مختارات
22/06/2016

النصّ الدّيني .. وصناعة الشّرّ

النصّ الدّيني .. وصناعة الشّرّ

 المقدّمة

لا نستطيع أن نعيش خارج إطار الأحداث التي نراها في كل يوم، بل لا بد من أن نعيش في عمقها، لنعرف ما يدور حولنا بكل وضوح. والإنسان بطبيعته يبحث عن إجابات لكلّ ما يراوده من استفهامات من هنا وهناك، ومن أكبر نقاط الاستفهام في واقعنا المعاصر، كيف يكون الإنسان قاتلاً، رغم ارتباطه بالدين، ووجود الإيمان وممارسته الطقوس والشعائر الدينية باستمرار؟!، لماذا كلّ هذا العنف؟! هل الله يدعو إلى العنف وصناعة الشرّ؟! وما طبيعة هذه النصوص التي يتّكئ عليها هؤلاء الإقصائيون؟! بالرغم من التقدم العلمي، ولكننا نشهد تخلفاً على المستوى العقدي الّذي يصنع القنابل والمفخّخات والأحزمة الناسفة، هل هذه النصوص موجودة في كلّ الديانات؛ الإسلامية والمسيحية واليهودية، أم أنها موجودة فقط في الدين الإسلامي؟!

من هذا المنطلق، سأحاول أن أبحث عن مصدرية الشر، وأين يوجد، وهل هذه النصوص هي نصوص تمثل الله!؟ وماذا يترتب على المستوى الفكري والانتمائي على هذه الظاهرة في المجتمعات بشكل عام.

تمهيد

تقول كاترين أرمسترونج في كتابها "مسعى البشريّة الأزلي": "وربما كانت توجد مدن في التاريخ بلا أسوار، بلا جيوش، بلا مصانع، لكن لم توجد مدينة بلا معبد". إن الإنسان على مر العصور، وبغض النظر عن ديانته وانتمائه وصحة معتقده، هو إنسان يملك في وجدانه مساحة غيبية مقدسة مرتبطة بإله، لأن وجود قوة غيبية تدير كل ما حوله نابعة من الفطرة، لذلك فالإنسان ربما يكون أسيراً للنص الديني، عندما يجمد عقله ولا يميز بين الخير والشر، ويرى أنّ كلّ ما يصدر عنه حسن عندما يكون مرتبطا بهذه النصوص، فالعقل البشري يميز بين الخير والشر، ولكن هناك من لا يرى أن النصوص الدينية قابلة للميزان العقلي، وبحاجة إلى عملية الغربلة والتنقيح، وممكن ردها عندما تخالف الواقع والعقل، فيخلق الكثير من المبررات، ويلوي عنق النص الديني حتى يخرجه من دائرة النقد، لأنّ الانسان لا يرتكب الشرور بكلّ اعتزاز وراحة وفخر، إلا عندما يكون مصدرها النصّ الديني، ومن هذا المنطلق، كان بحثي حول النص الديني وصناعة الشّرّ.

سأقوم بالتعرض لبعض النصوص الدينية المرتبطة بالديانات الثلاث؛ الإسلامية والمسيحية واليهودية، وأعتقد أنها ربما تكون مصدراً من مصادر صناعة الشر، لأن الشر لم يكن وليد اللحظة، بل كان ولا يزال موجوداً منذ مئات السنين، وله ألوان وأشكال مختلفة، حسب ما تقتضيه الحالات والظروف، وأتمنى أن أوفق في عرضها وتحليلها ومخرجاتها، على أمل أن يكون ذلك باكورة عمل أوسع في هذا المجال.

ما هو النص الديني؟!

إن المقصود بالنص الديني هنا، هو النص المرتبط بالدّين على المستوى الإيماني والعقدي× التوراة بالنّسبة إلى اليهود، والإنجيل بالنّسبة إلى المسيحيين، والقرآن الكريم والسنّة النبويّة بالنسبة إلى المسلمين، وهي نصوص يرجعون إليها في مسائلهم المرتبطة بعقيدتهم وسلوكهم وإيمانهم، وهذه النصوص لها إطارها المقدَّس في نفوسهم.

احتكار الحقيقة

يمثّل احتكار الحقيقة ونزعها من الآخر بشكل يقيني ومتشدّد، صناعةً للشّرّ وإلغاءً لكلّ قنوات التعايش المشترك، وهذا المعتقد موجود في كل الديانات والمذاهب، وكأنّ الجنة بيدنا ندخل من نشاء ونخرج من نشاء منها. قيل لعليّ بن الحسين(ع): "إنّ الحسن البصريّ قال: ليس العجب ممن هلك كيف هلك، وإنما العجب ممن نجا كيف نجا!"، فقال(ع): "أنا أقول: ليس العجب ممن نجا كيف نجا، وإنما العجب ممن هلك كيف هلك مع سعة رحمة الله". وقد أشار القرآن الكريم إلى دعوى اليهود والنصارى لذلك، بقوله تعالى: }وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى{. يقول أحد الدعاة المسيحيّين: "إن نسبة الناجين يوم القيامة لا تتجاوز الواحد من كلّ مائة ألف شخص، أي عشرة على مليون، أمّا البقية، فمصيرهم إلى النار وبئس المصير". ما يقوله هذا الداعية المسيحي يقوله دعاة من اليهودية ودعاة من المسلمين، ومن ديانات وطوائف أخرى أيضاً.

إن اتهام الآخرين بالانحراف والضلال، وإقصاء كل من لا يؤمن بما نؤمن به، بل بوجوب مقاتلته، هو بحدّ ذاته صناعة خطيرة لا يمكن لأيّ معتقد بها أن يعيش المحبة والسلام مع الآخرين. والأخطر من ذلك، عندما نؤمن بنصوص تقول بأنّنا عندما لا نستبيح دم من لا يؤمن بما نؤمن به سيحلّ علينا غضب الربّ!، وكأنّ الربّ يدعو إلى الشر وقتل الآخرين، أليس ذلك صناعة للشّرّ باسم الربّ؟! إذاً لا توجد رحمة عند هذا الربّ، وكأنّ الشرّ هو منطلق من منطلقات الإيمان في العالم، فلا توجد أي مساحة عذر من الممكن أن يحملها الإقصائيّون تجاه الآخر، بل يسعى هؤلاء لإقصائهم وقتلهم، وكأنهم هم الذين يملكون حقّ البقاء والرحيل.

إن كان الله هو خالق العقل وبه سيحاكمنا، فإنّ العقل يرى صنفين من البشر معذورين أمام الله، هما : الجاهل القاصر، والمجتهد المخلص، فلماذا لا تكون لدينا ثقافة العذر تجاه الآخر، وإن كنا نعتقد أن ما نؤمن به هو الحقيقة، ولكن مع الأسف، فإن هؤلاء قد جمّدوا عقولهم، وغرقوا في وحل النصوص الدينية، دون أن يميزوا بين الصحيح منها وغير الصّحيح، بل نجد هؤلاء يتشبثون بالنصوص الضعيفة والموضوعة، حتى تتواءم مع الأيديولوجية المتبعة لديهم.

ماذا ينتج احتكار الحقيقة؟

·التطرف: بمعنى التواجد على الطّرف، وليس في عمق الشيء، والابتعاد عن الاعتدال، وهذا ينتج لنا أشخاصاً يمتهنون الشرور في تعاملهم مع الآخرين، لأنهم لم يفهموا حقيقة الإيمان في عمقه، بل اكتفوا بالتواجد في أطراف الحقيقة.

·التعصب: هو الذي لا يقبل أيّ رأي آخر، ويجمد فيما يراه هو حقيقة، وهو يعتبر جريمةً للعقل، لأنّ العصبيّة تعني إغلاقاً للعقل، فهو يحتكر الحقيقة لنفسه، وأنّ غيره لا يملك الحقيقة، فالمتعصّب لا يستند إلى منطق، بل إلى انفعالات عاطفية لما يعتقد به، وهذا بطبيعة الحال ينتج لنا شراً على مستوى الفكر والانتماء.

·الوصاية: هو من يرى أنّ الدّين قد جعله وصيّاً على البشر، فيطلب منهم الانتماء إلى ما ينتمي إليه، ويستخدم العنف تجاه كلّ من يرفض ذلك، وهذا ما نجده على مستوى التّأصيل الديني الإقصائي التكفيري.

·العنف: هو الإكراه بالقوّة، أن تستجيب له مكرهاً حتى وإن كنت لا تؤمن بما يؤمن به، أنت لا تملك إرادتك أمامه، بل ما عليك سوى الخضوع المطلق لما يدعو إليه، هو فنّ بناء الكراهية ومصنع للشرّ.

