مختارات
17/06/2016

الزَّواج.. سكن

الزَّواج.. سكن

قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الرّوم: 21].

فالآية الشَّريفة تتحدَّث عن حقيقة تكوينيَّة، وهي أنَّ الرّجل والمرأة مخلوقان من نفس واحدة، {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا}، وهذا ما أكَّدته العديد من الآيات القرآنيَّة، قال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءًوَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[النّساء: 1]، فالنّوع الإنساني خلق من نفسٍ واحدة وخُلق منها زوجها، والزّوج يطلق على الذكر والأنثى، والمرأة هي جزء لا يتجزّأ من هذا النوع، تماماً كما هو الحال في الرّجل، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَاوَتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[الشّمس: 7- 10]. إنّ اشتراك الرّجل والمرأة في أصل الخلقة والفطرة، يستفاد - أيضاً - من آية أخرى، وهي قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}[النّساء: 10].

هل المرأة مخلوقة من ضلع الرّجل؟

وليس المقصود بهذه الآيات أنَّ المرأة مخلوقة من ضلع الرّجل، فهذه الفكرة توراتية ولا صحة لها في منطق القرآن الكريم، وإنما المقصود بالآية أنّهما خلقا من أصل واحد ومن طينة واحدة، فالقرآن لا يوافق على حكاية خلق حوّاء من ضلع آدم، هذه الفكرة هي من الإسرائيليّات المتسرّبة إلى ثقافتنا الإسلاميّة، ومما يؤسف له، أنّ الكثير من الأفكار التوراتيّة تسرّبت إلى ثقافتنا الإسلاميّة من خلال أهل الكتاب الذين سُمح لهم أن يبثّوا أفكارهم في المجتمع الإسلامي غير المحصّن بما فيه الكفاية. ومن تلك الأفكار أيضاً، التي لا تبتعد عن مقامنا، فكرة أنَّ حواء أصل الإغواء، بينما نجد أنَّ القرآن ينصّ على أن {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}[الأعراف: 20]، والاثنان معاً انساقا مع تلك الوسوسة الشيطانيّة، ووقعا ضحاياها وسقطا في حبالها. قال تعالى في مورد آخر: يقول سبحانه: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}[البقرة: 36].

بالعودة إلى هذا المبدأ المذكور، وهو مبدأ المساواة في أصل الخلقة، والانبثاق من نفس واحدة، فإنّنا نقول: إنَّ هذا المبدأ يتفرع عليه العديد من الأسس التشريعيّة، ومنها أنّهما معاً يمثّلان خلافة الله على الأرض، وأنّهما يشتركان في التّكريم الإلهي، فهو تكريمٌ للإنسان وليس للذّكر فقط. ومنها اشتراكهما في الدّور الرسالي، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التّوبة: 71]. ومنها وحدة الحساب، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[النّحل: 97].

السّكن كهدفٍ للزّواج

الزواج ضرورة للاجتماع البشريّ، والإسلام يرفض مبدأ التبتّل والرهبنة والانقطاع عن الجنس الآخر، فهذا سلوك غير سويّ ومخالف للفطرة، ولذا لا يمكن أن يأمر به المشرّع الحكيم، قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}[الحديد: 27]، والزّواج يحقّق للرّجل والمرأة عدّة غايات ورغبات:

1- منها تلبية الغريزة الجنسيّة، وهذه شهوة ولذّة محلّلة، وهذا هدف مشروع، فكما يحتاج الإنسان إلى تلبية غريزته وحاجته إلى الأكل والشّرب، كذلك بحاجة إلى تلبية حاجته إلى الزّواج إطفاءً للغريزة، والغريزة ليست عيباً ولا دنساً.

2- ومنها بقاء النّسل البشريّ، وهذا ما أشارت إليه الآية المباركة: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}[البقرة: 223]، وفي الآية كما يقول بعض المفسّرين: "إشارة رائعة لبيان ضرورة وجود المرأة في المجتمع الإنساني. فالمرأة بموجب هذا التّعبير، ليست وسيلةً لإطفاء الشهوة، بل وسيلة لحفظ حياة النّوع البشري". إلى أن يقول: "هذا الأمر القرآنيّ يشير إلى أنَّ الهدف النّهائيَّ من الجماع ليس هو الاستمتاع باللذّة الجنسيّة، فالمؤمنون يجب أن يستثمروه على طريق تربية أبناء صالحين، وأن يقدّموا هذه الخدمة التربويّة المقدَّسة ذخيرةً لأخراهم. وبذلك يؤكّد القرآن على رعاية الدقّة في انتخاب الزوجة، كي تكون ثمرة الزّواج إنجاب أبناء صالحين، وتقديم هذه الذّخيرة الاجتماعيّة الإنسانيّة الكبرى"([1]).

