سورة الزّلزلة هي من السور المدنيَّة، وآياتها ثمانية، تحاول إثارة شعور الإنسان ووجدانه تجاه أمر الآخرة وأهوالها، وما يسبق يوم القيامة من مشاهد تهزّ المشاعر، وتدعو في كلّ جوانبها، كلّ ذي لبّ، إلى أن يعيد محاسبة ذاته، والنّظر في أوضاعه، كي يعيد ترتيبها قبل فوات الأوان، عبر العمل الصّالح والنافع للإنسان والحياة، بما يجذّر هويّته، ويبرز أصالة وجوده ودوره. فالعمل هو القيمة والميزان عند الله تعالى، لا المواقع والمناصب والثّروات والأولاد والعشيرة.
وفي تفسيرها، يقول سماحة المرجع السيّد محمَّد حسين فضل الله(رض): "{إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا}، الَّذي يوحي بالهول العظيم، لأنّ الأرض في سهولها وجبالها، ترتجف وتتصدّع وتتساقط، وتفقد كلّ أثر للتماسك".
إنّه الزلزال العظيم الّذي يفتتح مرحلة ما قبل يوم القيامة والبعث، وقد تحدَّث الله تعالى عن هذه الواقعة العظيمة، بالنّظر إلى أهميّة ما يستتبعها من أمر القيامة والحساب، وما يتعلّق بذلك من مشاهد وأهوال.
ويضيف سماحته: "{وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} المخزونة فيها، مما يثقل بطنها، سواءٌ من ذلك، الناس الموتى المدفونون فيها، أو الأشياء الأخرى من المعادن والكنوز المخبوءة في داخلها".
منظر مدهش يعبّر عن عظمة الخالق وعلمه وقدرته على حفظ كلّ ما تطويه الأرض في باطنها، وهو الخبير بخلقه، العالم بصنعه، ولا تخفى عليه خافية، فإذا جاء أمره، أظهر قدرته، وأخرجت الأرض ما فيها من ودائع أمم وشعوب كانت يوماً ما فوق سطح البسيطة، وانتسى ذكرها، وأودعت باطن الأرض، واليوم، تخرج إلى يوم بعثها المكتوب، حيث يقيم الله تعالى موازين القسط ليوم القيامة.
ويتابع سماحته: "{وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا}، ما لهذه الأرض ترتجف وتهتزّ، فلا يتماسك منها شيء؟! إنّه المنظر الهائل الّذي لم يسبق له مثيل.. وتنطلق علامات الاستفهام الخائفة المذعورة الّتي تبحث عن جوابٍ ـ أيّ جواب ـ يفسّر الحدث الكبير، من خلال آفاق المعرفة الّتي تتناول تفسير الأمور من الوجهة الماديّة في مفردات الواقع. ولكنّ الجواب ينطلق من الأرض نفسها، فيما تطلق من أخبارها".
هنا، الصّدمة الكبرى عندما يعود الإنسان بقدرة الله إلى الحياة مرّة أخرى، ويرى ما يجري من أمر عظيم للأرض، فيثير في نفسه الاستفهام الّذي يخفي خوفه الشّديد، فاليوم، يقف أمام الامتحان الإلهي، وتحديد المصير، واليوم، هو في الفزع الأكبر حيث ينجيه عمله، ولا يستطيع أحد، أيّاً كان، أن ينجيه.
ويقول المرجع فضل الله: "{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}، ولكن كيف هو الحديث؟ هل هو صوتٌ ناطقٌ، أم هو استعارةٌ للحديث المتمثّل بحركة الصّورة في الحسّ الّتي توحي بالصّورة في الذّهن، من خلال الدّلالات أو الإيحاءات.
وهكذا، يمكن أن يكون المعنى أنّ أخبار الأرض تتحدّث عن هذا الحدث الكوني الهائل العظيم، بأنّه لا يصدر عن أسباب طبيعيّة، كالتي اعتادها الإنسان في الظواهر الكونيّة العاديّة، بل يصدر عن إرادة الله بشكل مباشر، فهي تقول: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} وحياً تكوينيّاً، بأن تخضع لإرادته في زلزالها الّذي يشمل كلّ مواقعها، وفي إخراج أثقالها منها، لأنّ القيامة قد قامت، ولأنّ ساعة الحساب قد جاءت، ولأنّ الناس مدعوّون إلى الوقوف بين يدي الله".
ويضيف: "{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} متفرّقين، لا تجمعهم وحدةٌ مما كانوا يجتمعون عليه في الدّنيا، لأنّ الموقف دقيق، وقد أخذ من عقولهم ومشاعرهم كلّ مأخذٍ.
{لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ} في ما يعرض عليهم منها في كتاب الأعمال، لأنّ الإنسان مربوطٌ بعمله، فالعمل هو صورة المصير، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} من خيرٍ، {خَيْراً يَرَهُ} في ما يتمثّل به خير الآخرة من رضوان الله ونعيمه في جنته، {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} من شرّ، {شَرّاً يَرَهُ} في ما يتمثّل به شرّ الآخرة من غضب الله وعذابه في نار جهنّم". [تفسير "من وحي القرآن"، ج 24، ص 368 ـ 371]
في كلّ ذلك، دعوة للإنسان إلى أن يجعل الخير متجسّداً في كلّ نبضات شعوره، وفي كلّ حركة فكره ونتاجه، ليمارس الخير في دائرة العمل المنتج الّذي ينفع به عيال الله في كلّ ساحات الحياة، وأن يبتعد عن الشّرّ، ويواجهه بكلّ وعيٍ وحكمةٍ وصحوة ضمير وعقل، لأنّ الشّرّ يسقطه، ويجعله ينحرف عن خطّ الله، وهو ما يؤدّي به إلى الخسران العظيم يوم القيامة، عندما يلقى جزاءه المحتوم.
ولا بدَّ لنا من أن نجعل من أعمالنا الميزان القيميّ، فنحسن تلك الأعمال في خطّ الله والخير والبرّ، ونحميها من كلّ أذى، فبذلك نصنع مصيرنا ونصنع آخرتنا، حيث يرفعنا الله بالعمل الصّالح فقط.
واليوم، وفي كلّ آن، لا بدَّ من التنبّه والالتفات إلى أمر البعث والقيامة، وأن نتهيّأ لذلك، ونعدّ العدّة الصالحة لمواجهة الحساب، فلا يعقل أن نحمل في قلوبنا الحقد والغلّ والبغضاء، أو أن نفكّر بجهل وتخلّف وعبثيّة، ونستغرق في الأهواء والمصالح والحسابات، ولا نعي ما ينتظرنا في مصيرنا المحتوم.
ما علينا سوى الصّحوة من الغفلة الكبرى، لننقذ مصيرنا الّذي نصنعه جميعاً بأعمالنا، التي لا تغيب عن الله تعالى فيها ذرّة من خير أو شرّ.