في أواخر السَّبعينات وأوائل الثَّمانينات إلى حدود منتصف التسعينات، تناولت دراسات كثيرة التراث بالقراءة والنَّقد، لأنَّ التراث، بحسبها، مسؤولٌ عن تراجعنا وتقهقرنا المدنيّ والحضاريّ، وعائقٌ أو مثبط لتكيّفنا مع أوضاع العصر واندراجنا في حضارته.
وزعم أصحاب هذه القراءة وفرسان هذا النَّقد، أنَّ المسؤوليَّة الثقافيَّة والحريَّة الفكريَّة، لا يمكن أن تقبل الأنظمة التوتاليتاريّة أو القمعيّة، وإذا قبلت بذلك، فلن توجد أبداً حضارة شاملة أو كونيَّة، ما يقضي بأن تشتغل المجتمعات العربيَّة والإسلاميَّة على ذاتها وتراثها بقسوة وبصرامة، وأن تحدث تغييرات جذريّة وعميقة في طريقة تفكيرها، وفي وعيها الأسطوريّ، وفي سحب القداسة من كثيرٍ من نشاطاتها، وبخاصّة النّشاط السّياسيّ والنشاط الاقتصاديّ، الّذي لا يمكن أن يكون إلا دنيويّاً، ومن هذا العالم وليس من خارجه، والتَّشديد على أنَّ ما يجب التركيز عليه، وإيلاؤه الأهميّة القصوى، والتعلّق به كقارب نجاة يمكِّننا من مغادرة مواقع الجمود والتكلّس والمناخات التي تسبّب الاختناق وتعطّل النّشاط الحرّ للفكر والثّقافة، هو الانغماس في التّفكير الجدّيّ الهادف بطريقةٍ وبأسلوبٍ لا قبل للفكر العربيّ أو الإسلاميّ به، وتجريب أدوات الاجتراح ووسائل التفكيك، لاختبار فعاليّتها، وسبر جدواها في سياقٍ غير السِّياق الّذي استعيرت منه أو جلبت منه المحك الّذي يثبت شرعيّتها ويبرّر استعمالها في حالة ما إذا أفلحت ولم تخفق، مع ملاحظة أنّ التجريب يتكرّر مرات ومرات.
وفي نظرهم، أي هؤلاء المفكِّرين، فإنَّ الأولويّة للفكر، لا للأخلاق ولا للرّوح، لأنَّ الهدف هو التّفكيك للاطّلاع على العناصر التي تسبّب الانغلاقات المزمنة، والانحباسات المفوتة، والمخانق المهلكة، كالأرثوذكسيّة، والسياج الدّوغمائي، واللامفكَّر فيه، والمستحيل التّفكير فيه، وتجاوز النّصوص الثّواني الّتي تجبرنا على اتّباع خطٍّ واحدٍ غايته أن يحصر معاني الدّين في الشعائر التعبّدية، ويحشر الحياة بقدّها وقديدها في دائرتها الضيّقة، في حين أنّ النصّ الأوّل في مرحلته الشفهيّة، وفي طراوته وطزاجته الأولى، يشتمل على عدّة خطوط، ويقبل تأويلات واحتمالات للمعنى لا حصر لها، وإذا ما تمّ هذا العمل الفكريّ الفذّ، وأصبح جاهزاً ومهيّأً للاستمداد منه، أو استشارته، والاسترشاد به في جميع شؤون الحياة، عندئذٍ، وعندئذٍ فقط، صلح الالتجاء إلى الأخلاق والاستناد إلى الرّوح.
إنّ هذا الطرح قد يكون مؤلماً لنا وموجعاً لعواطفنا، لأنّه يمسّ أكثر الأشياء حميميّةً لنا، كالعاطفة الدينيّة، والمنزع القداسي، والمزاج التعبّدي. والحال أنَّ الترابط بين جميع شعوب العالم، والتقارب بين ثقافاتها، الّذي انتقل من الاحتكاك والتَّصادم إلى الامتزاج والتداخل، شكَّل ما يشبه البيئة الواحدة، وأثّثها بأثاثٍ واحدٍ، بحيث إنّك لا تشعر بالدّهشة والاستغراب في أيّ بيئةٍ حللت فيها من بيئات هذه الشّعوب، ولا يتعكّر مزاجك وأنت تتنقل بين هذه المناخات.
هذا لا يعني القبول بهذا الطّرح، والانحياز إلى هذا النّمط من التّفكير، والخضوع التامّ لمقتضياته ونتائجه، وكأنّ ليس هناك خيارات أخرى، وفي الوقت نفسه، لا يمكن إدارة الظّهر له، ودفن الرأس في الرمال كالنعامة، وعدم التّعاطي معه ومحاورته ومناقشته بحيادٍ وبموضوعيّة، وإلزام أنفسنا بإنصافه، وإلا فقدنا العدالة، وأفقدنا النّاس الثّقة بنا وتصديقنا، وأكَّدنا اتهامات خصومنا وتشنيعهم بأنّنا نعيش خارج العصر بل خارج العالم، لا نتقن لغته، ولا ندرك مواضعاته، ولا نحيط بتنظيماته ومؤسَّساته، ولا ننفذ إلى روح علومه وتكنولوجيّته، ولا نواكب آماله وطموحاته الإيجابيّة والاستفادة من السّلب.
ولولا روح العلامة السيِّد محمد حسين فضل الله(رض)، ونمط كتابته المتميّزة المشربة بالحريّة والعقلانيّة، وقبل ذلك وبعده، طهر النّفس وزكاتها، ومحبّة القلب وعشقه لكلّ جليلٍ وجميل، والإرادة المتوثّبة الّتي لا تعرف المستحيل، والصّورة التي رسمها لآل البيت(ع) بإتقانٍ فائق، وأودع فيها كلّ تجربته وخبرته وعلمه الغزير وحكمته، لما استطعنا أن نتحرَّر من عصبيّتنا ومن شفونيّتنا وانكفائنا على الذّات. ونحن نقرأ هذا الفكر بثقةٍ دون أن ننزلق إلى مطباته أو نقع في أفخاخه، فكلّ فكرٍ له مطبّات وأفخاخ، ما عدا الفكر المحصَّن بالوحي المطعّم بالوعي...
* سطيف/ الجزائر
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.

في أواخر السَّبعينات وأوائل الثَّمانينات إلى حدود منتصف التسعينات، تناولت دراسات كثيرة التراث بالقراءة والنَّقد، لأنَّ التراث، بحسبها، مسؤولٌ عن تراجعنا وتقهقرنا المدنيّ والحضاريّ، وعائقٌ أو مثبط لتكيّفنا مع أوضاع العصر واندراجنا في حضارته.
وزعم أصحاب هذه القراءة وفرسان هذا النَّقد، أنَّ المسؤوليَّة الثقافيَّة والحريَّة الفكريَّة، لا يمكن أن تقبل الأنظمة التوتاليتاريّة أو القمعيّة، وإذا قبلت بذلك، فلن توجد أبداً حضارة شاملة أو كونيَّة، ما يقضي بأن تشتغل المجتمعات العربيَّة والإسلاميَّة على ذاتها وتراثها بقسوة وبصرامة، وأن تحدث تغييرات جذريّة وعميقة في طريقة تفكيرها، وفي وعيها الأسطوريّ، وفي سحب القداسة من كثيرٍ من نشاطاتها، وبخاصّة النّشاط السّياسيّ والنشاط الاقتصاديّ، الّذي لا يمكن أن يكون إلا دنيويّاً، ومن هذا العالم وليس من خارجه، والتَّشديد على أنَّ ما يجب التركيز عليه، وإيلاؤه الأهميّة القصوى، والتعلّق به كقارب نجاة يمكِّننا من مغادرة مواقع الجمود والتكلّس والمناخات التي تسبّب الاختناق وتعطّل النّشاط الحرّ للفكر والثّقافة، هو الانغماس في التّفكير الجدّيّ الهادف بطريقةٍ وبأسلوبٍ لا قبل للفكر العربيّ أو الإسلاميّ به، وتجريب أدوات الاجتراح ووسائل التفكيك، لاختبار فعاليّتها، وسبر جدواها في سياقٍ غير السِّياق الّذي استعيرت منه أو جلبت منه المحك الّذي يثبت شرعيّتها ويبرّر استعمالها في حالة ما إذا أفلحت ولم تخفق، مع ملاحظة أنّ التجريب يتكرّر مرات ومرات.