إنّ من يتّصف بالتطرّف والتعصب والوصاية والعنف لا ينتج إلا شراً، حتى مع من ينتمي معه في إطار الدين الواحد، بل حتى على مستوى الأسرة والعائلة، فتجده كونه يؤمن بالوصاية، يستعمل العنف مع الأبناء والزوجة، على حساب الرّحمة والمحبّة والتّسامح. وإذا كان على مستوى الأمور البسيطة هكذا، فكيف على مستوى الدّفاع عن معتقداته الدينيّة؟! وعندما تسيّره النصوص الدينيّة، فمن الطبيعي ستكون مخرجات هذا النص الدّيني الذي يملك في عمقه الشّرّ، فإنّه سينتج لنا إنساناً يتقن فنّ الشّرّ، فبالتالي، سنجد الكثير من الناس يرى أنّ من صفات الله أنّه العنيف والشرّير والإقصائي، وليس الرحمن الرحيم الغفور المحبّ السلام، وهذا ما أنتج لنا حالة إلحادية لا تعترف بدين سماوي، لماذا؟ لأن من يصنع الشر يتحدّث باسم الله، وهذا من أخطر أنواع الانحراف الفكري والعقيدي.

الدين لا يخلق الشّرّ، بل النصوص الدينية دون غربلتها ونقدها وتهذيبها وتأويلها تصنع لنا الشّرّ

ولنكن منصفين أكثر، هناك دوافع أخرى تدخل في صناعة الشّرّ، كالأنظمة السياسية المستبدة، فهناك استغلال للدين، لأنهم يعرفون أنّ طريق الإيمان والعقيدة هو الأسرع في تخدير العقول، فهناك حركات لا تؤمن بالدّين تجعل لها دعاة دينيّين يؤصّلون لهم ظلمهم واستبدادهم. يقول تيموثي كيلر: "في القرن العشرين، أصبح العنف يثار من قبل العلمانية بنفس القدر الذي تثيره الأحكام المطلقة الأخلاقيّة - الدين - . المجتمعات التي حرّرت نفسها من كل دين، أصبحت مجتمعات ظالمة مثلها مثل المجتمعات التي بقيت متمسّكة بالدين"، حتى على مستوى الفكر العلماني هناك صناعة للشر.

ونجد كيف دعّم ابن تيميّة بفتاواه المصنّعة للشرّ، السلطان الناصر بن قلاوون والمغول في العام 1303م، وكان بدافع قتال الشّيعة في جبال كسروان لبنان، باعتبارهم كفّاراً مرتدّين عن الاسلام[1].

فالدّين ربما يُستغل في السياسة، وتأصيل النصوص الدينية لصناعة الشرّ في العالم، وهذا ما جعل النصوص الدينية موضعاً للوضع والتّدليس، وذلك بما يتناسب مع الأهواء والمطامع السياسية من قبل السلطات الحاكمة.

وقفة مع النصوص الدينيّة

سأعتمد على نصٍّ واحدٍ من كلّ من النصوص الدينية الإسلامية والمسيحية واليهودية، هذه النصوص الدينية تحوي الكثير من النصوص الداعية إلى السّلام والمحبّة والتّسامح، ولكنّها في الوقت نفسه، تحتوي نصوصاً متوحّشة وصانعة للشرّ والعنف والتطرّف! إذاً هناك خلل، لا يمكن للنصوص أن تعارض بعضها البعض، وخصوصاً أنها نصوص مقدَّسة مرتبطة بالله عزّ وجلّ، ونجد أهل السّلم والمحبّة يرجعون إلى النصوص الداعية إلى السلام والمحبة، وآخرين من أهل الشّرّ والتوحّش يرجعون إلى نصوص الشر والتوحش! لا بدّ من نقد جادّ يخرجنا من هذه الأزمة النصوصية المتناقضة، وخصوصاً أنّ الشّرّ أصبح يأخذ طريقه بشكل قويّ من خلال هذه النصوص التي تصنع الشّرّ على مستوى العالم.

وهذا ما دفع ستيف ويلس إلى تأليف "سكران الدم.. جرائم الربّ في الكتاب المقدَّس"، الصادر العام 2010م، يستعرض فيه الكاتب أكثر من مئة وعشرين جريمة باسم الرّبّ وردت في العهد القديم، وقام بإحصائيّة لعدد الذين قتلوا بلغ عددهم ما يقارب المليونين والنّصف مليون قتيل، هذا الإجرام المقدَّس استند إلى نصوص دينية يعتقد أصحابها أنها مقدَّسة يجب العمل بها بحذافيرها مهما بلغت من صناعة للشّرّ.

إنّ الجرائم التي يقوم بها المسلمون باسم الدّين، هي أيضاً مستندة إلى نصوص دينية، من روايات وردت عن النبي محمّد، ونحن نعرف أنّ الوضع والدسّ قد وقعا في النصوص الحديثيّة. نعم، القرآن الكريم قد أجمع المسلمون على سلامته من التّحريف إلا ما شذّ، ولكنّ البعض يقوم يتأويل الآيات لتتناسب مع أيديولوجيته الشرّيرة باسم الدين، وما نشهده من شرّ على أيدي التكفيريين في عصرنا، لا يقلّ عمّا جرى في صدر الإسلام من الخوارج الّذين كفّروا كلّ المسلمين، وهم من قام بقتل عليّ بن أبي طالب، وقد دخل المسلمون في حروبٍ كانت تحت عناوين دينيّة.

الدّين الحقيقيّ هو ثورة ضدّ الجهل واللا إنسانيّة ودفع الظّلم، وداعٍ للإنسانية والخلاص والسلام، ففي حديثي، لا أقصد التعرض للدّين نفسه، بل للفهم والاستغلال الديني، فالدّين لا يخلق الشرّ، بل النصوص الدينية دون غربلتها ونقدها وتهذيبها وتأويلها بشكلٍ صحيح، تصنع لنا الشرّ، لأنّ الله لا يصدر عنه الشرّ، فالشرّ صناعة بشرية بامتياز، ففي دعاء أبي حمزة الثمالي للإمام زين العابدين(ع : "خيرك إلينا نازل، وشرّنا إليك صاعد، ولم يزل ولا يزال ملك كريم يأتيك عنّا بعمل قبيح، فلا يمنعك من أن تحوطنا بنعمك".

العهد القديم (التّوراة)

تضمّ تسعاً وثلاثين سفراً أو كتاباً، وهي من أعظم الكتب الدينيّة الداعية للشّرّ، تحوي الكثير من النصوص الخطيرة الّتي تصنع إنساناً يحمل في داخله تطرّفاً خطيراً قبال كلّ من يختلف معه في المعتقد، وتؤصّل للعنف والقتل واحتكار الحقيقة، وربما أنّ الكثير من المفكّرين الغربيّين كان نفورهم عن الدّين بسبب هذه النصوص، وقد كتب الكثير من المفكّرين الغربيّين حول هذه النصوص على المستوى النقدي، وأنها لا تتناسب مع صفات الإله الحقيقي. فلنر مثالاً على هذه النصوص من العهد القديم:

§  قتل المخالفين لبني إسرائيل:

ورد في سفر التثنية، الإصحاح الثالث عشر، دعوة صريحة لقتل كل من يخالف بني إسرائيل على مستوى العقيدة، حتى وإن كان نبيّاً، وبالفعل، فإنهم قد قتلوا الكثير من الأنبياء، ودمّروا المدن، وأحرقوا المزارع... وغير ذلك.

"إذا ظهر بينكم نبيّ أو صاحب أحلام، وتنبّأ بوقوع آية أو أعجوبة، فتحققت تلك الآية أو الأعجوبة التي تنبّأ بها، ثم قال: هلمّ نذهب وراء آلهة أخرى لم تعرفوها ونعبدها، فلا تصغوا إلى كلام ذلك النبيّ. أمّا ذلك النبيّ أو الحالم، فإنّه يُقتَل، لأنّه نطق بالبهتان ضدّ الربّ إلهكم الذي أخرجكم من ديار مصر... إن سمعتم عن إحدى مدنكم الّتي يهبها الربّ إلهكم لتسكنوا فيها، وأنّ بعض الفاسقين قد خرجوا من بينكم وضلّلوا سكان مدينتهم قائلين: لنذهب ونعبد آلهة أخرى غريبة عنكم ... فاقضوا قضاءً على سكان تلك المدينة وعلى بهائمهم واقتلوهم بحدّ السيف، واجمعوا كل أمتعتها وكوموها في وسط ساحتها وأحرقوا المدينة مع كل أمتعتها كاملة"[2].