3- والهدف الثالث والأسمى، هو أنّ الزواج يحقّق السّكن للزوجين، والسّكن هو الاطمئنان والاستقرار، وسمِّي البيت مسكنً، لأنّه يحقّق هذه الغاية. ويعبّر القرآن عن اللّيل بأنّه سكن، قال تعالى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً}، وذلك لأنه يشكّل الأمن والاستراحة للإنسان، وحاجة الإنسان إلى السّكن والاطمئنان واضحة وجليّة، ذلك لأنَّ طبيعة الحياة والعمل والمشاغل المختلفة، تُدخل الإنسان في الكثير من المتاعب والمشاكل، فيحتاج إلى من يمنحه الأمن.

وقد وفَّر الله تعالى الكثير من عناصر السّكينة، ومن أهم هذه العناصر التي تحقّق له الأمن العبادة، كالصلاة، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ}[التّوبة: 103]. والصّلاة تحقّق له السّكينة الروحيّة.

ـ ومنها الزواج، وهو يحقق له السكينة النفسية والاجتماعية، وذلك عندما يأوي إلى إنسان ليمنحه السّكن ويهدئ روعه ويزيل همّه، فالزّوج سكنٌ للمرأة، والمرأة سكنٌ للزوج، والزوج في قوله: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا}، لا يراد به النّساء فقط، فالزّوج يطلق على المرأة والرّجل، ما يعني أنّ السّكن متبادل، وأنّ الرّجل لا بدّ من أن يحرص على أن يوفّر لزوجته السّكن النفسيّ، كما أنّ على المرأة أن تحرص على ذلك.

ومن هنا، علينا أن ننبّه إلى أنّ الزواج عندما لا يحقّق السّكن للطرفين، فهو انحراف عن الخطّ الذي كان الزّواج من أجله، وعلى هذا الأساس، فلا يجوز أن ندخل في زواج على أساس تجاريّ، أو مادّيّ، أو لاعتبارات الجمال وحده، فعلينا أن نأخذ هذا الأمر في عمليّة اختيار الزوج، فالرّجل عليه أن يتساءل قبل أن يقدم على الزّواج بامرأة: هل تحقّق له السكن؟ والمرأة كذلك لا يصحّ لها أو لذويها أن يفكّروا في الجوانب الماديّة البحتة، ففي الحديث النبوي الشّريف: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير". فالأساس هو الخلق والدّين وليس المال والجمال، وهذان ـ أعني الخلق والدين ـ هما اللّذان يحقّقان السكن، فالسكن يأتي من صاحب الأخلاق الطيّبة، وليس من الإنسان العصبي أو ممن لا أخلاق له، ويأتي أيضاً من الدّين، ومن العلاقة مع الله تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرّعد: 28].

وقد تعتري الحياة بعض المشكلات الطّارئة، ولذا فهما قد يحتاجان إلى إعادة تجديد هذه الحيويّة التي تحقّق السّكن، إنَّ الأسرة السّعيدة هي التي تجدّد حيويّة الزواج، وإليك نموذج للأسرة السّعيدة من صدر الإسلام، ومن بيت عليّ والزهراء(ع)، فقد كانا أسعد زوجين، بماذا؟ بكثرة المال؟ أم بعظيم الجاه، كلا لا ذا ولا ذاك، وإنّما بالتّفاهم والتّناغم الرّوحي بينهما. لقد كانت الزّهراء(ع) مصدر الأنس والرّاحة لعليّ(ع)، وقد عبّر(ع) عن هذا المعنى خير تعبيرٍ، عندما قال فيما روي عنه: "فوالله ما أغضبتها ولا أكرهتها على أمرٍ حتى قبضها الله عزّ وجلّ إليه، ولا أغضبتني ولا عَصَتْ ليأمراً، ولقد كُنْتُ أنظرُ إليها فتنكشف عنّي الهموم والأحزان"([2]).