وفي نظرهم، أي هؤلاء المفكِّرين، فإنَّ الأولويّة للفكر، لا للأخلاق ولا للرّوح، لأنَّ الهدف هو التّفكيك للاطّلاع على العناصر التي تسبّب الانغلاقات المزمنة، والانحباسات المفوتة، والمخانق المهلكة، كالأرثوذكسيّة، والسياج الدّوغمائي، واللامفكَّر فيه، والمستحيل التّفكير فيه، وتجاوز النّصوص الثّواني الّتي تجبرنا على اتّباع خطٍّ واحدٍ غايته أن يحصر معاني الدّين في الشعائر التعبّدية، ويحشر الحياة بقدّها وقديدها في دائرتها الضيّقة، في حين أنّ النصّ الأوّل في مرحلته الشفهيّة، وفي طراوته وطزاجته الأولى، يشتمل على عدّة خطوط، ويقبل تأويلات واحتمالات للمعنى لا حصر لها، وإذا ما تمّ هذا العمل الفكريّ الفذّ، وأصبح جاهزاً ومهيّأً للاستمداد منه، أو استشارته، والاسترشاد به في جميع شؤون الحياة، عندئذٍ، وعندئذٍ فقط، صلح الالتجاء إلى الأخلاق والاستناد إلى الرّوح.
إنّ هذا الطرح قد يكون مؤلماً لنا وموجعاً لعواطفنا، لأنّه يمسّ أكثر الأشياء حميميّةً لنا، كالعاطفة الدينيّة، والمنزع القداسي، والمزاج التعبّدي. والحال أنَّ الترابط بين جميع شعوب العالم، والتقارب بين ثقافاتها، الّذي انتقل من الاحتكاك والتَّصادم إلى الامتزاج والتداخل، شكَّل ما يشبه البيئة الواحدة، وأثّثها بأثاثٍ واحدٍ، بحيث إنّك لا تشعر بالدّهشة والاستغراب في أيّ بيئةٍ حللت فيها من بيئات هذه الشّعوب، ولا يتعكّر مزاجك وأنت تتنقل بين هذه المناخات.
هذا لا يعني القبول بهذا الطّرح، والانحياز إلى هذا النّمط من التّفكير، والخضوع التامّ لمقتضياته ونتائجه، وكأنّ ليس هناك خيارات أخرى، وفي الوقت نفسه، لا يمكن إدارة الظّهر له، ودفن الرأس في الرمال كالنعامة، وعدم التّعاطي معه ومحاورته ومناقشته بحيادٍ وبموضوعيّة، وإلزام أنفسنا بإنصافه، وإلا فقدنا العدالة، وأفقدنا النّاس الثّقة بنا وتصديقنا، وأكَّدنا اتهامات خصومنا وتشنيعهم بأنّنا نعيش خارج العصر بل خارج العالم، لا نتقن لغته، ولا ندرك مواضعاته، ولا نحيط بتنظيماته ومؤسَّساته، ولا ننفذ إلى روح علومه وتكنولوجيّته، ولا نواكب آماله وطموحاته الإيجابيّة والاستفادة من السّلب.
ولولا روح العلامة السيِّد محمد حسين فضل الله(رض)، ونمط كتابته المتميّزة المشربة بالحريّة والعقلانيّة، وقبل ذلك وبعده، طهر النّفس وزكاتها، ومحبّة القلب وعشقه لكلّ جليلٍ وجميل، والإرادة المتوثّبة الّتي لا تعرف المستحيل، والصّورة التي رسمها لآل البيت(ع) بإتقانٍ فائق، وأودع فيها كلّ تجربته وخبرته وعلمه الغزير وحكمته، لما استطعنا أن نتحرَّر من عصبيّتنا ومن شفونيّتنا وانكفائنا على الذّات. ونحن نقرأ هذا الفكر بثقةٍ دون أن ننزلق إلى مطباته أو نقع في أفخاخه، فكلّ فكرٍ له مطبّات وأفخاخ، ما عدا الفكر المحصَّن بالوحي المطعّم بالوعي...
* سطيف/ الجزائر
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.