البذور التكفيريّة لم تأت من فراغ، بل من خلال المفهوم الخاطئ للنص الديني تارةً، والوضع والدسّ والكذب تارةً أخرى

إنّ الدّافع وراء القتل والخراب والحرق هو الاختلاف، وبشكلٍ صريح، فمن لا يتّفق معنا، ويدعو إلى عقيدة مخالفة لعقيدتنا، يجب أن نقتله وإن كان نبيّاً. من يمتلك هكذا نصوص ويؤمن بها، فمن الطبيعيّ أن يكون إقصائيّاً، فهذا الربّ يدعوه لارتكاب هكذا شرور وجرائم، لا يمكن لأحد أن يثنيه عنها أبداً، إلا عندما ننقد هذه النّصوص، ونبيّن لهم أنّها تتعارض مع العقل والمنطق وروح السّماحة التي دعا إليها الأنبياء والرسل، وهذا ما نجده في حديث توماس بين، في كتابه "عصر المنطق"، أنّ من الخطأ أن نصف الله بأنّه إله استبدادي. ويقول: إن الناس عموماً لا يعرفون كم هو مقدار الشّرّ الموجود في هذا الكتاب الذي ينسب إلى الله، ويقصد به كتاب العهد القديم، ويذكر قصّة موسى مع المديانيّين كيف طلب موسى ذبح آلاف الأولاد والنساء، ويقرّ باغتصاب آلاف البنات، فيصف هذا الكتاب أنّه كتاب شرّ، وهل هناك كفر أعظم من أن يُنسب شر الإنسان إلى الله؟!.

العهد الجديد

لا يحتوي العهد الجديد قصصاً تدعو إلى العنف كما هو حال العهد القديم، ولكنّ المشكلة أنّ المسيحيّين قد جمعوا كلّ ما هو موجود في العهد القديم بالعهد الجديد، وكان في القرن السّادس الميلادي، وسمِّي بالكتاب المقدَّس، وبالتالي أصبحت نصوص العهد القديم جزءاً من المسيحية، مع أنّ رسالة يسوع المسيح هي رسالة حبّ وسلام، وضدّ العنف والتطرّف وصناعة الشّرّ.

وكذلك نحن أمام نصّ خطير أعتقد أنّه بحاجة إلى تأمّل، في سفر الرؤيا الذي يتحدث عن أعداء المسيح، عندما يأتي مرّة ثانية، ومن حقِّنا أن نتساءل: هل يتوافق هذا النّصّ مع رسالة الحبّ والسّلام الّتي جاء بها يسوع المسيح؟! كيف لنا أن نتصوَّر يسوع المنتقم وليس المحبّ؟! وكيف سينظر المسيحيون إلى الآخرين وهم يعرفون أنّ يسوع سيأتي وينتقم منهم؟! كيف نقرأ هكذا نصّ مقدَّس!؟

يقول سام هاريس في كتابه "رسالة إلى أمّة مسيحيّة": "إذا كنتم تعتقدون أنّ يسوع علّم فقط التعاليم الذهبية عن محبة الجار، فإنكم يجب أن تعيدوا قراءة العهد الجديد مرّة أخرى، مركِّزين على القيم الأخلاقية التي سوف تكون سائدةً عندما يعود يسوع إلى الأرض راكباً سحاب المجد"، ومن ثم يستشهد بهذا النص لتدعيم فكرته، وهو:

"فمن العدل عند الله حقّاً، أن يجازي بالضّيقة أولئك الذين يضايقونكم، وأن يكافئكم، وأنتم الذين تتضايقون، كما يكافئنا نحن بالرّاحة لدى ظهور الربّ يسوع علناً من السَّماء، ومعه ملائكة قدرته، وسط نار ملتهبة، منتقماً إلى التمام من غير العارفين لله، وغير المطيعين لإنجيل ربّنا اليسوع، فهؤلاء سيكابدون عقاب الهلاك الأبديّ، بعيداً من حضرة الرّبّ ومن مجد قوّته"[3].

من يتأمّل في سفر الرّؤيا المدوَّن من قبل يوحنا، يرى أنّ هناك الكثير من الكلمات التي من خلالها يُصنع الشّرّ، وفيه أيضاً العديد من الأحداث المستقبليّة التي ستقع قبل مجيء المسيح الثاني، وربما تكون هذه الأيديولوجية مبرّراً لصناعة الشرّ، وخصوصاً في الشرق الأوسط، فهذه النصوص هي محطّ استغلال السياسة والنفوذ الدّولي، فقيام الدولة الصهيونية واحتلال فلسطين، تجسيد حي لصناعة الشرّ، فهناك من يؤمن بأن مجيء يسوع المسيح لن يكون إلا بعد قيام دولة يهوديّة في فلسطين.

عندما يُنقَل بأنّ يسوع المسيح يقول: "لا تظنّوا أني جئت لأرسي سلاماً على الأرض، ما جئت لأرسي سلاماً، بل سيفاً، فإني جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه، والبنت مع أمّها، والكنة مع حماتها، وهكذا يصير أعداء الإنسان أهل بيته"[4]. ونجد التناقض بين هذا النص ونصوص أخرى توحي بأن المسيح رئيس السّلام، مثل: "المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السّلام، وبالناس المسرّة"[5]، وكذلك ما نراه من خلال الفكر والسلوك المسيحيّ نفسه، فهو يدعو دائماً إلى المحبة والسّلام، ولم نر منه صناعةً للشّرّ. إذاً لا بدّ من وقفة جادّة مع هذه النصوص التي تصنع الشّرّ، وتخلق لنا أشراراً متوحّشين، وموضع استغلال سياسيّ من قبل المتنفّذين السياسيّين.

الإسلام

إن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: من ينطق باسم الإسلام؟ من له الحقّ بتمثيل الإسلام؟! من المسؤول عن الخطاب الدّيني الإسلامي بشكل عامّ؟

لا شكَّ في أنَّ الخطاب الدّيني بتنوّعه واختلاف اتجاهاته ومدارسه، لا يمكن أن نلقي عليه الضّوء بهذه الشمولية في هذا البحث، فهناك السنّة بمذاهبهم المختلفة، والشّيعة بكلّ تفاصيلها، ولو رجعنا للتيارات المتشدّدة في الواقع الإسلامي، لوجدنا أنّ أوّل تيار متشدّد صنع لنا فكراً تكفيريّاً شريراً، هو فكر الخوارج من القرن الأوّل الهجري، فقد حكم هؤلاء على وجوب قتل كلّ من يرتكب الكبيرة، لأنّه أصبح كافراً مشركاً بالله، ويعتبر هذا تطوّراً خطيراً جدّاً، مهّد الأرضيّة لظهور تيارات تكفيريّة كثيرة، وعلى مستوى أزمنة مختلفة.

هذه البذور التكفيريّة لم تأت من فراغ، بل من خلال المفهوم الخاطئ للنص الديني تارةً، ومن الوضع والدسّ والكذب على رسول الله تارةً أخرى، وهو القائل: "ستكثر من بعدي الكذّابة". وحتى أكون منصفاً، سأتعرّض لنصّ من المصادر السنيّة، ونصّ من المصادر الشيعيّة، فكلا المصدرين قد تعرّض للوضع والدسّ، فهي مصادر فيها ما فيها من نصوص خطيرة تصنع الشرّ تجاه الآخرين. نعم، هناك من علماء السنّة، وكذلك الشّيعة، من قام بنقد التراث الرّوائيّ، ولكنّنا لازلنا بحاجةٍ إلى من يمتلك جرأةً أكبر ليستأصل هذه النّصوص الشرّيرة من متون هذه النصوص الدينيّة المقدّسة، لأنّ الفكر الإسلامي يعتمد عليها اعتماداً أصيلاً، ومادامت باقية، فإنّنا سنشهد مصانع تعلّب لنا في كلّ عقل مسلم شراً يهدّد كل المجتمعات.

§  من التراث الرّوائي السني:

جاء في مسند أحمد عن عبدالله بن عمرو بن العاص، في حديثٍ طويل أقوم باختصاره، قال رسول الله(ص): "تسْمعون يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ.‏ فَأَخَذَتِ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ، حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا كَأَنَّمَا عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ...".

هل جاء رسول الله بالذَّبح؟! نعم، إنَّ الّذي روى هذه الرّواية هو عبد الله عن أبيه عمرو بن العاص الأمويّ، المعروف بعدائه لآل بيت رسول الله، والّذي يعتبر من دهاة العرب، ومؤصِّلاً للدولة الأمويّه، والمعاون الأبرز لمعاوية بن أبي سفيان، الذي حارب علي بن أبي طالب في عدة حروب، فمن كتب على جدران دمشق "جئناكم بالذّبح"، هم من أبناء هذه المدرسة التكفيرية التي شرعنت صناعة الشرّ باسم رسول الله محمد بن عبدالله، فهم يرون أنّ الإسلام قائم بالذّبح.