المودّة والرّحمة في البيت الزّوجي

إنَّ من لطف الله بنا، أنّه عمل من خلال سنّته في الخلق، على أن يزرع المودّة والرحمة بين الزوجين، حيث جعل بينهما هذه المودّة وتلك الرّحمة، وهو ظاهر في الجعل التّكويني لا التّشريعي، وهذا الجعل كفيل بتحقيق السّكن، فلا سكن بدون أمرين: وهما المودّة والرّحمة.

والمودّة هي الرّوح لعمليّة السكن، فلا يمكن حصول سكن إلا إذا كانت المحبّة قائمة بين الزّوجين. ومن هنا، فإنّ علينا أن نحرص على إبقاء شعلة الحبّ قائمةً بين الزّوجين، فهذا يحفظ الحياة الزوجيّة، ويحفظ تماسك الأسرة، ويضمن تربية صالحة للأولاد. وعلينا أن نظهر الحبّ للطرف الآخر، ولعلّه لهذا عبّرت الآية بلفظ المودّة لا بلفظ المحبّة، حيث يقال: إنّ "المودّة" تفترق عن "المحبّة"، بأنَّ المودّة هي حبٌّ يتمّ إظهاره وتجسيده عمليّاً، بخلاف المحبّة، فقد تبقى حبيسة القلب، وقد ورد في الرّواية عَنْ أَبِي عَبْدِ الله(ع) قَالَ: "قَالَ رَسُولُ الله(ص): "قَوْلُ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ إِنِّي أُحِبُّكِ لَا يَذْهَبُ مِنْ قَلْبِهَاأَبَداً".

وأمّا الرّحمة، فهي الشّرط الّذي لا بدَّ منه لتحقّق معنى السّكن، فلا سكن إلا إذا أديرت الحياة على أساس مبدأ الرّحمة، فالحياة الزوجيّة ليست معسكراً ليتعامل الزّوج مع زوجته على أساس إصدار الأوامر، وما عليها سوى التّنفيذ، الرّحمة تفرض على الإنسان أن يغضّ الطرف عن بعض الهنات العابرة، والرّحمة تفرض على الزّوج أن يقدِّر معاناة زوجته، وتفرض على الزّوجة أن تقدِّر متاعب زوجها.


[1] .123 الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج2، ص

[2] كشف الغمّة في معرفة الأئمّة، ج1، ص373.

قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الرّوم: 21].

فالآية الشَّريفة تتحدَّث عن حقيقة تكوينيَّة، وهي أنَّ الرّجل والمرأة مخلوقان من نفس واحدة، {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا}، وهذا ما أكَّدته العديد من الآيات القرآنيَّة، قال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءًوَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[النّساء: 1]، فالنّوع الإنساني خلق من نفسٍ واحدة وخُلق منها زوجها، والزّوج يطلق على الذكر والأنثى، والمرأة هي جزء لا يتجزّأ من هذا النوع، تماماً كما هو الحال في الرّجل، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَاوَتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[الشّمس: 7- 10]. إنّ اشتراك الرّجل والمرأة في أصل الخلقة والفطرة، يستفاد - أيضاً - من آية أخرى، وهي قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}[النّساء: 10].

هل المرأة مخلوقة من ضلع الرّجل؟

وليس المقصود بهذه الآيات أنَّ المرأة مخلوقة من ضلع الرّجل، فهذه الفكرة توراتية ولا صحة لها في منطق القرآن الكريم، وإنما المقصود بالآية أنّهما خلقا من أصل واحد ومن طينة واحدة، فالقرآن لا يوافق على حكاية خلق حوّاء من ضلع آدم، هذه الفكرة هي من الإسرائيليّات المتسرّبة إلى ثقافتنا الإسلاميّة، ومما يؤسف له، أنّ الكثير من الأفكار التوراتيّة تسرّبت إلى ثقافتنا الإسلاميّة من خلال أهل الكتاب الذين سُمح لهم أن يبثّوا أفكارهم في المجتمع الإسلامي غير المحصّن بما فيه الكفاية. ومن تلك الأفكار أيضاً، التي لا تبتعد عن مقامنا، فكرة أنَّ حواء أصل الإغواء، بينما نجد أنَّ القرآن ينصّ على أن {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}[الأعراف: 20]، والاثنان معاً انساقا مع تلك الوسوسة الشيطانيّة، ووقعا ضحاياها وسقطا في حبالها. قال تعالى في مورد آخر: يقول سبحانه: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}[البقرة: 36].

بالعودة إلى هذا المبدأ المذكور، وهو مبدأ المساواة في أصل الخلقة، والانبثاق من نفس واحدة، فإنّنا نقول: إنَّ هذا المبدأ يتفرع عليه العديد من الأسس التشريعيّة، ومنها أنّهما معاً يمثّلان خلافة الله على الأرض، وأنّهما يشتركان في التّكريم الإلهي، فهو تكريمٌ للإنسان وليس للذّكر فقط. ومنها اشتراكهما في الدّور الرسالي، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التّوبة: 71]. ومنها وحدة الحساب، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[النّحل: 97].

السّكن كهدفٍ للزّواج

الزواج ضرورة للاجتماع البشريّ، والإسلام يرفض مبدأ التبتّل والرهبنة والانقطاع عن الجنس الآخر، فهذا سلوك غير سويّ ومخالف للفطرة، ولذا لا يمكن أن يأمر به المشرّع الحكيم، قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}[الحديد: 27]، والزّواج يحقّق للرّجل والمرأة عدّة غايات ورغبات:

1- منها تلبية الغريزة الجنسيّة، وهذه شهوة ولذّة محلّلة، وهذا هدف مشروع، فكما يحتاج الإنسان إلى تلبية غريزته وحاجته إلى الأكل والشّرب، كذلك بحاجة إلى تلبية حاجته إلى الزّواج إطفاءً للغريزة، والغريزة ليست عيباً ولا دنساً.

2- ومنها بقاء النّسل البشريّ، وهذا ما أشارت إليه الآية المباركة: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}[البقرة: 223]، وفي الآية كما يقول بعض المفسّرين: "إشارة رائعة لبيان ضرورة وجود المرأة في المجتمع الإنساني. فالمرأة بموجب هذا التّعبير، ليست وسيلةً لإطفاء الشهوة، بل وسيلة لحفظ حياة النّوع البشري". إلى أن يقول: "هذا الأمر القرآنيّ يشير إلى أنَّ الهدف النّهائيَّ من الجماع ليس هو الاستمتاع باللذّة الجنسيّة، فالمؤمنون يجب أن يستثمروه على طريق تربية أبناء صالحين، وأن يقدّموا هذه الخدمة التربويّة المقدَّسة ذخيرةً لأخراهم. وبذلك يؤكّد القرآن على رعاية الدقّة في انتخاب الزوجة، كي تكون ثمرة الزّواج إنجاب أبناء صالحين، وتقديم هذه الذّخيرة الاجتماعيّة الإنسانيّة الكبرى"([1]).

3- والهدف الثالث والأسمى، هو أنّ الزواج يحقّق السّكن للزوجين، والسّكن هو الاطمئنان والاستقرار، وسمِّي البيت مسكنً، لأنّه يحقّق هذه الغاية. ويعبّر القرآن عن اللّيل بأنّه سكن، قال تعالى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً}، وذلك لأنه يشكّل الأمن والاستراحة للإنسان، وحاجة الإنسان إلى السّكن والاطمئنان واضحة وجليّة، ذلك لأنَّ طبيعة الحياة والعمل والمشاغل المختلفة، تُدخل الإنسان في الكثير من المتاعب والمشاكل، فيحتاج إلى من يمنحه الأمن.

وقد وفَّر الله تعالى الكثير من عناصر السّكينة، ومن أهم هذه العناصر التي تحقّق له الأمن العبادة، كالصلاة، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ}[التّوبة: 103]. والصّلاة تحقّق له السّكينة الروحيّة.

ـ ومنها الزواج، وهو يحقق له السكينة النفسية والاجتماعية، وذلك عندما يأوي إلى إنسان ليمنحه السّكن ويهدئ روعه ويزيل همّه، فالزّوج سكنٌ للمرأة، والمرأة سكنٌ للزوج، والزوج في قوله: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا}، لا يراد به النّساء فقط، فالزّوج يطلق على المرأة والرّجل، ما يعني أنّ السّكن متبادل، وأنّ الرّجل لا بدّ من أن يحرص على أن يوفّر لزوجته السّكن النفسيّ، كما أنّ على المرأة أن تحرص على ذلك.

