هناك فرق بين أن تعرف الشَّيء، وأن تحسّ به؛ ففي جانب المعرفة، لا بد لك من أن تجمع المعلومات المتوافرة في الساحة عن الموضوع، والأشخاص، والظروف الموضوعية المحيطة بالقضية، لتحصل من خلال ذلك على قناعاتك الفكريَّة. أما في جانب الإحساس، فإنَّ الموقف قد يختلف بعض الشيء، لأن الإحساس يمثّل انفعالك بالواقع المستقبلي، في عملية رصد نفسي مرهف لخطواته وتطلعاته، فقد تمتلئ نفسك بالمشاعر إزاء الشيء، قبل أن تتوافر لك إمكانات الإحاطة به، وقد تحسّ بالحادثة قبل حدوثها، من خلال كلمة تسمعها، أو حركة تصطدم بها، لأنَّ مشاعرك الذكية استطاعت أن تكشف الأسرار التي تكمن وراء الكلمة، أو أن تتعرف إلى الخطط التي تتجمّع قبيل الحركة، في إحساس خفي بالواقع.
هل يكتفي الدعاة إلى الله بالمعرفة الاجتماعيَّة؟
وقد لا يكفي الدّاعي إلى الله أو العامل في سبيله، أن يحصّل المعرفة الاجتماعية التي تتوافر له، فيحصل على الإحاطة بأحوال المجتمع، وأوضاعه، وأفكاره العام في الجوانب السياسية والاقتصادية، وعلاقاته التي تحكم أفراده فيما بين بعضهم البعض في الداخل، أو فيما بينهم وبين المجتمعات الأخرى في الخارج، وغير ذلك من جوانب المعرفة الاجتماعية، بل لا بدَّ له من الحس الاجتماعي، الذي تتوافر فيه المشاعر الذكية المرهفة التي تلتصق بالمجتمع، لتحسّ بكلّ ما في داخله من نوازع ودوافع ومؤثرات، وبكل ما يختفي وراءه من خلفيات، وما يحكمه من روابط وعلاقات، أو يحركه من أوضاع خارجية متنوعة.
وبذلك، يمكن أن يحس بالكلمة قبل أن تُقال، وبالحركة قبل أن تنطلق، وبالأحداث قبل أن تفرض نفسها على الواقع، ويعرف دلالات الأحداث ووجوهها، فلا يتجمّد في حكمه على الواقع، فيما يطفو على سطحه من علامات، بل ينفذ إلى أعماقه، فيمسك بجذوره، ليأخذ منها الدليل الذي يختفي وراء الأحداث ليحركها من خلال الضباب.
ثم يركّز عمله ودعوته على أساس ما يحصل عليه من دلالات، وما ينتهي إليه من استنتاجات، ليتحرك في وضوح من الرؤية، وإحاطة بالقوى التي تحكم الساحة وتؤثر فيها، فيتعاون معها، أو يتباعد عنها في خطوات ثابتة قوية، تعرف من أين تبدأ، وكيف تتحرك، وإلى أين تنتهي... وفي ضوء ذلك كله، يتحول العاملون في سبيل الله إلى قوة تتفاعل مع الواقع لتفعل به، من موقع السيطرة على مقوماته، بالانفتاح الواعي على كل ما له صلة به، تماماً ككل القوى الأخرى، التي تتحرك في الواقع من خلال الدراسة العميقة والفهم الشامل والرؤية الواضحة، فتنطلق لتضع ذلك كله في حسابها، قبل أن تبدأ بالحركة.
ضرورة مواجهة الواقع بإحساس منفتح:
وهكذا، تغيب عن الساحة الدينية دعوات اليأس والانهزامية، وعقليات السذاجة والبساطة، ونظرات الحزن والاشفاق والسخرية والاستهزاء، التي ينظر بها الآخرون إلى القوى الموجودة في ميدان العمل الديني... لأن هذه الأمور كلّها لم تنطلق من طبيعة العمل الديني، بل انطلقت من فقدان الحسّ الاجتماعي لدى العاملين، ما يجعلهم لا يواجهون الواقع بمشاعر ذكية، وإحساس منفتح، وفهم لما يحيط به من أجواء وظروف، ولما يؤثر فيه من أحداث، فتتحول المعرفة لديهم إلى تجارب محدودة مبتورة، ومعلومات ناقصة، واستنتاجات هزيلة ساذجة، تبعدهم عن الواقع أكثر مما تقربهم إليه، وتجعلهم عرضة للأحكام السَّطحية التي تشبه الارتجال، فيتأرجحون بين عوامل الانفعال التي قد تدفعهم إلى صراخ اليأس تارة، وقد تقودهم إلى اندفاعات الحماس الأهوج تارة أخرى! ولا يقفون أي موقف من مواقف التعقل والاتزان الواقعي، لأنهم يفقدون مقوماته الفكرية والشعورية... فإذا تمّ لنا التخلّص من هذا الموقف القلق الّذي ألمحنا إليه، فإننا سنبتعد عن السَّطحية إلى العمق، وعن الارتجال إلى الدراسة والتأمل والموازنة، وبالتالي، فإننا سنتعامل مع الواقع من خلال ظروفه الموضوعية، ومع الآخرين من خلال القواعد الأساسية الثابتة التي تحكم سلوكهم وتصرفاتهم، وسنرتفع بخطوات التحرك إلى المستوى الذي يبعث عن الاحترام، ويوحي بالخطورة، فلا تستلبنا نظرات الاشفاق والتأثر التي يستقبل بها الأقوياء الحائرين، الَّذين يراوحون أقدامهم في حركة التردّد بين الإقدام والأحجام.