كيف نقبل هذا الحديث ونجد في مقابله آيات الرّحمة؟!: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107]، الذي أرسل رحمةً للعالمين يقوم بالذّبح؟! وهو القائل: "إنما أنا رحمة مهداة"، والقائل: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، عن أيّ أخلاق وإنسانيّة نتحدّث؟! ونحن نأخذ بروايات الذّبح والقتل؟! لا يمكن أن نقبل مثل هذه النصوص الدينيّة المتوحّشة، التي تصنع لنا مفخّخات الشرّ في عقول النّاس أبداً.

§  من التراث الرّوائي الشّيعي:

هناك ارتباط وثيق جداً لدى الشيعة الإمامية بالمهدي المنتظر، فقد كتب عنه الكثيرون عبر قرون عدة، وأنّه سيخرج ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً، بعدما ملئت ظلماً وجوراً، وأن رسالته رسالة محبّة وسلام عالميّة، وسينصر كلّ المستضعفين والمظلومين، ولكن في الوقت نفسه، هناك نصوص تظهر هذا المخلّص المهدي، أنّه نبّاش قبور، سيخرج الخليفتين أبي بكر وعمر ليصلبهما على شجرة، ومن ثمّ يأمر بإحراقهما، ولا أدري هل إن داعش قد اهتدت بهدي هذا المهدي؟! الله أعلم.

أترككم مع بعض هذه النصوص الخطيرة، الّتي تجعل من الممهّدين لهذا الإمام، أناساً يعشقون نبش القبور، وحرق الأجساد، وتكفير الآخر، ولا أخال إلا أنهم يعيشون الوهم والخيال باسم الدّين، فلا بدّ من وقفة نقدية جادّة تفكّك مثل هذه النصوص، مثلما نفكّك الحزام الناسف كي لا ينفجر.

"... ثم يدخل المسجد، فينقض الحائط حتى يضعه إلى الأرض، ثم يُخرج أبا بكر وعمر غضّيْن طريّين، يكلّمهما فيجيبانه، فيرتاب عند ذلك المبطلون، فيقولون: يكلّم الموتى؟! فيقتل منهم خمسمائة مرتاب في جوف المسجد، ثم يحرقهما بالحطب الّذي جمعاه ليحرقا به عليّاً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السّلام، وذلك الحطب عندنا نتوارثه"[6].

"... فيخرجان غضّين طريّين كصورتهما، فيكشف عنهما أكفانهما، ويأمر برفعهما على دوحة يابسة نخرة، فيصلبهما عليها، فتحيا الشّجرة وتورق ويطول فرعها، فيقول المرتابون من أهل ولايتهما: هذا والله الشّرف حقّاً، ولقد فزنا بمحبّتهما وولايتهما، ويخبر من أخفى نفسه ممن في نفسه مقياس حبّة من محبّتهما وولايتهما، فيحضرونهما ويرونهما ويفتنون بهما، وينادي منادي المهدي(ع): كلّ من أحبّ صاحبي رسول الله(ص) وضجيعيه، فلينفرد جانباً، فتتجزأ الخلق جزأين؛ أحدهما موال، والآخر متبرئ منهما.

فيعرض المهدي(ع) على أوليائهما البراءة منهما، فيقولون: يا مهديّ آل رسول الله، نحن لم نتبرّأ منهما، ولسنا نعلم أنّ لهما عند الله وعندك هذه المنزلة، وهذا الّذي بدا لنا من فضلهما، أنتبرّأ السّاعة منهما، وقد رأينا منهما ما رأينا في هذا الوقت، من نضارتهما وغضاضتهما، وحياة الشّجرة بهما؟ بل والله نتبرّأ منك وممن آمن بك ومن لا يؤمن بهما، ومن صلبهما، وأخرجهما، وفعل بهما ما فعل، فيأمر المهديّ ريحاً سوداء، فتهبّ عليهم، فتجعلهم كأعجاز نخل خاوية.

لا بدَّ من غربلة التراث وتنقيته من كلّ الشرور، فالله ورسله لم يأتوا لصناعة الشّرّ، بل هم منابع خير ورحمة

ثم يأمر بإنزالهما، فينزلا إليه، فيحيّيهما بإذن الله تعالى، ويأمر الخلائق بالاجتماع، ثم يقصّ عليهم قصص فعالهما في كلّ كور ودور، حتى يقصّ عليهم قتل هابيل بن آدم(ع)، وجمع النّار لإبراهيم(ع)، وطرح يوسف(ع) في الجبّ، وحبس يونس(ع)في الحوت، وقتل يحيى(ع)، وصلب عيسى(ع)، وعذاب جرجيس ودانيال(ع)، وضرب سلمان الفارسي، وإشعال النار على باب أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين(ع) لإحراقهم بها، وضرب يد الصدّيقة الكبرى فاطمة بالسَّوط، ورفس بطنها وإسقاطها محسناً، وسمّ الحسن(ع)، وقتل الحسين(ع)، وذبح أطفاله وبني عمّه وأنصاره، وسبي ذراري رسول الله(ص)، وإراقة دماء آل محمّد(ص)، وكلّ دم سفك، وكلّ فرج نكح حراماً، وكلّ رين وخبث وفاحشة وإثم وظلم وجور وغشم منذ عهد آدم(ع) إلى وقت قيام قائمنا(ع)، كلّ ذلك يعدّده(ع) عليهما، ويلزمهما إيّاه، فيعترفان به، ثم يأمر بهما، فيقتصّ منهما في ذلك الوقت بمظالم من حضر، ثم يصلبهما على الشّجرة، ويأمر ناراً تخرج من الأرض، فتحرقهما والشجرة، ثم يأمر ريحاً، فتنسفهما في اليمّ نسفاً.

قال المفضّل: يا سيّدي، ذلك آخر عذابهما؟ قال: هيهات يا مفضل! والله ليردنّ وليحضرنّ السيّد الأكبر محمد رسول الله(ص)، والصدّيق الأكبر أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة(ع)، وكلّ من محض الإيمان محضاً، أو محض الكفر محضاً، وليقتصنّ منهما لجميعهم، حتى إنهما ليقتلان في كلّ يوم وليلة ألف قتلة، ويردان إلى ما شاء ربهما"[7].

من حقّنا أن نسأل: إذا كان حساب الخلق للخالق، فلم يوكَل للمخلوق! فهذه الرواية وأمثالها من الروايات، تجعل الله عبارةً عن مشرف ومشاهد لما يدور بين النّاس، وكأنّه قد أوكل مهامَّه إلى فئة معيَّنة من البشر، بيدهم الجنَّة والنّار، فمن يؤمن بهذا المستوى من العقيدة، فسيتحرَّك تجاه الآخر بعدائيّة، وأنّه المصطفى من الخلق أجمعين، وغيره عليه أن يسير خلفه ويعتقد بمعتقداته.

إنّ شخص الإمام، أيّ إمام من أئمّة أهل البيت(ع)، يعتبر قدوةً وأسوةً لمن يعتقد بمقامهم الرّفيع وبعصمتهم وإمامتهم، فإذا كانت هذه القدوة والأسوة تنبش القبور وتحرق الأجساد وتقتل بالنّوايا، فمن الطبيعيّ أنّنا ربما نجد أنّ هناك من سيقوم بهذا الفعل متى سنحت له الفرصة، فهناك الكثير من الشّيعة من يصدح باللّعن والسبّ والشّتم وما شابه ذلك لرموز الآخرين، وهم يستندون إلى روايات موجودة تحثّ على السبّ واللّعن في التراث الروائي الشيعي..

لذا، لا بدَّ من غربلة هذا التراث وتنقيته من كلّ هذه الشرور، فالله ورسله لم يأتوا لصناعة الشّرّ، بل هم منابع خير ورحمة، فعن النبيّ محمد(ص) أنّه قال: "إني لم أبعث لعّاناً، ولكني بعثت داعياً ورحمة".

إنَّ الآراء الواردة في هذه الدّراسة، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها. 


[1] الديري، علي،  نصوص متوحشة، أوال للنشر والتوثيق، ص23.

[2] راجع:  التثنية، 1:13_18.

[3] راجع: الرسالة الثانية إلى مؤمني تسالونيكي: 1: 6 -10 .

[4] راجع:  متى 10 : 34_36 .

[5] لوقا، 14: 2 .

[6] دلائل الإمامة للطبري الإمامي، ص455.

[7] الهداية الكبرى للخصيبي، ص400، ومختصر بصائر الدرجات للشيخ حسن بن سليمان الحلي، ص189، وبحار الأنوار للعلامة المجلسي، ج53 ص12

 المقدّمة

لا نستطيع أن نعيش خارج إطار الأحداث التي نراها في كل يوم، بل لا بد من أن نعيش في عمقها، لنعرف ما يدور حولنا بكل وضوح. والإنسان بطبيعته يبحث عن إجابات لكلّ ما يراوده من استفهامات من هنا وهناك، ومن أكبر نقاط الاستفهام في واقعنا المعاصر، كيف يكون الإنسان قاتلاً، رغم ارتباطه بالدين، ووجود الإيمان وممارسته الطقوس والشعائر الدينية باستمرار؟!، لماذا كلّ هذا العنف؟! هل الله يدعو إلى العنف وصناعة الشرّ؟! وما طبيعة هذه النصوص التي يتّكئ عليها هؤلاء الإقصائيون؟! بالرغم من التقدم العلمي، ولكننا نشهد تخلفاً على المستوى العقدي الّذي يصنع القنابل والمفخّخات والأحزمة الناسفة، هل هذه النصوص موجودة في كلّ الديانات؛ الإسلامية والمسيحية واليهودية، أم أنها موجودة فقط في الدين الإسلامي؟!

من هذا المنطلق، سأحاول أن أبحث عن مصدرية الشر، وأين يوجد، وهل هذه النصوص هي نصوص تمثل الله!؟ وماذا يترتب على المستوى الفكري والانتمائي على هذه الظاهرة في المجتمعات بشكل عام.

تمهيد

تقول كاترين أرمسترونج في كتابها "مسعى البشريّة الأزلي": "وربما كانت توجد مدن في التاريخ بلا أسوار، بلا جيوش، بلا مصانع، لكن لم توجد مدينة بلا معبد". إن الإنسان على مر العصور، وبغض النظر عن ديانته وانتمائه وصحة معتقده، هو إنسان يملك في وجدانه مساحة غيبية مقدسة مرتبطة بإله، لأن وجود قوة غيبية تدير كل ما حوله نابعة من الفطرة، لذلك فالإنسان ربما يكون أسيراً للنص الديني، عندما يجمد عقله ولا يميز بين الخير والشر، ويرى أنّ كلّ ما يصدر عنه حسن عندما يكون مرتبطا بهذه النصوص، فالعقل البشري يميز بين الخير والشر، ولكن هناك من لا يرى أن النصوص الدينية قابلة للميزان العقلي، وبحاجة إلى عملية الغربلة والتنقيح، وممكن ردها عندما تخالف الواقع والعقل، فيخلق الكثير من المبررات، ويلوي عنق النص الديني حتى يخرجه من دائرة النقد، لأنّ الانسان لا يرتكب الشرور بكلّ اعتزاز وراحة وفخر، إلا عندما يكون مصدرها النصّ الديني، ومن هذا المنطلق، كان بحثي حول النص الديني وصناعة الشّرّ.

سأقوم بالتعرض لبعض النصوص الدينية المرتبطة بالديانات الثلاث؛ الإسلامية والمسيحية واليهودية، وأعتقد أنها ربما تكون مصدراً من مصادر صناعة الشر، لأن الشر لم يكن وليد اللحظة، بل كان ولا يزال موجوداً منذ مئات السنين، وله ألوان وأشكال مختلفة، حسب ما تقتضيه الحالات والظروف، وأتمنى أن أوفق في عرضها وتحليلها ومخرجاتها، على أمل أن يكون ذلك باكورة عمل أوسع في هذا المجال.

ما هو النص الديني؟!

إن المقصود بالنص الديني هنا، هو النص المرتبط بالدّين على المستوى الإيماني والعقدي× التوراة بالنّسبة إلى اليهود، والإنجيل بالنّسبة إلى المسيحيين، والقرآن الكريم والسنّة النبويّة بالنسبة إلى المسلمين، وهي نصوص يرجعون إليها في مسائلهم المرتبطة بعقيدتهم وسلوكهم وإيمانهم، وهذه النصوص لها إطارها المقدَّس في نفوسهم.

احتكار الحقيقة

يمثّل احتكار الحقيقة ونزعها من الآخر بشكل يقيني ومتشدّد، صناعةً للشّرّ وإلغاءً لكلّ قنوات التعايش المشترك، وهذا المعتقد موجود في كل الديانات والمذاهب، وكأنّ الجنة بيدنا ندخل من نشاء ونخرج من نشاء منها. قيل لعليّ بن الحسين(ع): "إنّ الحسن البصريّ قال: ليس العجب ممن هلك كيف هلك، وإنما العجب ممن نجا كيف نجا!"، فقال(ع): "أنا أقول: ليس العجب ممن نجا كيف نجا، وإنما العجب ممن هلك كيف هلك مع سعة رحمة الله". وقد أشار القرآن الكريم إلى دعوى اليهود والنصارى لذلك، بقوله تعالى: }وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى{. يقول أحد الدعاة المسيحيّين: "إن نسبة الناجين يوم القيامة لا تتجاوز الواحد من كلّ مائة ألف شخص، أي عشرة على مليون، أمّا البقية، فمصيرهم إلى النار وبئس المصير". ما يقوله هذا الداعية المسيحي يقوله دعاة من اليهودية ودعاة من المسلمين، ومن ديانات وطوائف أخرى أيضاً.

إن اتهام الآخرين بالانحراف والضلال، وإقصاء كل من لا يؤمن بما نؤمن به، بل بوجوب مقاتلته، هو بحدّ ذاته صناعة خطيرة لا يمكن لأيّ معتقد بها أن يعيش المحبة والسلام مع الآخرين. والأخطر من ذلك، عندما نؤمن بنصوص تقول بأنّنا عندما لا نستبيح دم من لا يؤمن بما نؤمن به سيحلّ علينا غضب الربّ!، وكأنّ الربّ يدعو إلى الشر وقتل الآخرين، أليس ذلك صناعة للشّرّ باسم الربّ؟! إذاً لا توجد رحمة عند هذا الربّ، وكأنّ الشرّ هو منطلق من منطلقات الإيمان في العالم، فلا توجد أي مساحة عذر من الممكن أن يحملها الإقصائيّون تجاه الآخر، بل يسعى هؤلاء لإقصائهم وقتلهم، وكأنهم هم الذين يملكون حقّ البقاء والرحيل.

إن كان الله هو خالق العقل وبه سيحاكمنا، فإنّ العقل يرى صنفين من البشر معذورين أمام الله، هما : الجاهل القاصر، والمجتهد المخلص، فلماذا لا تكون لدينا ثقافة العذر تجاه الآخر، وإن كنا نعتقد أن ما نؤمن به هو الحقيقة، ولكن مع الأسف، فإن هؤلاء قد جمّدوا عقولهم، وغرقوا في وحل النصوص الدينية، دون أن يميزوا بين الصحيح منها وغير الصّحيح، بل نجد هؤلاء يتشبثون بالنصوص الضعيفة والموضوعة، حتى تتواءم مع الأيديولوجية المتبعة لديهم.

ماذا ينتج احتكار الحقيقة؟

·التطرف: بمعنى التواجد على الطّرف، وليس في عمق الشيء، والابتعاد عن الاعتدال، وهذا ينتج لنا أشخاصاً يمتهنون الشرور في تعاملهم مع الآخرين، لأنهم لم يفهموا حقيقة الإيمان في عمقه، بل اكتفوا بالتواجد في أطراف الحقيقة.

·التعصب: هو الذي لا يقبل أيّ رأي آخر، ويجمد فيما يراه هو حقيقة، وهو يعتبر جريمةً للعقل، لأنّ العصبيّة تعني إغلاقاً للعقل، فهو يحتكر الحقيقة لنفسه، وأنّ غيره لا يملك الحقيقة، فالمتعصّب لا يستند إلى منطق، بل إلى انفعالات عاطفية لما يعتقد به، وهذا بطبيعة الحال ينتج لنا شراً على مستوى الفكر والانتماء.

·الوصاية: هو من يرى أنّ الدّين قد جعله وصيّاً على البشر، فيطلب منهم الانتماء إلى ما ينتمي إليه، ويستخدم العنف تجاه كلّ من يرفض ذلك، وهذا ما نجده على مستوى التّأصيل الديني الإقصائي التكفيري.

·العنف: هو الإكراه بالقوّة، أن تستجيب له مكرهاً حتى وإن كنت لا تؤمن بما يؤمن به، أنت لا تملك إرادتك أمامه، بل ما عليك سوى الخضوع المطلق لما يدعو إليه، هو فنّ بناء الكراهية ومصنع للشرّ.

إنّ من يتّصف بالتطرّف والتعصب والوصاية والعنف لا ينتج إلا شراً، حتى مع من ينتمي معه في إطار الدين الواحد، بل حتى على مستوى الأسرة والعائلة، فتجده كونه يؤمن بالوصاية، يستعمل العنف مع الأبناء والزوجة، على حساب الرّحمة والمحبّة والتّسامح. وإذا كان على مستوى الأمور البسيطة هكذا، فكيف على مستوى الدّفاع عن معتقداته الدينيّة؟! وعندما تسيّره النصوص الدينيّة، فمن الطبيعي ستكون مخرجات هذا النص الدّيني الذي يملك في عمقه الشّرّ، فإنّه سينتج لنا إنساناً يتقن فنّ الشّرّ، فبالتالي، سنجد الكثير من الناس يرى أنّ من صفات الله أنّه العنيف والشرّير والإقصائي، وليس الرحمن الرحيم الغفور المحبّ السلام، وهذا ما أنتج لنا حالة إلحادية لا تعترف بدين سماوي، لماذا؟ لأن من يصنع الشر يتحدّث باسم الله، وهذا من أخطر أنواع الانحراف الفكري والعقيدي.

الدين لا يخلق الشّرّ، بل النصوص الدينية دون غربلتها ونقدها وتهذيبها وتأويلها تصنع لنا الشّرّ

ولنكن منصفين أكثر، هناك دوافع أخرى تدخل في صناعة الشّرّ، كالأنظمة السياسية المستبدة، فهناك استغلال للدين، لأنهم يعرفون أنّ طريق الإيمان والعقيدة هو الأسرع في تخدير العقول، فهناك حركات لا تؤمن بالدّين تجعل لها دعاة دينيّين يؤصّلون لهم ظلمهم واستبدادهم. يقول تيموثي كيلر: "في القرن العشرين، أصبح العنف يثار من قبل العلمانية بنفس القدر الذي تثيره الأحكام المطلقة الأخلاقيّة - الدين - . المجتمعات التي حرّرت نفسها من كل دين، أصبحت مجتمعات ظالمة مثلها مثل المجتمعات التي بقيت متمسّكة بالدين"، حتى على مستوى الفكر العلماني هناك صناعة للشر.

ونجد كيف دعّم ابن تيميّة بفتاواه المصنّعة للشرّ، السلطان الناصر بن قلاوون والمغول في العام 1303م، وكان بدافع قتال الشّيعة في جبال كسروان لبنان، باعتبارهم كفّاراً مرتدّين عن الاسلام[1].

فالدّين ربما يُستغل في السياسة، وتأصيل النصوص الدينية لصناعة الشرّ في العالم، وهذا ما جعل النصوص الدينية موضعاً للوضع والتّدليس، وذلك بما يتناسب مع الأهواء والمطامع السياسية من قبل السلطات الحاكمة.

وقفة مع النصوص الدينيّة

سأعتمد على نصٍّ واحدٍ من كلّ من النصوص الدينية الإسلامية والمسيحية واليهودية، هذه النصوص الدينية تحوي الكثير من النصوص الداعية إلى السّلام والمحبّة والتّسامح، ولكنّها في الوقت نفسه، تحتوي نصوصاً متوحّشة وصانعة للشرّ والعنف والتطرّف! إذاً هناك خلل، لا يمكن للنصوص أن تعارض بعضها البعض، وخصوصاً أنها نصوص مقدَّسة مرتبطة بالله عزّ وجلّ، ونجد أهل السّلم والمحبّة يرجعون إلى النصوص الداعية إلى السلام والمحبة، وآخرين من أهل الشّرّ والتوحّش يرجعون إلى نصوص الشر والتوحش! لا بدّ من نقد جادّ يخرجنا من هذه الأزمة النصوصية المتناقضة، وخصوصاً أنّ الشّرّ أصبح يأخذ طريقه بشكل قويّ من خلال هذه النصوص التي تصنع الشّرّ على مستوى العالم.

وهذا ما دفع ستيف ويلس إلى تأليف "سكران الدم.. جرائم الربّ في الكتاب المقدَّس"، الصادر العام 2010م، يستعرض فيه الكاتب أكثر من مئة وعشرين جريمة باسم الرّبّ وردت في العهد القديم، وقام بإحصائيّة لعدد الذين قتلوا بلغ عددهم ما يقارب المليونين والنّصف مليون قتيل، هذا الإجرام المقدَّس استند إلى نصوص دينية يعتقد أصحابها أنها مقدَّسة يجب العمل بها بحذافيرها مهما بلغت من صناعة للشّرّ.

إنّ الجرائم التي يقوم بها المسلمون باسم الدّين، هي أيضاً مستندة إلى نصوص دينية، من روايات وردت عن النبي محمّد، ونحن نعرف أنّ الوضع والدسّ قد وقعا في النصوص الحديثيّة. نعم، القرآن الكريم قد أجمع المسلمون على سلامته من التّحريف إلا ما شذّ، ولكنّ البعض يقوم يتأويل الآيات لتتناسب مع أيديولوجيته الشرّيرة باسم الدين، وما نشهده من شرّ على أيدي التكفيريين في عصرنا، لا يقلّ عمّا جرى في صدر الإسلام من الخوارج الّذين كفّروا كلّ المسلمين، وهم من قام بقتل عليّ بن أبي طالب، وقد دخل المسلمون في حروبٍ كانت تحت عناوين دينيّة.

الدّين الحقيقيّ هو ثورة ضدّ الجهل واللا إنسانيّة ودفع الظّلم، وداعٍ للإنسانية والخلاص والسلام، ففي حديثي، لا أقصد التعرض للدّين نفسه، بل للفهم والاستغلال الديني، فالدّين لا يخلق الشرّ، بل النصوص الدينية دون غربلتها ونقدها وتهذيبها وتأويلها بشكلٍ صحيح، تصنع لنا الشرّ، لأنّ الله لا يصدر عنه الشرّ، فالشرّ صناعة بشرية بامتياز، ففي دعاء أبي حمزة الثمالي للإمام زين العابدين(ع : "خيرك إلينا نازل، وشرّنا إليك صاعد، ولم يزل ولا يزال ملك كريم يأتيك عنّا بعمل قبيح، فلا يمنعك من أن تحوطنا بنعمك".

العهد القديم (التّوراة)

تضمّ تسعاً وثلاثين سفراً أو كتاباً، وهي من أعظم الكتب الدينيّة الداعية للشّرّ، تحوي الكثير من النصوص الخطيرة الّتي تصنع إنساناً يحمل في داخله تطرّفاً خطيراً قبال كلّ من يختلف معه في المعتقد، وتؤصّل للعنف والقتل واحتكار الحقيقة، وربما أنّ الكثير من المفكّرين الغربيّين كان نفورهم عن الدّين بسبب هذه النصوص، وقد كتب الكثير من المفكّرين الغربيّين حول هذه النصوص على المستوى النقدي، وأنها لا تتناسب مع صفات الإله الحقيقي. فلنر مثالاً على هذه النصوص من العهد القديم:

§  قتل المخالفين لبني إسرائيل:

ورد في سفر التثنية، الإصحاح الثالث عشر، دعوة صريحة لقتل كل من يخالف بني إسرائيل على مستوى العقيدة، حتى وإن كان نبيّاً، وبالفعل، فإنهم قد قتلوا الكثير من الأنبياء، ودمّروا المدن، وأحرقوا المزارع... وغير ذلك.

"إذا ظهر بينكم نبيّ أو صاحب أحلام، وتنبّأ بوقوع آية أو أعجوبة، فتحققت تلك الآية أو الأعجوبة التي تنبّأ بها، ثم قال: هلمّ نذهب وراء آلهة أخرى لم تعرفوها ونعبدها، فلا تصغوا إلى كلام ذلك النبيّ. أمّا ذلك النبيّ أو الحالم، فإنّه يُقتَل، لأنّه نطق بالبهتان ضدّ الربّ إلهكم الذي أخرجكم من ديار مصر... إن سمعتم عن إحدى مدنكم الّتي يهبها الربّ إلهكم لتسكنوا فيها، وأنّ بعض الفاسقين قد خرجوا من بينكم وضلّلوا سكان مدينتهم قائلين: لنذهب ونعبد آلهة أخرى غريبة عنكم ... فاقضوا قضاءً على سكان تلك المدينة وعلى بهائمهم واقتلوهم بحدّ السيف، واجمعوا كل أمتعتها وكوموها في وسط ساحتها وأحرقوا المدينة مع كل أمتعتها كاملة"[2].

البذور التكفيريّة لم تأت من فراغ، بل من خلال المفهوم الخاطئ للنص الديني تارةً، والوضع والدسّ والكذب تارةً أخرى

إنّ الدّافع وراء القتل والخراب والحرق هو الاختلاف، وبشكلٍ صريح، فمن لا يتّفق معنا، ويدعو إلى عقيدة مخالفة لعقيدتنا، يجب أن نقتله وإن كان نبيّاً. من يمتلك هكذا نصوص ويؤمن بها، فمن الطبيعيّ أن يكون إقصائيّاً، فهذا الربّ يدعوه لارتكاب هكذا شرور وجرائم، لا يمكن لأحد أن يثنيه عنها أبداً، إلا عندما ننقد هذه النّصوص، ونبيّن لهم أنّها تتعارض مع العقل والمنطق وروح السّماحة التي دعا إليها الأنبياء والرسل، وهذا ما نجده في حديث توماس بين، في كتابه "عصر المنطق"، أنّ من الخطأ أن نصف الله بأنّه إله استبدادي. ويقول: إن الناس عموماً لا يعرفون كم هو مقدار الشّرّ الموجود في هذا الكتاب الذي ينسب إلى الله، ويقصد به كتاب العهد القديم، ويذكر قصّة موسى مع المديانيّين كيف طلب موسى ذبح آلاف الأولاد والنساء، ويقرّ باغتصاب آلاف البنات، فيصف هذا الكتاب أنّه كتاب شرّ، وهل هناك كفر أعظم من أن يُنسب شر الإنسان إلى الله؟!.

العهد الجديد

لا يحتوي العهد الجديد قصصاً تدعو إلى العنف كما هو حال العهد القديم، ولكنّ المشكلة أنّ المسيحيّين قد جمعوا كلّ ما هو موجود في العهد القديم بالعهد الجديد، وكان في القرن السّادس الميلادي، وسمِّي بالكتاب المقدَّس، وبالتالي أصبحت نصوص العهد القديم جزءاً من المسيحية، مع أنّ رسالة يسوع المسيح هي رسالة حبّ وسلام، وضدّ العنف والتطرّف وصناعة الشّرّ.

وكذلك نحن أمام نصّ خطير أعتقد أنّه بحاجة إلى تأمّل، في سفر الرؤيا الذي يتحدث عن أعداء المسيح، عندما يأتي مرّة ثانية، ومن حقِّنا أن نتساءل: هل يتوافق هذا النّصّ مع رسالة الحبّ والسّلام الّتي جاء بها يسوع المسيح؟! كيف لنا أن نتصوَّر يسوع المنتقم وليس المحبّ؟! وكيف سينظر المسيحيون إلى الآخرين وهم يعرفون أنّ يسوع سيأتي وينتقم منهم؟! كيف نقرأ هكذا نصّ مقدَّس!؟

يقول سام هاريس في كتابه "رسالة إلى أمّة مسيحيّة": "إذا كنتم تعتقدون أنّ يسوع علّم فقط التعاليم الذهبية عن محبة الجار، فإنكم يجب أن تعيدوا قراءة العهد الجديد مرّة أخرى، مركِّزين على القيم الأخلاقية التي سوف تكون سائدةً عندما يعود يسوع إلى الأرض راكباً سحاب المجد"، ومن ثم يستشهد بهذا النص لتدعيم فكرته، وهو:

"فمن العدل عند الله حقّاً، أن يجازي بالضّيقة أولئك الذين يضايقونكم، وأن يكافئكم، وأنتم الذين تتضايقون، كما يكافئنا نحن بالرّاحة لدى ظهور الربّ يسوع علناً من السَّماء، ومعه ملائكة قدرته، وسط نار ملتهبة، منتقماً إلى التمام من غير العارفين لله، وغير المطيعين لإنجيل ربّنا اليسوع، فهؤلاء سيكابدون عقاب الهلاك الأبديّ، بعيداً من حضرة الرّبّ ومن مجد قوّته"[3].

من يتأمّل في سفر الرّؤيا المدوَّن من قبل يوحنا، يرى أنّ هناك الكثير من الكلمات التي من خلالها يُصنع الشّرّ، وفيه أيضاً العديد من الأحداث المستقبليّة التي ستقع قبل مجيء المسيح الثاني، وربما تكون هذه الأيديولوجية مبرّراً لصناعة الشرّ، وخصوصاً في الشرق الأوسط، فهذه النصوص هي محطّ استغلال السياسة والنفوذ الدّولي، فقيام الدولة الصهيونية واحتلال فلسطين، تجسيد حي لصناعة الشرّ، فهناك من يؤمن بأن مجيء يسوع المسيح لن يكون إلا بعد قيام دولة يهوديّة في فلسطين.

عندما يُنقَل بأنّ يسوع المسيح يقول: "لا تظنّوا أني جئت لأرسي سلاماً على الأرض، ما جئت لأرسي سلاماً، بل سيفاً، فإني جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه، والبنت مع أمّها، والكنة مع حماتها، وهكذا يصير أعداء الإنسان أهل بيته"[4]. ونجد التناقض بين هذا النص ونصوص أخرى توحي بأن المسيح رئيس السّلام، مثل: "المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السّلام، وبالناس المسرّة"[5]، وكذلك ما نراه من خلال الفكر والسلوك المسيحيّ نفسه، فهو يدعو دائماً إلى المحبة والسّلام، ولم نر منه صناعةً للشّرّ. إذاً لا بدّ من وقفة جادّة مع هذه النصوص التي تصنع الشّرّ، وتخلق لنا أشراراً متوحّشين، وموضع استغلال سياسيّ من قبل المتنفّذين السياسيّين.

الإسلام

إن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: من ينطق باسم الإسلام؟ من له الحقّ بتمثيل الإسلام؟! من المسؤول عن الخطاب الدّيني الإسلامي بشكل عامّ؟

لا شكَّ في أنَّ الخطاب الدّيني بتنوّعه واختلاف اتجاهاته ومدارسه، لا يمكن أن نلقي عليه الضّوء بهذه الشمولية في هذا البحث، فهناك السنّة بمذاهبهم المختلفة، والشّيعة بكلّ تفاصيلها، ولو رجعنا للتيارات المتشدّدة في الواقع الإسلامي، لوجدنا أنّ أوّل تيار متشدّد صنع لنا فكراً تكفيريّاً شريراً، هو فكر الخوارج من القرن الأوّل الهجري، فقد حكم هؤلاء على وجوب قتل كلّ من يرتكب الكبيرة، لأنّه أصبح كافراً مشركاً بالله، ويعتبر هذا تطوّراً خطيراً جدّاً، مهّد الأرضيّة لظهور تيارات تكفيريّة كثيرة، وعلى مستوى أزمنة مختلفة.

هذه البذور التكفيريّة لم تأت من فراغ، بل من خلال المفهوم الخاطئ للنص الديني تارةً، ومن الوضع والدسّ والكذب على رسول الله تارةً أخرى، وهو القائل: "ستكثر من بعدي الكذّابة". وحتى أكون منصفاً، سأتعرّض لنصّ من المصادر السنيّة، ونصّ من المصادر الشيعيّة، فكلا المصدرين قد تعرّض للوضع والدسّ، فهي مصادر فيها ما فيها من نصوص خطيرة تصنع الشرّ تجاه الآخرين. نعم، هناك من علماء السنّة، وكذلك الشّيعة، من قام بنقد التراث الرّوائيّ، ولكنّنا لازلنا بحاجةٍ إلى من يمتلك جرأةً أكبر ليستأصل هذه النّصوص الشرّيرة من متون هذه النصوص الدينيّة المقدّسة، لأنّ الفكر الإسلامي يعتمد عليها اعتماداً أصيلاً، ومادامت باقية، فإنّنا سنشهد مصانع تعلّب لنا في كلّ عقل مسلم شراً يهدّد كل المجتمعات.

§  من التراث الرّوائي السني:

جاء في مسند أحمد عن عبدالله بن عمرو بن العاص، في حديثٍ طويل أقوم باختصاره، قال رسول الله(ص): "تسْمعون يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ.‏ فَأَخَذَتِ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ، حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا كَأَنَّمَا عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ...".

هل جاء رسول الله بالذَّبح؟! نعم، إنَّ الّذي روى هذه الرّواية هو عبد الله عن أبيه عمرو بن العاص الأمويّ، المعروف بعدائه لآل بيت رسول الله، والّذي يعتبر من دهاة العرب، ومؤصِّلاً للدولة الأمويّه، والمعاون الأبرز لمعاوية بن أبي سفيان، الذي حارب علي بن أبي طالب في عدة حروب، فمن كتب على جدران دمشق "جئناكم بالذّبح"، هم من أبناء هذه المدرسة التكفيرية التي شرعنت صناعة الشرّ باسم رسول الله محمد بن عبدالله، فهم يرون أنّ الإسلام قائم بالذّبح.

كيف نقبل هذا الحديث ونجد في مقابله آيات الرّحمة؟!: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107]، الذي أرسل رحمةً للعالمين يقوم بالذّبح؟! وهو القائل: "إنما أنا رحمة مهداة"، والقائل: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، عن أيّ أخلاق وإنسانيّة نتحدّث؟! ونحن نأخذ بروايات الذّبح والقتل؟! لا يمكن أن نقبل مثل هذه النصوص الدينيّة المتوحّشة، التي تصنع لنا مفخّخات الشرّ في عقول النّاس أبداً.

§  من التراث الرّوائي الشّيعي:

هناك ارتباط وثيق جداً لدى الشيعة الإمامية بالمهدي المنتظر، فقد كتب عنه الكثيرون عبر قرون عدة، وأنّه سيخرج ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً، بعدما ملئت ظلماً وجوراً، وأن رسالته رسالة محبّة وسلام عالميّة، وسينصر كلّ المستضعفين والمظلومين، ولكن في الوقت نفسه، هناك نصوص تظهر هذا المخلّص المهدي، أنّه نبّاش قبور، سيخرج الخليفتين أبي بكر وعمر ليصلبهما على شجرة، ومن ثمّ يأمر بإحراقهما، ولا أدري هل إن داعش قد اهتدت بهدي هذا المهدي؟! الله أعلم.

أترككم مع بعض هذه النصوص الخطيرة، الّتي تجعل من الممهّدين لهذا الإمام، أناساً يعشقون نبش القبور، وحرق الأجساد، وتكفير الآخر، ولا أخال إلا أنهم يعيشون الوهم والخيال باسم الدّين، فلا بدّ من وقفة نقدية جادّة تفكّك مثل هذه النصوص، مثلما نفكّك الحزام الناسف كي لا ينفجر.

"... ثم يدخل المسجد، فينقض الحائط حتى يضعه إلى الأرض، ثم يُخرج أبا بكر وعمر غضّيْن طريّين، يكلّمهما فيجيبانه، فيرتاب عند ذلك المبطلون، فيقولون: يكلّم الموتى؟! فيقتل منهم خمسمائة مرتاب في جوف المسجد، ثم يحرقهما بالحطب الّذي جمعاه ليحرقا به عليّاً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السّلام، وذلك الحطب عندنا نتوارثه"[6].

"... فيخرجان غضّين طريّين كصورتهما، فيكشف عنهما أكفانهما، ويأمر برفعهما على دوحة يابسة نخرة، فيصلبهما عليها، فتحيا الشّجرة وتورق ويطول فرعها، فيقول المرتابون من أهل ولايتهما: هذا والله الشّرف حقّاً، ولقد فزنا بمحبّتهما وولايتهما، ويخبر من أخفى نفسه ممن في نفسه مقياس حبّة من محبّتهما وولايتهما، فيحضرونهما ويرونهما ويفتنون بهما، وينادي منادي المهدي(ع): كلّ من أحبّ صاحبي رسول الله(ص) وضجيعيه، فلينفرد جانباً، فتتجزأ الخلق جزأين؛ أحدهما موال، والآخر متبرئ منهما.

فيعرض المهدي(ع) على أوليائهما البراءة منهما، فيقولون: يا مهديّ آل رسول الله، نحن لم نتبرّأ منهما، ولسنا نعلم أنّ لهما عند الله وعندك هذه المنزلة، وهذا الّذي بدا لنا من فضلهما، أنتبرّأ السّاعة منهما، وقد رأينا منهما ما رأينا في هذا الوقت، من نضارتهما وغضاضتهما، وحياة الشّجرة بهما؟ بل والله نتبرّأ منك وممن آمن بك ومن لا يؤمن بهما، ومن صلبهما، وأخرجهما، وفعل بهما ما فعل، فيأمر المهديّ ريحاً سوداء، فتهبّ عليهم، فتجعلهم كأعجاز نخل خاوية.

لا بدَّ من غربلة التراث وتنقيته من كلّ الشرور، فالله ورسله لم يأتوا لصناعة الشّرّ، بل هم منابع خير ورحمة

ثم يأمر بإنزالهما، فينزلا إليه، فيحيّيهما بإذن الله تعالى، ويأمر الخلائق بالاجتماع، ثم يقصّ عليهم قصص فعالهما في كلّ كور ودور، حتى يقصّ عليهم قتل هابيل بن آدم(ع)، وجمع النّار لإبراهيم(ع)، وطرح يوسف(ع) في الجبّ، وحبس يونس(ع)في الحوت، وقتل يحيى(ع)، وصلب عيسى(ع)، وعذاب جرجيس ودانيال(ع)، وضرب سلمان الفارسي، وإشعال النار على باب أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين(ع) لإحراقهم بها، وضرب يد الصدّيقة الكبرى فاطمة بالسَّوط، ورفس بطنها وإسقاطها محسناً، وسمّ الحسن(ع)، وقتل الحسين(ع)، وذبح أطفاله وبني عمّه وأنصاره، وسبي ذراري رسول الله(ص)، وإراقة دماء آل محمّد(ص)، وكلّ دم سفك، وكلّ فرج نكح حراماً، وكلّ رين وخبث وفاحشة وإثم وظلم وجور وغشم منذ عهد آدم(ع) إلى وقت قيام قائمنا(ع)، كلّ ذلك يعدّده(ع) عليهما، ويلزمهما إيّاه، فيعترفان به، ثم يأمر بهما، فيقتصّ منهما في ذلك الوقت بمظالم من حضر، ثم يصلبهما على الشّجرة، ويأمر ناراً تخرج من الأرض، فتحرقهما والشجرة، ثم يأمر ريحاً، فتنسفهما في اليمّ نسفاً.

قال المفضّل: يا سيّدي، ذلك آخر عذابهما؟ قال: هيهات يا مفضل! والله ليردنّ وليحضرنّ السيّد الأكبر محمد رسول الله(ص)، والصدّيق الأكبر أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة(ع)، وكلّ من محض الإيمان محضاً، أو محض الكفر محضاً، وليقتصنّ منهما لجميعهم، حتى إنهما ليقتلان في كلّ يوم وليلة ألف قتلة، ويردان إلى ما شاء ربهما"[7].

من حقّنا أن نسأل: إذا كان حساب الخلق للخالق، فلم يوكَل للمخلوق! فهذه الرواية وأمثالها من الروايات، تجعل الله عبارةً عن مشرف ومشاهد لما يدور بين النّاس، وكأنّه قد أوكل مهامَّه إلى فئة معيَّنة من البشر، بيدهم الجنَّة والنّار، فمن يؤمن بهذا المستوى من العقيدة، فسيتحرَّك تجاه الآخر بعدائيّة، وأنّه المصطفى من الخلق أجمعين، وغيره عليه أن يسير خلفه ويعتقد بمعتقداته.

إنّ شخص الإمام، أيّ إمام من أئمّة أهل البيت(ع)، يعتبر قدوةً وأسوةً لمن يعتقد بمقامهم الرّفيع وبعصمتهم وإمامتهم، فإذا كانت هذه القدوة والأسوة تنبش القبور وتحرق الأجساد وتقتل بالنّوايا، فمن الطبيعيّ أنّنا ربما نجد أنّ هناك من سيقوم بهذا الفعل متى سنحت له الفرصة، فهناك الكثير من الشّيعة من يصدح باللّعن والسبّ والشّتم وما شابه ذلك لرموز الآخرين، وهم يستندون إلى روايات موجودة تحثّ على السبّ واللّعن في التراث الروائي الشيعي..

لذا، لا بدَّ من غربلة هذا التراث وتنقيته من كلّ هذه الشرور، فالله ورسله لم يأتوا لصناعة الشّرّ، بل هم منابع خير ورحمة، فعن النبيّ محمد(ص) أنّه قال: "إني لم أبعث لعّاناً، ولكني بعثت داعياً ورحمة".

إنَّ الآراء الواردة في هذه الدّراسة، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها. 


[1] الديري، علي،  نصوص متوحشة، أوال للنشر والتوثيق، ص23.

[2] راجع:  التثنية، 1:13_18.

[3] راجع: الرسالة الثانية إلى مؤمني تسالونيكي: 1: 6 -10 .

[4] راجع:  متى 10 : 34_36 .

[5] لوقا، 14: 2 .

[6] دلائل الإمامة للطبري الإمامي، ص455.

[7] الهداية الكبرى للخصيبي، ص400، ومختصر بصائر الدرجات للشيخ حسن بن سليمان الحلي، ص189، وبحار الأنوار للعلامة المجلسي، ج53 ص12

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية