أصناف النَّاس في شهر رمضان
النَّاسُ في تعاطيهم مع هذا الشَّهر الفضيل على ثلاثةِ أصناف:
1. الأشقياءُ:
وهم المحرومُونَ من عطاءاتِ هذا الشَّهر العظيم وفيوضاتِه.
في الخطبة الرمضانيّة للنبيِّ(ص)، نقرأ هذا المقطع :"فإنَّ الشَّقيّ مَنْ حُرِمَ غُفرانَ اللهِ في هذا الشَّهرِ العظيم". فما أسوأ الإنسانَ يُدْرِكُ هذا الشَّهرَ شهرَ الرّحمةِ والبركةِ والمغفرةِ والرِّضوانِ والفيضِ والعطاءِ، ولا يكونُ مُوفَّقًا لشيء مِن عطاءاتِهِ، فأيُّ حُرْمانٍ وأيُّ خسرانٍ هذا، وأيُّ شقاء؟ ففي كلمةٍ له(ص): "مَنْ أدركَ شهر رمضانَ ولم يُغفْر له فلا غفر الله له، ومن أدرك أبويه ولم يُغفْر له فلا غفر الله له، ومَنْ ذُكرتُ عنده ولم يُصلِّ عليَّ فلا غفر الله له".
2. المغبُونُونَ:
وهم الَّذينَ يُضيِّعونَ الكثيرَ مِنْ فُرَصِ هذا الشَّهرِ الفضيل في تحصيل الأرباح الأخرويّة، ويكتفون بالقَليلِ القليلِ تكاسُلاً وانشغالًا بما لا يعُودُ عليهم بالأجر والثّواب.
في الكلمةِ لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع): "التّقصيرُ في حُسْنِ العملِ إذا وثقت بالثَّواب عليه غُبنٌ"، وهل هناك أوثق بالثَّواب على عملٍ من شهر الله الفضيل؟
نحن نقرأ هذه المقاطع من خطبة النبيِّ(ص) :
ـ "مَنْ فطَّر منكم صائمًا مؤمنًا في هذا الشَّهر، كان له بذلك عند اللهِ عِتقُ نسمةٍ ومغفرةٌ لما مضى مِن ذنوبه". فقيل: يا رسول الله، وليس كُلُّنا يقدر على ذلك. فقال(ص): "اتّقوا النَّار ولو بشقِّ تمرة، اتَّقوا النَّار ولو بشربة ماءٍ".
ـ "مَنْ تطوَّع فيه بصلاةٍ كتب الله له براءةً من النَّار".
ـ "مَنْ حسَّنَ منكم في هذا الشَّهر خُلَقَه، كان له جواز على الصِّراط يوم تزلّ فيه الأقدام".
ـ "مَنْ أكثر فيه مِن الصَّلاة عليَّ، ثقَّل الله ميزانَه يوم الحساب".
ـ "مَنْ تلا فيه آيةً مِن القرآن، كان له مثل أجر مَنْ ختم القرآن في غيره من الشّهور".
فكم هو مغبونٌ مغبونٌ مَنْ يُقصِّر في اكتساب هذه العطاءات الرَّبانيّة الكبيرة جدًّا، مقابل جهد ضئيل ضئيل، «المغبون مَنْ شُغل بالدُّنيا، وفاته حظُّهُ من الآخرة»، كما عن أمير المؤمنين(ع)، فحظوظ الآخرة في هذا الشّهر كبيرة، فلا تشغلنا الدُّنيا عنها، فنكون من المغبونين، وبعدها النّدامة كلّ الندامة، والحسرة كلّ الحسرة.
3. الفائزون الرَّابحونَ:
وهؤلاءِ على درجاتٍ، فهنيئًا للمتنافسين على هذه الدَّرجات، بما لها من مقاماتٍ عالية ورفيعة في يوم الجزاء {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ* عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ* تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ* يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ* خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ* وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ* عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}[المطفّفين: 22-28]...
وفي الحديث: «مَنْ صام للهِ في يوم صائفٍ، سقاه الله على الظّمأ من الرّحيق المختوم».
ـ وفي وصيَّة النبيِّ(ص): «ومَنْ ترك الخمر لله، سقاه الله من الرَّحيق المختوم».
أيُّها الأحبَّة: إنَّ شهر الله هو شهر التّنافس على درجات القرب من الله تعالى، فالبدار البدار قبل فوات الأوان، أنفاسكم في هذا الشّهر تسبيح، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب...
ظواهر بحاجة إلى ترشيد:
الظّاهرة الأولى: الإسراف في الأكل والشّرب.
إنَّ موائد هذا الشّهر الغنيَّة بألوان الأطعمة، وبما لذَّ من المأكولات والمشروباتِ، تفتح شهيّة الكثيرين إلى حدِّ (النَّهم)، فلا يملكون القدرة على ضبط أنفسهم، والاعتدال في أكلهم وشربهم، فيتحوَّلون إلى (مسرفين) مأسورين لنداءات البطن.
قال تعالى في سورة الأعراف: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[الأعراف: 31].
الإسراف: تجاوز الاعتدال.
وقد حذَّرتْ الروايات من كثرة الأكل:
عنه(ص): «لا تُميتُوا قلوبكم بكثرة الطّعام والشَّراب، فإنَّ القلب يموت كالزّرع إذا كثر عليه الماء».
وعنه(ص): «إيّاكم والبطنة، فإنّها مفسدة للبدن، ومورثة للسّقم، ومكسلة عن العبادة».
وعنه(ص): «ليس شيء أبغض إلى الله من بطنٍ ملآن».
وجاء عن المسيح(ع): «يا بني إسرائيل، لا تكثروا الأكل، فإنَّ من أكثر الأكل أكثر النّوم، ومن أكثر النَّوم أقلَّ الصَّلاة، ومَنْ أقلَّ الصَّلاة كُتِبَ من الغافلين».
وعن أمير المؤمنين(ع): «إيَّاكم والبطنة، فإنَّها مقساة للقلب، مكسلة عن الصَّلاة، مفسدة للجسد».
وجاء عن لقمان الحكيم: «إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وتراخت الأعضاء عن العبادة».
الظّاهرة الثانية: التبذير في الموائد الرمضانيّة.
• قال تعالى في سورة الإسراء: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا* إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}[الإسراء: 26-27].
التّبذير: هو هدرُ المال في غير موضعه، أو صرفه بطريقة غير مسؤولةٍ، وفائضة عن الحاجة، ما يجعل الفائض تالفًا لا يستفاد منه.
يُروى أنَّ النبيَّ(ص) مرَّ بسعدٍ وهو يتوضّأ، فقال: «ما هذا السَّرف يا سعد؟».
قال سعد: أفي الوضوء سَرَفٌ؟
قال(ص): «نعم وإنْ كنت على نهرٍ جارٍ».
وفي رواية عن الإمام الصَّادق(ع)، أنَّه دعا برطب (لضيوفه)، فأقبل بعضُهم يرمي بالنّوى، فقال(ع): «لا تفعلْ، إنَّ هذا من التّبذير، وإنَّ الله لا يحبُّ الفساد».
فما يلاحظ في الموائد الرَّمضانيّة لدى البعض، أنَّ فائضًا من الطّعام يكون مصيره إلى القمامة، وفي هذا استنزاف للمال، وهدرٌ له في غير حاجة. نعم، لو كان هذا الفائض يذهب إلى الفقراء والمحتاجين، ما كان إسرافًا وتبذيرًا.
الظّاهرة الثّالثة: التّفريط في الأوقات.
ومن مظاهر التّفريط:
1ـ الإسراف في النّوم:
البعض بذريعة أنَّه صائم، يسرف إسرافًا ملحوظًا في النّوم. ولا شكَّ في أنَّ هناك مقدارًا من النّوم يُشكِّل حاجة للصّائم، فإذا تجاوز هذا المقدار، كان إسرافًا في النّوم.
في الحديث عن النبيِّ(ص): «إيَّاكم وكثرة النّوم، فإنَّ كثرة النّوم يدع صاحبه فقيرًا يوم القيامة».
عن الإمام الباقر(ع)، أنَّ موسى(ع) قال سائلاً ربَّه: «أيّ عبادك أبغض إليك؟».
قال: «جيفةٌ باللّيل بطَّال بالنَّهار».
وعن الإمام الكاظم(ع): «إنَّ الله جلَّ وعزَّ يبغض العبدَ النّوام الفارغ».
وعن الإمام الصَّادق(ع): «كثرة النَّوم مذهبة للدِّين والدُّنيا».
رُبَّ قائل: أليس النبيّ(ص) يقول: «ونومكم فيه عبادة»؟
هذا صحيح، ما لم يكن في هذا النّوم إسرافٌ وتفريط بما هو أهمّ، كالتّفريط بصلاة اللّيل، والتهجّد في الأسحار، أمَّا إذا أدَّى النّوم إلى التّفريط بفريضة الصّبح، فالأمر أسوأ.
2ـ السَّهرات في ليالي شهر رمضان:
ويمكن تصنيف السَّهرات الرمضانيّة إلى:
أ- السَّهرات المحرَّمة:حفلات الغناء والطّرب واللّهو المحرَّم، جلسات القمار والألعاب المحرَّمة، مجالس البهتان والغيبة والوقيعة بالمؤمنين والإضرار بالنَّاس، ومجالس أهل البدع.
عن أمير المؤمنين(ع): «مجالسُ اللّهو تُفسِدُ الإيمان». وعنه(ع): «مجالسة أهلِ اللّهو ينسي القرآن، ويحضر الشّيطان».
وعنه(ع): «لا تفنِ عمرك في الملاهي، فتخرج من الدُّنيا بلا أمل».
وعنه(ص): «مَنْ ردَّ عن أخيه غيبةً سمعها في مجلس، ردَّ الله عزَّ وجلَّ عنه ألف بابٍ من الشرِّ في الدُّنيا والآخرة، فإنْ لم يردَّ عنه وأعجبه، كان عليه كوزر مَنْ اغتاب».
وعنه(ص): «مَنْ أتى ذا بدعةٍ فَوقَّره، فقد سعى في هدم الإسلام».
ب- السَّهرات الاستهلاكيّة الّتي تقتل الوقت بلا عطاء ولا فائدة.
الوقت يحمل كلَّ القيمة، فحذارِ حذارِ من التفريط به وإضاعته، فهو جزءٌ من عمرك أيُّها الإنسان.
عن النبيِّ(ص): «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابكَ قبل هرمِكَ، وصحّتكَ قبلَ سقمِكَ، وغناكَ قبل فقرك، وفراغَكَ قبلَ شُغلِكَ، وحياتَكَ قبل موتك».
وعن أمير المؤمنين (ع): «إنَّما أنت عدد أيّام، فكلّ يومٍ يمضي عليك، يمضي ببعضك».
وعنه (ع): «مَنْ شغل نفسه بما لا يجب، ضيّع من أمره ما يجب».
• وعنه (ع): «لو اعتبرت فيما أضعت من ماضي عمرك، لحفظت ما بقي».
ج- السَّهرات المشروعة الهادفة:
وهي مجالس العلم والمعرفة، مجالس الأنشطة الدينيّة، مجالس القرآن والذّكر، التهجُّد بالأسحار...
هذه سهراتٌ عبادية مباركة، في شهر مبارك... قال النبيُّ(ص): «نزل جبرئيل إليَّ وقال لي: يا محمد! ربُّك يقرئك السَّلام، ويقول لك: كلّ ساعةٍ تذكرني فيها فهي لك عندي مذَّخرة، وكلّ ساعةٍ لا تذكرني فيها، فهي منك ضائعة»...
* محاضرة لسماحته ألقاها ليلة الجمعة، بتاريخ: 2 ـ 6 ـ 2016/ الموافق: 25 شعبان 1437.