نبقى مع الآية 37 من سورة البقرة المباركة: {
فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}، لنطلَّ من خلال قصَّة النبيّ آدم(ع) على مفهوم التَّوبة ومدلولها في حياة البشر، فهي محطَّة للاندفاع من جديد نحو الباري تعالى، والارتفاع إليه بروحٍ خاشعةٍ خاضعةٍ لقدرته ومشيئته، وبقلبٍ نابضٍ بالحسرة والنَّدامة على ما فاته من العمل والثَّواب والأجر، وبلسانٍ صادقٍ ناطقٍ بالتَّوبة المخلصة.
وثمن كلِّ ذلك، التعهّد بالاستزادة من الصَّالحات، عبر تصحيح المسيرة بمواجهة كلِّ الضّغوطات والأهواء والنّزوات والشّهوات، فلا نتقرّب من أصحاب المشاريع المشبوهة والمنحرفة، ولا نتبع من يريد شراء العقول والنّفوس، ولا نبيع ضمائرنا لمن يريد تجهيلها وإبقاءها أسيرة جهلها وسطحيَّتها.
فالتّوبة مشروع متكامل الخطى والأهداف، يتحقّق بالعزيمة الرّاسخة على الرجوع إلى الله، من خلال العودة إلى طاعته، وتغيير الموقف والحركة من السَّلب والجمود، إلى الإيجاب والفعل المنتج والمؤثّر في الواقع؛ هذا الرّجوع الَّذي تحكمه الفطرة الصّافية الّتي تتحرَّك في خطّ تأكيد القيمة والمضمون المعرفي الّذي يعيد إنتاج إنسانٍ واعٍ ومبدعٍ.
نتعلَّم من قصَّة آدم(ع) كيف نعود إلى الله بتوبةٍ مخلصة، ونرجع إليه نادمين عن آثامنا، ونجدِّد العهد معه، ونرتفع إليه بخشوع الرّوح والجوارح، ونخضع لإرادته، ونحرّك حبَّه في قلوبنا النابضة بالحسرة والنّدامة على ما فاتنا، ونطلق ألسنتنا لتلهج بذكره الَّذي يفتح آفاقنا على الحقّ والحقيقة.. ونعزم على تصحيح أوضاعنا، وعدم الانسياق وراء أهوائنا ومصالحنا وحساباتنا الضيِّقة، ونسير في خطِّ المعرفة والعلم، ونرتشف من مصادرهما الصَّافية، ما يجعل منّا أناساً منفتحين مبدعين، يتحركون في درب المسؤوليَّة والعطاء النافع.
وعن مدلول التَّوبة في حياة الإنسان، وبالعودة إلى تفسير الآية المباركة، يقول العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض):
"{فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}. لعلَّ في هذه الآية بعض الدَّلالة على أنَّ الموقف كلَّه في قضيَّة آدم كان تدريباً من أجل أن يعي الإنسان في مستقبل حياته، كيف تتحرَّك الخطيئة في نفسه، وكيف تدفعه بعيداً عن الله.
فقد عالجت هذه الآية قضيَّة التّوبة، ووضعتها في نطاق الأشياء المتلقَّاة من الله، ما يوحي بأنَّ آدم لا يحمل أيّ فكرةٍ فطريّةٍ عنها، فكان الإيحاء والإلهام من الله من أجل أن يتعلَّم كيف يتراجع عن الخطأ، فلا يستمرّ عليه.
أمّا طبيعة الكلمات، فقد اختلف المفسِّرون فيها، ولكنّ الأقرب إلى الذّهن، هو ما حدَّثنا عنه القرآن في سورة الأعراف في قوله تعالى: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف: 23]. إنّه الشّعور العميق بطبيعة الخطأ، وعلاقته بنفس الخاطئ وحياته، وانعكاساته على قضيَّة مصيره، فليست القضيّة متّصلة بالله، باعتبارها شيئاً يسيء إليه أو يمسّ سلطانه، ولكنَّها متَّصلة بالموقف الإنسانيّ من الله بقدر علاقة الإنسان بموقفه من مصلحة نفسه، ما يجعل من بقاء الذّنب في موقعه، خسارةً كبيرةً للإنسان في الدّنيا والآخرة، ويكون طلب المغفرة والرّحمة منطلقاً من الرّفض الكبير للمصير الخاسر، فلا خسارة أعظم من خسارة الإنسان في علاقة القرب بالله، لأنَّه يخسر بذلك امتداده الإنسانيّ في الطَّريق المستقيم".[تفسير من وحي القرآن، ج 1، ص 268].
ولتوضيح توبة آدم والكلمات الّتي تشير إلى ذلك، نجد الاعتراف الصَّادق من النَّفس المقرَّة بمخالفة الأمر الإلهيّ الإرشاديّ، ونجد روحيَّة الإنسان المؤمن بالله التَّائب عن ذنبه، المعاهِد لربّه أن يعود إلى خطِّ الطّاعة والرّضوان، وإلى خطِّ المسؤوليَّة في مواجهة التحدّيات بكلِّ وعيٍ ومسؤوليَّة.
وعن هذا المعنى، يقول المرجع السيِّد فضل الله(رض): "{قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}، بما أخطأنا وما خالفنا، لأنَّنا لم نتصوَّر أنَّ هناك مخلوقاً يغشّ ويخدع، أو يكذب ويخون، فنحن لم نخض تجربةً مماثلةً سابقةً في حياتنا، أو في حياة مخلوقات أخرى، فاستسلمنا للخداع بطيبة قلبٍ، وغفلنا عن كلِّ النَّتائج السلبيَّة من جرَّاء ذلك.
وتلك هي روحيَّة الإنسان المؤمن في حال الاعتراف النَّادم على الذّنب أمام الله، من أجل مواجهة الموقف بالتّوبة للحصول على المغفرة والرَّحمة، {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، الَّذين خسروا أنفسهم بفقدانهم لرحمة الله ومغفرته ورضوانه، وهذا ما لا تقوم السَّموات والأرض، فكيف بالإنسان الضَّعيف الذّليل الفقير المسكين المستكين؟! وغفر الله لهما وتاب عليهما، ولكنّه أمرهما بالخروج من الجنَّة، كما أمر إبليس بالخروج منها، لأنّهما عصياه كما عصاه، وإن كان الفرق بينهما أنّه ظلَّ مصرّاً على المعصية ولم يتُب، فلم يغفر له الله، بينما وقف آدم وزوجته في موقف التّوبة فغفر لهما". [تفسير من وحي القرآن، ج 10، ص 57، 58].
نتعلّم من توبة آدم(ع) كيف نكون المنطلقين إلى تكريس التَّوبة في حياتنا، بألاّ نصرّ على الذّنوب، بل أن نتذكَّر أنَّ مساحة العمر قصيرة، فنبادر إلى اغتنام الزّمن، ونحوّله إلى مساحة للتّوبة المخلصة، كي نسمو إلى الله ونرتفع إليه بقلوبٍ خاشعة وأرواحٍ خاضعة وإرادة حرّة واعية، ونتعلَّم كيف نرجع إليه، وقد جدَّدنا العهد على أن نعمل على تصحيح كلِّ أوضاعنا الخاصَّة والعامَّة، بما ينسجم مع خطِّ الله وحدوده.
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.