لا تزال قضيّة تزويج القاصرات من القضايا الّتي تأخذ حيّزاً واسعاً من النّقاش والإضاءة في الأوساط الاجتماعيّة والدّينيّة، بالنّظر إلى حساسيّتها وتداعياتها الإنسانيَّة والاجتماعيَّة. وفي هذه الدّراسة، نحاول تسليط الضَّوء قدر الإمكان على هذه الظّاهرة وعلى الأرقام الخطيرة، وما نستشفّ منها من صورة واقعيّة مأساويّة، إضافةً إلى عرض الآراء حولها.
بدايةً، وكي نتعرَّف أكثر إلى حجم المشكلة، نبادر إلى عرض الأرقام والنّسب المئويّة في العديد من المجتمعات العربيّة، لكون هذه الظّاهرة لا تتعلّق بمجتمع دون آخر.
وبلغة الأرقام، تشير الإحصائيّات الّتي قدّمتها "نورية حفصي"، الأمينة العامة للاتحاد الوطني للنساء الجزائريات، إلى أنّ ظاهرة زواج القاصرات عرفت منذ بداية السنة الحالية ارتفاعاً ملحوظاً، حيث سجّلت هذه السنة 500 حالة زواج لفتيات لا يتعدّى سنّهنّ (16) سنة، مؤكِّدةً أنَّ هذه الظَّاهرة أخذت ترتفع سنويّاً، حيث ارتفعت هذه السّنة بنسبة 25% مقارنةً بالسنة الماضية.
وكشفت دراسة أخرى في المغرب، أنَّ زواج القاصرات شهد ارتفاعاً كبيراً بلغ 91% في ظرف تسع سنوات، مسجِّلاً في العام 2013 وحدها 35152 عقداً، وهو رقم لا يعبِّر حقيقةً عن الواقع الفعليّ، بحسب الدّراسة.
أما في مصر، فقد كشفت إحصائيّة حديثة للمجلس القوميّ للأمومة والطّفولة، أنَّ نسبة زواج القاصرات تبلغ 22%، وأنَّ هؤلاء الفتيات تزوَّجن قبل أن يبلغن الـ18 عاماً، رغم تجريم قانون الطّفل لهذه الظّاهرة.
في اليمن، كشف تقرير صدر مؤخّراً عن مركز دراسات وأبحاث النوع الاجتماعيّ في جامعة صنعاء، أنّ 52% من الفتيات اليمنيّات تزوّجن دون سنّ الخامسة عشرة خلال العامين الماضيين، مقابل 7% من الذّكور، وشكّل زواج الفتيات ما نسبته 65% من حالات الزّواج المبكر، منها 70% في المناطق الريفيَّة، وأشار التقرير إلى أنّه في بعض الحالات، لا يتجاوز عمر المتزوّجة ثماني سنوات أو عشر سنوات.. وكشف التّقرير عن فجوة عمرية كبيرة بين الزوجين، تصل في بعض الأحيان إلى حالات يكبر فيها الزوج زوجته بـ56 عاماً.
في السودان، تقول بعض الإحصائيّات إنَّ 39% من الفتيات السودانيات زُوِّجْنَ وهنّ قاصرات.
أمّا في العراق، فقد لفتت نتائج مسحٍ للجهاز المركزيّ للإحصاء التّابع لوزارة التّخطيط العراقيّة، إلى أنَّ 5% من الفتيات العراقيّات تزوَّجن بعمرٍ دون الـ15 سنة، ونحو 22% دون الـ18 سنة، كما أنَّ بعض الدّراسات الأخرى تشير إلى الارتفاع المستمرّ في عدد حالات زواج القاصرات، والّتي تمثِّل ما يقارب 30% إجمالي عقود الزّواج.
أمّا في لبنان، فقد أوردت إحدى الصّحف المحليّة تقريراً عن ظاهرة تزويج القاصرات، حيث ذكرت أنَّ أكثر من 90% من حالات تزويج القاصرات حصلت بسهولة تامَّة وإجراءات بسيطة في المحاكم الشّرعيَّة، وألقت الدراسة باللائمة على المؤسَّسات الدّينيَّة، مشيرةً إلى أنَّ 30% من الأسر تستشير رجال الدّين في المسألة للموافقة على تزويج بناتها. وإذا ما حاولنا كشف ملابسات هذه الظّاهرة وأسبابها، فإنَّ الآراء متعدِّدة حولها وكثيرة.