ومن هنا، علينا أن ننبّه إلى أنّ الزواج عندما لا يحقّق السّكن للطرفين، فهو انحراف عن الخطّ الذي كان الزّواج من أجله، وعلى هذا الأساس، فلا يجوز أن ندخل في زواج على أساس تجاريّ، أو مادّيّ، أو لاعتبارات الجمال وحده، فعلينا أن نأخذ هذا الأمر في عمليّة اختيار الزوج، فالرّجل عليه أن يتساءل قبل أن يقدم على الزّواج بامرأة: هل تحقّق له السكن؟ والمرأة كذلك لا يصحّ لها أو لذويها أن يفكّروا في الجوانب الماديّة البحتة، ففي الحديث النبوي الشّريف: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير". فالأساس هو الخلق والدّين وليس المال والجمال، وهذان ـ أعني الخلق والدين ـ هما اللّذان يحقّقان السكن، فالسكن يأتي من صاحب الأخلاق الطيّبة، وليس من الإنسان العصبي أو ممن لا أخلاق له، ويأتي أيضاً من الدّين، ومن العلاقة مع الله تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرّعد: 28].

وقد تعتري الحياة بعض المشكلات الطّارئة، ولذا فهما قد يحتاجان إلى إعادة تجديد هذه الحيويّة التي تحقّق السّكن، إنَّ الأسرة السّعيدة هي التي تجدّد حيويّة الزواج، وإليك نموذج للأسرة السّعيدة من صدر الإسلام، ومن بيت عليّ والزهراء(ع)، فقد كانا أسعد زوجين، بماذا؟ بكثرة المال؟ أم بعظيم الجاه، كلا لا ذا ولا ذاك، وإنّما بالتّفاهم والتّناغم الرّوحي بينهما. لقد كانت الزّهراء(ع) مصدر الأنس والرّاحة لعليّ(ع)، وقد عبّر(ع) عن هذا المعنى خير تعبيرٍ، عندما قال فيما روي عنه: "فوالله ما أغضبتها ولا أكرهتها على أمرٍ حتى قبضها الله عزّ وجلّ إليه، ولا أغضبتني ولا عَصَتْ ليأمراً، ولقد كُنْتُ أنظرُ إليها فتنكشف عنّي الهموم والأحزان"([2]).

المودّة والرّحمة في البيت الزّوجي

إنَّ من لطف الله بنا، أنّه عمل من خلال سنّته في الخلق، على أن يزرع المودّة والرحمة بين الزوجين، حيث جعل بينهما هذه المودّة وتلك الرّحمة، وهو ظاهر في الجعل التّكويني لا التّشريعي، وهذا الجعل كفيل بتحقيق السّكن، فلا سكن بدون أمرين: وهما المودّة والرّحمة.

والمودّة هي الرّوح لعمليّة السكن، فلا يمكن حصول سكن إلا إذا كانت المحبّة قائمة بين الزّوجين. ومن هنا، فإنّ علينا أن نحرص على إبقاء شعلة الحبّ قائمةً بين الزّوجين، فهذا يحفظ الحياة الزوجيّة، ويحفظ تماسك الأسرة، ويضمن تربية صالحة للأولاد. وعلينا أن نظهر الحبّ للطرف الآخر، ولعلّه لهذا عبّرت الآية بلفظ المودّة لا بلفظ المحبّة، حيث يقال: إنّ "المودّة" تفترق عن "المحبّة"، بأنَّ المودّة هي حبٌّ يتمّ إظهاره وتجسيده عمليّاً، بخلاف المحبّة، فقد تبقى حبيسة القلب، وقد ورد في الرّواية عَنْ أَبِي عَبْدِ الله(ع) قَالَ: "قَالَ رَسُولُ الله(ص): "قَوْلُ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ إِنِّي أُحِبُّكِ لَا يَذْهَبُ مِنْ قَلْبِهَاأَبَداً".

وأمّا الرّحمة، فهي الشّرط الّذي لا بدَّ منه لتحقّق معنى السّكن، فلا سكن إلا إذا أديرت الحياة على أساس مبدأ الرّحمة، فالحياة الزوجيّة ليست معسكراً ليتعامل الزّوج مع زوجته على أساس إصدار الأوامر، وما عليها سوى التّنفيذ، الرّحمة تفرض على الإنسان أن يغضّ الطرف عن بعض الهنات العابرة، والرّحمة تفرض على الزّوج أن يقدِّر معاناة زوجته، وتفرض على الزّوجة أن تقدِّر متاعب زوجها.


[1] .123 الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج2، ص

[2] كشف الغمّة في معرفة الأئمّة، ج1، ص373.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية