سيّما في أسلوب بعض المذاهب الدينيّة التي تحكم على أكثر النّاس في العصور المتقدّمة، بالضّلال إن لم يكن بالكفر، إذ كيف يمكننا أن نثق أو نؤمن بواقعيّة أيّ حلّ، لا يستطيع أن يعطي المشكلة نافذةً واحدةً مفتوحةً على الحلّ في إطار الواقع.
2 ـ إنَّه يفقد ثقة الإنسان بقدرته على تصحيح نفسه في اتجاه الاستقامة، فإذا كانت الصّورة قاتمةً في أغلب جوانبها، فكيف يستطيع الإنسان أن يقنع نفسه بأنّه قادر على أن يجسّد الصّورة المضيئة في أعماله وأقواله؟!
3 ـ إنّه يزيّف الواقع في نظر النّاس ـ عندما ينقل إليك جانباً واحداً من الصّورة، ويلقي الظّلال الثّقيلة على الجانب الآخر منها، فتبدو الصّورة قاتمةً لا لون فيها ولا ضياء ولا حياة، ما يربك للإنسان خطواته، ويعطّل له سلامة نظرته إلى الواقع، ويؤدّي به إلى الخطأ في الحكم، والانزلاق بالمستقبل في منحدرات الحاضر المجهول الّذي لا يعرف إلى أين مصيره.
4 ـ إنّه يختلف عن الأسلوب القرآنيّ الّذي أطلق الصّورة كما هي في الواقع، فإذا انتقل بنا إلى الجانب المظلم، حملنا حملاً إلى الجانب المضيء، وإذا كان الجوّ غائماً، فإنّ بوادر الصّحو تشقّ السّحاب والضّباب لولادة الضّحى من جديد، ليظلّ الإنسان مع الجانب المشرق من الصّورة، فينفعل بها في عمليّة خير وإيمان.
والآن، لنتأمَّل في الأسلوب القرآنيّ، من خلال بضع آيات تبدو فيها عمليّة المقارنة بين مظاهر الخير وبين مظاهر الشّرّ في المجتمع:
1 ـ {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ* وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ* أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ* وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[البقرة:200-203].
2 ـ {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت:41].
3 ـ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ* وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ* يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ* فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}[البقرة:3-10].
4 ـ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ* وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ* وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ* وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[البقرة:204-208].
5 ـ {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ* الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ* وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ* إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ}[لقمان:3-8].
وهكذا نجد القرآن الكريم يعرض المواقف المتنوّعة الّتي يبدو فيها الخير إلى جانب الشّرّ، ومحبّة الله إلى جانب محبّة غير الله، والإيمان إلى جانب الكفر والنّفاق، ليظلّ الإنسان مشدوداً إلى واقع الحياة المستند إلى مبادئ الحقّ، فيتحرّك نحو الحقّ بروح واثقة بالمستقبل من خلال الحاضر، فلا ينهزم نفسيّاً أمام مظاهر الباطل وقوَّته، لأنّ الباطل ليس وحده المسيطر على الحياة، بل الحقّ موجود مثله في إطار يتّسع للحياة، ويسمح لها بالامتداد معه.
وبهذا الأسلوب القرآنيّ الحكيم، يمكن للخطوات العمليّة أن تتقدّم في اتجاه البقاء في ميدان الصّراع، فلا تنسحب منه أمام تهاويل الأطراف الآخرين.
وربما كان من الضّروريّ للدّعاة والموجّهين والوعّاظ، أن ينطلقوا في عمليّة واسعة دقيقة لدراسة الواقع، ليتعرّفوا إلى ما يحمل من إيجابيّات في خطّ الوجود للإسلام الفرديّ والجماعيّ، وإلى ما يحمل من سلبيّات في ذلك الخطّ، ليحقّقوا من خلال ذلك هدفين:
1 ـ الحصول على المعلومات اللازمة لهم في عملهم التبليغيّ والتوجيهيّ، عندما يريدون أن يدخلوا في أساليب المقارنة بين الإيجابيّات والسلبيّات، كوجه من وجوه أساليب الدّعوة والعمل.
2 ـ أن يطّلعوا على مدى القوّة الّتي يملكها الإسلام في جانب التطبيق العمليّ في حياة الناس، ويعرفوا ـ على الطبيعة ـ المجالات الّتي يمكننا توقيتها، لوجودها في مواقع إمكانات القوّة، والمجالات الّتي لا يمكننا فيها ذلك، من خلال الظّروف الموضوعيّة الحاليّة، فلا تتحرّك نحوها بشيء ـ ولو مؤقّتاً ـ لأنّ ذلك يعتبر جهداً ضائعاً لا مجال له...
* كتاب: خطوات على طريق الإسلام.