يوجِّه البعض اللّوم على المؤسَّسات الدينيَّة ويحمِّلها المسؤوليَّة، بالنّظر إلى سهولة الإجراءات الَّتي تسمح بازدياد هذه الظَّاهرة وتفاقمها، وبثّ ثقافة حاضنة عن تزويج القاصرات، فيعتبر محامون أنَّ القوانين الموجودة تجعل من المحاكم الشّرعيّة الجهة المخوّلة الوحيدة لـ"تقرير المصير" لدى الفتاة، وتعمل على قولبة الثقافة السّائدة في هذا الإطار.
ويشير باحثون اجتماعيّون في دراساتهم للظّاهرة إلى الصَّمت المتمادي للمؤسَّسات الدينيَّة تجاه تزويج القاصرات، بالرّغم من الأضرار الجسديّة والنفسيّة الّتي تهدّد الفتاة، ويرى هؤلاء أنَّ التزويج المبكر يجسِّد حجم انتشار ثقافة اجتماعيّة وإيديولوجيّة ذات بُعد دينيّ بين النّاس، وبموجب هذه الثّقافة، يفضّل الرّجال اختيار قريناتهم الصّغيرات في السنّ، وبمواصفات تُسهِّل عليهم بسط سلطتهم باسم الدّين، فهناك جهات دينيّة توظِّف الزواج المبكر خدمةً لأهدافها.
فزواج القاصرات، بحسب قانونيّين، ليس للسترة، وليس ضمانة للعفَّة، وحصانة لسلوك الفتاة، بل إنّه ينتج علاقة ملتبسة وغير متكافئة بين الزوجين.
أمّا الشّارع، فينقسم رأيه بين من يعتبر الزواج المبكر أكبر جريمة يرتكبها الأولياء في حقّ بناتهم، وسبب ذلك، في رأيهم، يعود إلى غياب الوعي الفكريّ لدى بعض العائلات، ما يفاقم هذه الظّاهرة، كما أنّ طمع الآباء وحاجتهم إلى المال، تدفعهم إلى بيع بناتهم أحياناً.
وهناك رأي آخر يعتبر الفتاة قنبلة موقوتة يجب التخلّص منها عبر تزويجها باكراً، وإلا فهي مصدر لفساد المجتمع، فالزّواج المبكر يعتبر صيانةً للمجتمع من الانحراف، كما أنّ الزّواج واجب ديني، وإحصانٌ للرّجل والمرأة من الوقوع في الخطأ.
وبالنّسبة إلى الرأي الشّرعي فيما يتَّصل بالولاية على القاصر وتزويجه أو تزويجها، فهناك اعتبارات لا بدّ من مراعاتها، وأهمّها المصلحة الموجبة للعقد، ففي كتاب "المسائل المنتخبة" للمرجع السيّد علي السيستاني، يوضح سماحته أنَّ "الأب والجدّ من طرف الأب لهما الولاية على الطّفل الصّغير والصّغيرة، والمتّصل جنونه بالبلوغ، فلو زوَّجهم الوليّ صحّ، إلا أنه يُحتمل ثبوت الخيار للصّغير والصَّغيرة بعد البلوغ والرّشد، فإذا فسخا فلا يُترك الاحتياط بتجديد العقد أو الطلاق، هذا إذا لم تكن في العقد مفسدة على القاصر في نظر العقلاء في ظرف وقوعه، وأما مع المفسدة، فيكون العقد فضولياً، ولا يصحّ إلا مع الإجازة بعد البلوغ والرشد أو الإفاقة". مع ملاحظة (أنّ العقد الفضولي هو أن يعقد لغيره بدون إذنه). والسّؤال: حتى لو كان لهما الخيار بفسخ العقد، فلماذا الدّخول في هذه التَّجربة من الأساس؟ فهما قادران على أن ينتظرا ريثما ينضجان عقليّاً ونفسيّاً، وينظران بنفسيهما إن كانت مصلحتهما في زواجهما موجودةً دون ضغطٍ من أحد، بل لا ضير في مساعدتهما على اتخاذ القرار المناسب عندها.
وفيما يخصّ سنّ الزواج، فإنَّ الإسلام شرعاً لم يحدِّد عمراً معيّناً للزواج، فيجوز تزويج الصبي أو الصبيّة في عمر مبكر إن كان ذلك في مصلحتهما، أمّا ما يمكن أن يراه البعض في الزواج المبكر من إساءة، فإن كان الطرفان قاصريْن، فله حلٌّ، ألا وهو الاستعانة بتوجيه الأهل، ومراقبتهم لحركتهما داخل التجربة، الأمر الذي يمكن أن يوفّر لهما تجربة زوجية ناجحة، كما يقول المرجع السيد محمد حسين فضل الله في كتابه "دنيا المرأة"، ص 226.
ونستفيد من هذا، أنَّ زواج القاصر من الرّجل الكبير في السنّ هو أمر خارج عن البحث، لأنّه لا مصلحة مؤمَّنة للقاصر من النّواحي العاطفية والمعنوية والإنسانية، والاجتماعيّة أقلُّه، في هذا الزّواج.
وإذا ما عدنا إلى قضيّة وعي الشابّ والفتاة للحياة الزوجيّة وأهدافها بشكلٍ يتحمَّلون المسؤوليَّة، فإنَّ الوعي هنا لا يرتبط بسنٍّ معيّنة، وهو ما لفت إليه المرجع السيد فضل الله(رض) عندما قال: "إنّ قضيّة الوعي لا ترتبط بسنٍّ معيّنة، فربما يبلغ الشابّ أو الفتاة سنّ الرّشد القانوني، وهي سنّ الثّامنة عشرة، حسب القوانين المدنيّة، دون أن يحصِّلا وعياً بالحياة الزوجيّة، وبالطّريقة الّتي يمكن أن يتجنَّبا فيها المشاكل، كما يمكن أن تتهيّأ لهما ظروف يستطيعان من خلالها إنجاح حياتهما الزوجيّة.
لذلك، لو أردنا اعتماد سنّ الرّشد الّتي تفرضها القوانين للقبول بزواج اثنين، فإنَّ ذلك لا يشكّل ضمانةً لنجاح الزواج، لأنَّ الحياة الزوجيّة تتضمّن تعقيدات كثيرة لا بدَّ لمواجهتها من وجود مشرفين من داخل العائلة أو خارجها، يتولّون إرشاد الزّوجين في الحياة الزوجيّة، كما يتولون سير دورة العلاقة بينهما". [كتاب دنيا المرأة، ص 226].
إنّ طرح السيد فضل الله(رض) واضح، ويدعو إلى تهيئة المناخات الصالحة لنجاح الزواج، تحت إشراف العائلة أو من يثقون به، فالبيئة الحاضنة للزواج تلعب بالتالي دوراً محورياً في مدى إنجاحه. مع ذلك، يبقى الواقع قاصراً عن اللّحوق بالتّوجيهات التي تحاول إصلاحه، إذ إنَّ الأهل والعائلة غالباً ما يكونون هم المشكلة، من خلال التّعقيدات الكثيرة التي تحكمهم، بدل أن يكونوا هم مفتاح الحلّ، ما يزيد من تفاقم الأمور وتعقيدها.
فإذا ما توافرت البيئة السّليمة من إشراف الأهل على زواج القُصَّر، ورعاية البيئة الاجتماعيّة بوجهٍ عامّ، فلن يكون هناك من ضحايا لهذا النّوع من الزّواج إذا ما تمَّ شرح معناه وأهدافه، وتمَّ إيجاد بيئةٍ حاضنةٍ وصحيّة له؛ هذه البيئة الّتي تضعها كلّ الجهات المدنيَّة والشرعيَّة والإعلاميَّة والتربويّة إذا ما تعاملت مع الموضوع وقاربته بشكلٍ منفتحٍ ومتوازن، وليس من موقع تسجيل النّقاط، أو السَّعي إلى سَبَقٍ إعلاميّ، أو فتح البازار للمواقف وحبّ البروز والشّهرة.
إنَّ الأهل إذا ما فهموا جيِّداً المصلحة من الزّواج المبكر، ورعوا أولادهم كما يجب، وإذا تأمّنت الخلفيّة الاجتماعيّة والتوعويّة الملائمة، فإنّ العقليّة الناظرة أو الحاكمة لموضوع زواج القاصرات، ربما تعود إلى تصويب نظرتها أكثر وتصحيح الكثير من الأفكار والتوجهات.
ويعلّق سماحة المرجع السيّد فضل الله(رض): "ليس بالضَّرورة أن ينتج من الزواج المبكر ضحايا، لأنه يمكن أن يتمّ تحت رعاية والديْ كلّ من الزوجين، لو فرضنا أن الزوجيْن لا يملكان المقدرة على إدارة أمورهما بالشكل اللازم، ويمكن للزّوجين أن يبقيا بعد الزواج تحت رعاية العائلتين اللّتين كانا تحت رعايتهما قبل الزواج.
وهكذا، فإنَّ الأولاد الّذين ينتجون من الزّواج المبكر، يبقون تحت رعاية أبويهما والمحيط.. والاستعانة بأهل الزوجين لرعاية الأولاد أمر قد يحصل في زيجاتٍ غير مبكرةٍ أيضاً، كما عندما يكون الزّوجان غير قادريْن على تحمُّل مسؤوليَّة أولادهما بسبب بعض الأوضاع الخاصَّة".[كتاب: دنيا المرأة، ص 227].
هذا ولم تحدِّد الشّريعة الإسلاميّة سنّاً معيّنة لعقد الزواج، ولذا، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الشّريف: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}[النّساء: 6].
ومن الثّابت علميّاً أنَّ نضج الفتاة لا يرتبط دائماً بسنّ معيَّنة، والمعيار في ذلك، هو أن لا تُخدع في نفسها ومالها، وأن تكون منفتحةً على ما يُصلح أمرها ويحقِّق مصلحتها.
والفتاة القاصر في الإسلام هي الّتي لم تبلغ سنّ الرّشد بعد، ويصحّ زواجها بموافقة الأهل إذا كان ذلك يصبُّ في مصلحتها. وفيما يخصُّ الزّواج الإجباريّ، كأن تجبر الفتاة مثلاً على الزّواج من شخصٍ بغير رضاها، ومن دون موافقتها ورغبتها، وإنما بحسب رغبة الأهل، فزواجها بالإكراه والغصب باطل، لأنّه يترك آثاراً سلبيّة كثيرة فيها، وهنا ينبغي أن تسنّ القوانين لضبط هذه القضيَّة ومعالجتها".[المكتب الشّرعي في مؤسّسة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض)].
وأمّا الرّأي الفقهي الذي يقول بأنَّ الولاية للأب على الصَّغيرة في زواجها، فهذا لا يعني بتاتاً رمي البنت الصَّغيرة في أحضان رجلٍ يكبرها بسنين طويلة، فهل تبقى ولاية من يزوّج ابنته الصّغيرة من رجل خمسيني أو ستّيني؟ وإنَّ الولاية ليست سلطة مطلقة فوق سلطة القانون الشّرعي. ولهذا، فهي لا تبيح ما هو حرام في أصل التَّشريع، بل لا بدّ من أن تتحرّك تحت سقف الشّرع الحنيف، وأيّ استغلالٍ لها خارج نطاق الشَّرع لا يعدّ تصرّفاً محرَّماً فقط، بل هو تصرّف لاغٍ وباطل بطلاناً مطلقاً.
وفي رأي علماء أهل السنَّة، فإنَّ الزّواج لم يحدَّد له سنّ معيّنة، لا في الكتاب ولا في السنّة الشريفة، بل دلّت بعض الآيات القرآنيّة، في نظرهم، على إباحة زواج البنات قبل سنّ البلوغ، ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}[النّساء: 3].. ومعلومٌ أنَّ الوصف باليُتم لا يكون إلا قبل البلوغ، وسبب نزول الآية يدلّ على ذلك.
وقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ}[الطلاق: 4]، والآية دليل صريح على إباحة الزّواج بالصّغيرة الّتي لم تحضْ بعد، وعلى أنَّ عدتها إذا طُلِّقت مثل عدة الآيسة، ثلاثة أشهر.
ومن أدلّة السُنّة على زواج نكاح الصّغيرات قبل البلوغ، حديث: "تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبَتْ فلا جواز عليها". [جامع الأصول، 11/461].
ومن أدلّة السنّة أيضاً، حديث ابن عمر، أنَّ قدامة بن مظعون زوَّج ابن عمر ابنة أخيه عثمان، فرفع ذلك إلى النبيّ(ص)، فقال: "إنها يتيمة، ولا تنكح إلا بإذنها". [البيهقي، 7/120].
وهذان الحديثان ينصّان على جواز نكاح اليتيمة، وهي الصَّغيرة الّتي مات أبوها، بشرط أن تُستأْذَن، فلا يجبرها وليّها على الزّواج، بخلاف الصَّغيرة التي لها أب، فإنَّ لأبيها أن يزوّجها بغير إذنها، بشرط الكفاءة، أي أن يكون الزوج كفؤاً للبنت الصّغيرة.
قال ابن قدامة في المغني (9/402): "ليس لغير الأب إجبار كبيرة ولا تزويج صغيرة".