سلبيات الاندفاع وراء الانفعالات السطحية:
إننا نعتقد أنَّ الإنسان الذي يريد أن يتعامل مع الواقع، لا بدَّ له من أن يفهم الواقع، من خلال المعرفة به، والإحساس بظروفه، لينطلق من الواقع في تفكيره وفي حركاته وفي أهدافه، لأنَّ الجهل به أو فقدان الإحساس بأوضاعه، يبعده عنه أولاً، ويسلمه إلى القوى الأخرى التي تستغل ضيق أفقه، وقلة معلوماته، ومشاعره، وضعف إحساسه، ليوجهوه في غير الوجهة التي يتّجه إليها في عقيدته ودينه، وليحاربوا أهدافه في عملية تضليل وتشويه، وليحطّموا به الوحدة التي تحكم المؤمنين، من خلال إثارة القضايا الجانبية، التي لو انفتح على دوافعها من خلال انفتاحه على ما وراء الأحداث والقضايا، لما تحرك خطوة واحدة في الطريق الذي يريدون له أن يسير فيه، ولما أطلق كلمة واحدة في هذا المجال، مما يراد له أن يقوله أو يثير المشاعر حوله.
وهذا هو الَّذي يعرفنا طبيعة الخطورة التي تواجهها الأمة، وتتعرض لها العقيدة، عندما يتسلّم زمام الحركة الأفراد والجماعات الذين لا يملكون المعرفة الواسعة والحسّ الناقد الذكي، فيندفعون تحت تأثير المشاعر والانفعالات العاطفية، إلى اتخاذ بعض المواقف التي توحي بالغيرة على العقيدة، وبالإخلاص للأمة، ولكن تخفي وراءها المخططات التي يرسمها الأعداء بحذر وهدوء ولباقة، ليدفعوا المؤمنين المتحمسين المندفعين إلى السير وراءهم، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، فينفّذوا لهم ما يريدون، وبذلك، يفجّرون العقيدة من الداخل، ويحطّمون الأمة بتحطيم وحدتها، تحت شعارات الطائفية والإقليمية، وغير ذلك من الشعارات التي تقسم الناس إلى طوائف، والبلاد إلى أقاليم.
وقد استطاع الاستعمار أن يستفيد من الانقسام الطائفي والمذهبي والقومي والعنصري، في تفجير الصراعات العنفية، وإثارة الأحقاد التاريخية، ليوظف ذلك كله لمصلحته وخططه الجهنمية في السيطرة على مقدرات البلد، وتمزيقه شيعاً وأحزاباً ودولاً. وقد وجد تجاوباً مع كثير من الفرقاء الذين يفقدون الحس الاجتماعي الذي يكشف لهم ما وراء الشعارات، أو الخطوات الاستعمارية التي تريد القضاء على جميع الفئات بشكل تدريجي، وذلك بتحطيم قوتها بأيديها، وإشغالها عن خططه ومؤامراته بغفلتها وسذاجتها... فكانوا حطباً لناره، واحترقوا بإخلاصهم إلى انتماءاتهم، الذي لم يرتكز على قاعدة الفكر العميق، والحسّ الناقد الذكي، بل ارتكز على الانفعالات التي تنطلق نحو الهدف، من دون أن تفكر في الطريق التي تسير فيها نحوه، أو الأجواء التي تتحرك فيها إليه، وحسابات الربح والخسارة في طبيعة المعركة وظروفها.
وكانت النتيجة أنهم لم يربحوا وطنهم ولا أنفسهم ولا عقيدتهم، بل خسروا ذلك كله، ليكون الرابح الوحيد هو الاستعمار الذي هو عدو الدين والمذهب والقومية. ولذلك، فإن من الممكن لنا أن نقرر أن الهدف قد يسقط نتيجة جهل المقاتلين، كما يسقط نتيجة قوة الأعداء، لأن المقاتلين يتحولون إلى قوة في يد الأعداء، لتدمير الهدف تحت تأثير خطط الجهل وخطواته... وقديماً قيل: عدوٌ عاقل خير من صديق جاهل، وقيل: لا تصاحب الأحمق، فإنه يضرك من حيث يريد أن ينفعك.
* خطوات على طريق الاسلام