ولكنّ السّؤال الأساس الذي نطرحه: هل من يكبر الصّغيرة بعشرات السّنين في بعض الأحيان هو كفؤ لها، بحسب الشّرط الشرعي؟! قد يكون كفؤاً لها ماديّاً، نعم، ولكن على مستوى المودّة والرّحمة التي جعلها الإسلام الركيزة للزّواج، هل سيكون كفؤاً لها؟! على العكس، إنّنا نجد الآثار السّلبيّة في البنت الصّغيرة المتزوّجة ممن يكبرها بكثير، وهي آثار مدمّرة نفسيّاً وجسديّاً وروحيّاً، ولا إيجابيّات لمثل هذا الزّواج سوى ما يُرَى في جيوب بعض الأهل الّذين يبيعون صغيراتهم.
فالإسلام في قواعده وتشريعاته مرنٌ ومنفتح على التَّفكير الاجتهاديّ الذي يأخذ كلّ المعطيات والمستجدّات التي تتلاءم مع تحقيق المصلحة الإنسانيَّة بشكل عامّ، ولا يمكن لهذه التَّشريعات أن تقف عائقاً أمام تجسيد المصلحة للبنت القاصر في الواقع، ولا بدَّ في هذا السِّياق من دعوة المراجع والعلماء والفقهاء إلى طرح هذا الموضوع على طاولة البحث الجدّيّ والنّقاش الهادئ والعلمي، والإفادة من مرونة التَّشريع الإسلاميّ في قواعده الاجتهاديّة المواكبة لكلّ المستجدّات، فهذا من صميم عمل الفقيه والمجتهد في إبراز المصالح الحقيقيّة للأحكام.
وهنا، يجب على المرجعيّات الدّينيّة أمام فوضى زواج القاصرين، أن يكونوا أكثر جرأةً في تبيان المصلحة الإنسانيّة من وراء زواجٍ تتشابك فيه الخلفيّات والغايات، فمتى يخرج الحكم الشرعي المصلحيّ الفعليّ من قمقم الأحكام الجامدة المدفونة في طيّات الكتب القديمة التي تحتاج إلى قراءة واضحة وحاسمة؟! ولماذا لا يتعاون المشرّعون الدينيّون والقانونيّون على وضع تصوّر يحمي الفتاة الصّغيرة من زواج ليس في مصلحتها، وحتّى لا يتحوّل الأمر إلى استغلال مفتوح؟
إنَّ جمود الحكم الشَّرعيّ يعني جمود المصلحة الحقيقيّة من ورائه أو تجميدها، وهذا منافٍ للواقع الّذي يفرض شرعاً متحركاً واجتهاداً منفتحاً في تعامله مع قضاياه وحيوات أبنائه ومصيرهم، وبخاصَّة الزّواج وما يترتّب عليه.
إنّ زواج القاصرات الّذي لا تراعى فيه المصلحة الحقيقيَّة للقاصر، يهدِّد أسس المجتمعات، بما يترتّب من آثار عليه تفوق بسلبيّاتها ما يصادف أن يكون فيه فائدة ماديّة أو معنويّة للبعض.
أمَّا من الناحية الرسميَّة والمدنيَّة، فلا بدَّ من التحرّك العاجل وعدم انتظار الإعلام لنسمع كلّ حين جريمة بشعة جرّاء زواج القاصر. هذا ويمكن التّذكير ببعض الدّراسات الّتي خرجت مؤخّراً عن بعض الجمعيّات المدنيّة والاجتماعيّة، والَّتي توصي بالتّالي:
أ ـ التَّشديد على تسجيل عقود الزّواج ومعاقبة المخالف.
ب ـ رفع إلزاميّة التّعليم ومجانيّته إلى مرحلة متقدّمة، بحيث تحمى القاصر من إمكانيّة تزويجها في سنّ مبكرة.
ج ـ تفعيل دور القضاء، وخصوصاً من خلال صلاحية قاضي الأحداث، في التدخّل لحماية القاصر من الأخطار.
د ـ القيام بحملات توعية بأخطار تزويج القاصرات المبكر.
هـ ـ فتح المراكز والورش الاجتماعيّة التخصّصية من أجل توعية الأجيال بمعنى الزواج وغاياته وأهدافه، وبما يتعلّق بالزّواج في سنّ مبكرة.
نخلُص من هذه الدّراسة إلى القول بأنَّه ينتج من زواج القاصر تداعيات بحقّ القاصر أوّلاً، وبحقّ المجتمع وأمنه الاجتماعيّ ثانياً، الّذي باتت هذه الظّاهرة تثقله، في ظلّ سكوتٍ كلّ الأطراف المعنيّين.
المصدر: جريدة "دنيا الوطن"، بتاريخ: 13 نيسان 2016م.
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.